الشرق الأوسط: ما تستطيعه السينما

لا يسع المشاهد إلا الاستغراب تارة، والابتسام تارة أخرى، والاستنكار على طول الخط وهو يتابع “صيدون” أو صيدا. ذا الفيلم الوثائقي الذي حققه اللبناني ميشيل أبي خليل عام 2010 مذهل بحسب تعبير من الذين استطلعت آرائهم وقالوا أنهم يتحدثون بصراحة، ذلك إذا استطعنا إطلاق صفة الصراحة على أقوالهم، وليس صفة أخرى لها علاقة مثلا بالعنصرية الفجة أو بالتعجرف الفارغ أو الشعور المضخَم بتفوق الذات…يسجل الشريط حكاية زوجين غير عاديين في لبنان، “مجدي” الشاب اللبناني  و “لي زايدة” الصانعة الفيليبينية، ويستطلع بخصوصهما مواقف أهل القرية. زواج” استثنائي”، على الأقل لنجاحه في توحيد آراء السكان لمرة في تاريخ القرية. الشاب أحب خادمته الفيليبينية وتزوجها برضا والدته، وجد فيها ما لم يجده في اللبنانية” الفهم والجوهر والثقافة”، لا تعجبه أخلاق اللبنانية التي  تتعلق “بالأشياء التافهة”. لكن الضيعة قامت ولم تقعد” ما لقي غيرها؟!” كان رأي الجميع. وفيما تساءلت إحداهن (ومعظم المستطلعات كنَ من النساء)” لم الزواج من أجنبية؟”، أبدت أخرى استعدادها للقبول بهذا الأمر “لو كانت العروس غير هذه، كأن تكون أمريكية مثلا”. وفيما أعربت واحدة عن لا مبالاتها وعدم رغبتها حتى بالكلام عن هذا “الشيء” الذي” لا يعني لها شيئا”، تنازلت أخرى لإبداء رأيها بالفتاة الخادمة ” ليست منا وما بريد أعرفها، ولا يشرفني هذا”. في واقع كهذا، حتى الميزة تتحول إلى مدعاة للاستهزاء والسخرية، فالفيليبينية التي يعجب زوجها بنشاطها واهتمامها ببيتها، يرى الآخرون أنها”كانت تشتغل في بيوت العالم أفلا تشتغل في بيتها؟!”.
 الشريط وثيقة عن هذه العنصرية البغيضة عنوانها “لا أطيق جنسهم”، التي يظن الآخر أنها متبادلة “هم أيضا لا يطيقوننا”. ولعل المخرج رغب بإظهار أن” العنصرية” هي في النهاية شعور كامن حتى في أعماق هؤلاء الذين يتعرضون لها، وهي ليست قاصرة على اللبنانيين، فحين سأل الفيليبينية في الختام عن رأيها في سود البشرة، أجابت ضاحكة “لا نستطيع رؤيتهم في الليل”! ثم بصراحة” لا أحبهم”! المدهش في الفيلم قد لا يكون العنصرية في حد ذاتها بقدر ما هو عدم الشعور بالحياء من هكذا إحساس والإدلاء به دون ارتباك أو تردد.
كلنا للوطن!

في شريط لبناني آخر “كلنا للوطن”، الذي حققته اللبنانية كارول منصور هذا العام، ينشدَ المتفرج من اللحظة الأولى إلى هذا الوثائقي الأول من نوعه حول موضوع حساس، يتعلق بعدم منح الأم اللبنانية جنسيتها لزوجها وأطفالها وكأن الارتباط بالأرض وبالوطن هو حق ذكوري أبوي محض. بالنماذج المتعددة والشاملة التي قدمها، والتي استطاعت التعبير عن معاناتها بصدق وعفوية، وبأسلوب الإخراج السلس ينجح الفيلم في إيصال رسالته والتعريف بأوضاع أسر وحقوق المواطنة الممنوعة عنها، كما الوضع القانوني الهش الذي يجعلها مهددة باستمرار بتغيير حياتها، أمكنتها… أسر لا تستطيع تسجيل أولادها في المدارس الرسمية، مشغولة البال على الدوام بوضعها المؤقت بتجديد أوراق الإقامة.. بمحاولة اثبات انتمائها لوطنها كهذا “البطل” الرياضي الذي يسمحون له بأن يغدو “لبنانيا” فقط حين يفوز بالجوائز والأوسمة، وهذا الفارس الصغير الذي لا يستطيع تمثيل لبنان في البطولات لأن والده أجنبي. تورد المخرجة كذلك حالات لأسر تعيش خارج لبنان لكن ذلك لا يمنعها من الشعور بالحرمان من الجنسية. على سبيل المثال تلك اللبنانية المطلقة (من أجنبي) التي تقطن في كندا  والتي لا ترغب لابنتها أن تعيش كأجنبية في لبنان، هي التي تشربت حبه والانتماء إليه رغم البعد. أزواج وأبناء يشعرون بالغربة في هذا الوطن الذي لا يمنحهم هويته ولا اعترافه.

لا نبتعد عن الاجتماعي مع العراقي عامر علوان الذي يحاول مقاربة البعد النفسي والاجتماعي للغزو الأمريكي للعراق وتقديم وجهة نظر عراقية سينمائية في الوجود الأمريكي، وجهة نظر إنسانية وذلك من خلال تتبع جندي أمريكي عائد من العراق إلى نيويورك. في ” وداعا  يا بابل” السرجنت أوفاريل الذي وصل إلى بابل في مهمة لثلاث سنوات، مقتنع تماما بالهدف “التحريري” للوجود الأمريكي، واثق من رغبة حكومته بحماية البلد من الإرهاب، بيد أنه سرعان ما يدرك هناك الأسباب غير المعترف بها للغزو ليشعر في النهاية بأن لا مكان في العالم يريد الذهاب إليه سوى بيته وعائلته.

وداعا بابل

لكن الجندي يحكم بإيجابية تجربته العراقية ويعيد ذلك إلى علاقة الصداقة والمودة التي جمعته مع مترجمه العراقي والتي كان لها أكبر الأثر في نظرته تلك. لقد شعر بالتواصل مع الناس مع هذه الحضارة ورأى ملامح أخرى من العراق. ولم يتصرف، من وجهة نظره، كمحتل بل كمساعد للشعب. “ثمة القليل من الجنود من يستطيع قول هذا عن تجربته العراقية” كما يعترف. فيلم علوان لم يقدم بطلا ولا شريرا بل أمريكيا بسيطا لم يذهب بعيدا في تساؤلاته وصراحته كما فعل اثنان آخران من زملائه لم يترددا في انتقاد الغزو و زيف ادعاءاته.
تلك الأفلام ومعها أخرى تجاوزت الخمسين، عرضت على مدى أسبوعين في تظاهرة باريسية. واحدة من بين عدة تظاهرات أخرى تكرس للسينما العربية، وللشرق أوسطية. تنظمها جمعيات تهتم باكتشاف الغنى السينمائي لهذه المنطقة وتسعى لحوار ثقافي يتم عبر السينما واللقاءات التي تتبعها بين الضيوف من سينمائيين وصحافيين وباحثين من جهة وبين الجمهور.
” الشرق الأوسط: ما تستطيعه السينما…”كان عنوان التظاهرة التي عرضت أفلاما وثائقية في معظمها، جاءت من لبنان والعراق وفلسطين ومصر وسوريا وإيران كما بعض الأفلام الإسرائيلية. أهديت التظاهرة إلى” أحد الوجوه الكبرى في السينما العربية، المخرج  الكبير والرجل ذو الشجاعة الاستثنائية”: عمر أميرلاي. كذلك إلى جوليانو خميس الفنان والناشط من أجل السلام في فلسطين، الذي اغتيل في سيارته هذا العام.
وبالطبع لم تغب أفلام  الربيع العربي عن التظاهرة.


إعلان