تصدير التلفزيون!

محمد موسى

يمكن الآن، وبفضل التكنولوجيا التلفزيونية الرقمية المتطورة والأمكانيات التي تقدمها شبكة الانترنيت، لمشاهد التلفزيون العربي المهتم من الاطلاع على “نسخ” اجنبية متعددة لبعض البرامج التلفزيونية التي تعرض على شاشاته العربية المفضلة. بل يمكن الوصول الى النسخ الاصلية لهذه البرامج، والتي جذب نجاحها الاول في بلدانها، منتجو تلفزيون حول العالم، لتقديم نسخ محلية من هذه البرامج، على أمل تحقيق النجاح ذاته.

واذا كانت معظم القنوات التلفزيونية العربية والتي بدأت منذ سنوات بشراء حقوق برامج عالمية، اتجهت الى شراء حقوق “تعريب” برامج تلفزيون الواقع وبرامج اكتشاف المواهب. بقيت معظمها بعيدة عن مسلسلات الكوميديا او الدراما لاسباب تتعلق بالمصاعب الانتاجية التي تحيط بعمليات اعادة انتاج مسلسلات كاملة، يبقى النجاح فيها غير مضمون بالمرة، لاعتبارات تتعلق بالكتابة التلفزيونية المبتكرة، والتي تشترطه اعادة تقديم هذه المسلسلات، والتي تمثل احدى المشاكل الكبيرة لصناعة مسلسلات الدراما او الكوميديا في العالم العربي.

من هنا يكتسب الفيلم الامريكي التسجيلي (تصدير رايمون) والذي عرض في الولايات المتحدة الامريكية في العام الماضي، وعرضته احدى القنوات الهولندية مؤخرا، اهمية كبيرة لصناع التلفزيون حول العالم. فالفيلم يكشف المراحل المعقدة لاعادة تقديم مسلسل كوميدي امريكي، نجح بشكل باهر حول العالم، الى الجمهور الروسي، وبنجوم ومواضيع محلية. ومع الجانب المتخصص الذي يقدمه الفيلم، والذي يتوجه الى “أهل المهنة” من العاملين في صناعة برامج التلفزيون، يقدم الفيلم كثير من الكوميديا المسلية، كذلك يسعى للاقتراب من روسيا الحديثة، فيقدمها كبلد منهكة، تحاول اللحاق بالعالم، من دون ان تتخلص تماما من تركة ماضيها، كبلد كان يشارك الولايات المتحدة الامريكية الهمينة على العالم. قبل ان تجتاحه التغييرات، ليتحول الى مستهلك للماكنة الاعلامية الامريكية.

يكشف الفيلم، الشروط التي تضعها القنوات التلفزيونية لمنح حقوق تقديم برامجها بلغات اخرى. فسياسية القنوات البعيدة الاجل، تجعلها تتدخل في كل تفاصيل اعادة الانتاج هذه، للحفاظ اولا على سمعة برامجها التي سيعاد تقديمها، وايضا لضمان نجاح البرامج والمسلسلات تلك، على امل ان تستمر في مواسم قادمة، وما يعنيه ذلك من اموال اضافية للقنوات الاصلية. فقناة (سي بي أس) المنتجة لمسلسل ( الكل يحب رايمون) ،موضوع الفيلم التسجيلي، توفد فريق كامل الى العاصمة الروسية موسكو من اجل الاشراف على كل المراحل الانتاجية لاعادة تقديم باللغة الروسية، من عمليات إختيار النجوم الى تصوير الحلقة التجريبة من المسلسل.

يرافق مبتكر مسلسل ( الكل يحب رايمون) فيليب روزنتهال (اخرج الفيلم التسجيلي ايضا)  فريق قناة (سي بي أس) التلفزيونية الامريكية الى مدينة موسكو. وهو الذي سيحظى بالاهتمام الاكبر في الفيلم التسجيلي، بسبب علاقته الخاصة بالمسلسل، الذي كان نجاحه الاول في عالم التلفزيون. لذلك سنراه وهو يتدخل في عديد من التفاصيل الصغيرة، ويجتهد كثيرا لكي ينقل الاسباب التي تقف وراء نجاح المسلسل الاصلي الى منتجيين روس يفكرون بسوق محلية تشترط كوميديا قريبة من روح المجتمع الروسي وتناقضاته ، لكنها تخضع في الوقت نفسه لضغوطات ايجاد النصوص الجيدة ، واغراء الاستفادة من نجاحات الغير التلفزيونية .

وكانت اولى معضلات العمل الامريكي الروسي المشترك، هو اعادة تقديم العلاقات الخاصة بين ابطال المسلسل الكوميدي الامريكي الناجح ( عرض بين عامي 1996 و 2005 )، والتي هي اساسية للكوميديا التي يقوم عليها بناء المسلسل، الى جمهور روسي مختلف بمرجعياته وتركيبتة الاجتماعية والاخلاقية. هذه المعضلة تقود الى سؤال الكوميديا المعقد. لماذا نضحك على موقف ما ؟ وهل نضحك على الاشياء نفسها ؟ وعن مدى تقبلنا للفكاهة القادمة من ثقافة مختلفة، والاستقبال المختلف للكوميديا التي تصدر من بلداننا وبلغاتنا الاصلية؟. لا يجيب الفيلم على كل هذه الاسئلة. لكنه يصل الى خلاصات بان عمل مشترك بهذا التعقيد يحتاج الى تنازلات وتفهم من الجميع. وان النتائج لن ترضي الاطراف المشتركة بشكل كامل.

تحت سطح “العمل التلفزيوني” المشترك، يشاكس فيلم (تصدير رايمون) ماضي العلاقات الامريكية الروسية، ويعرض، دون تشفي، حال “روسيا” اليوم، فاستديوهات السينما الروسية العريقة، تحولت الى انقاض، تهمين عليها قنوات تلفزيونية تجارية  روسية، يديرها رجال اعمال، مشغولون بالارباح التجارية. وموسكو كما يقدمها الفيلم، مدينة عليلة، يغيب عنها الامن، فالزائر المهم يحتاج الى شركات امنية متخصصة ترافقه في سفرته. وإلا سيتعرض الى الجريمة التي تفتك بالبلد منذ سنوات.

رغم كل العقبات الجدية التي كادت ان توقف العمل المشترك، تنجح قناة تلفزيونية روسية في انتاج موسم من مسلسل ( الكل يحب رايمون) والذي عرض في عام 2009، ليتسلق مباشرة مجموعة افضل المسلسلات الكوميدية مشاهدة في روسيا، مع خطط لانتاج مواسم قادمة من المسلسل.

ينتهي الفيلم التسجيلي بلقطات من النسخة الروسية الناجحة من المسلسل الامريكي. بالابطال الروس(والذين شاهدناهم مرارا يصلون متعبين وبلا بهجة الى الاستديو القديم في موسكو من اجل تمارين جديدة) وهو يقدمون الكوميديا الصاخبة. انها قصة المهرج مرة اخرى، الذي يمنح الضحكات من قلبه الحزين. لكن الحزن ليس في قلب المهرج وحده هذه المرة، هو يتربع ايضا ، وكما شاهدنا في الفيلم التسجيلي ، في حياة جمهوره والمدينة والبلد الكبير.


إعلان