“داخل نيويورك تايمز”.. كفاح الصحيفة العريقة لمواكبة العصر الإلكتروني
من قلب واحدة من أشهر الصحف في العالم، يسعى الفيلم الوثائقي “الصفحة الأولى.. داخل النيويورك تايمز” (Page One: Inside the New York Times)، إلى استشراف ملامح مستقبل الإعلام المكتوب، لكنه لا يتماهى كثيرا مع الجدال المستمر منذ عقد تقريبا، حول نهاية الصحف الورقية الوشيك، فهذا قد أضحى نقاشا قديما.
يعي الفيلم زمنه الحالي، وينطلق منه ليطرح أسئلة عن الإعلام المكتوب بمجمله، سواء ذلك الذي ينشر في الصحف الورقية أو على شبكة الإنترنت، وكيف ستكون سمات هذا الإعلام، إذا انتهى النموذج الصحفي الجاد الذي يمثله خير تمثيل ما ينشر يوميا منذ أكثر من مئة عام، على صفحات جريدة النيويورك تايمز الأمريكية.
نهاية عصر الصحافة الورقية.. إرهاصات المستقبل
عُرض الفيلم في مهرجان “إدفا” للفيلم الوثائقي في العاصمة الهولندية أمستردام، وجال بين عدة مهرجانات سينمائية حول العالم، وهو يثير أسئلة عن ندرة الأفلام الوثائقية التي اهتمت بحال ومستقبل الصحافة الورقية مثلا.
خاصة أن العقد الأخير شهد نهاية عدد من الصحف والمجلات، وكان يمكن أن يوفر ذلك ميدان عمل مثاليا لمخرجين يربطون الظاهرة الإعلامية/ الاقتصادية بالقصص الشخصية الإنسانية لمنتجي هذه الصحافة أو جمهورها.
ربما يكمن الجواب في فيلم “الصفحة الأولى.. داخل النيويورك تايمز”، فطبيعة الأفلام الوثائقية الحقيقية الاستقصائية، لا تختلف عن طبيعة الصحافة ذاتها، الأمر الذي يعد عملا مشتركا بين هذين الاتجاهين من الصحافة. فشخصيات الفيلم هم من الصحفيين والصحفيات الذين قضى بعضهم عقودا طويلة في تقصي الحقائق بكل الطرق الممكنة، وقد خبروا كل خفايا العملية الصحفية، لذلك نراهم يتعاملون بحذر قليل وتعالٍ أحيانا مع مشروع الفيلم، ولا يمنحون ذواتهم بالكامل لكاميرا المخرج.
قلعة الصحافة.. صراع الجيل الحديث مع الحرس القديم
يقضي مخرج الفيلم الأمريكي “أندرو روسي” عاما كاملا بين أروقة مكاتب صحيفة النيويورك تايمز في مدينة نيويورك، لكنه سيركز كثيرا على قسم الإعلام في الصحيفة، وعلى صحفيين من هذا القسم هما “ديفيد كار” الخمسيني الذي انضم إلى الجريدة في عمر متأخر، بعد حياة حافلة بالمحطات الصعبة، من إدمان على المخدرات وحتى السجن. والآخر “برايان ستلتير” الشاب الذي جذب بنجاح مدونته الإخبارية البسيطة على شبكة الإنترنت، ونشاطه على شبكات الإعلام الاجتماعي، إدارةَ الجريدة، لتعرض عليه وظيفة في قسم الإعلام هناك.

لا شك أن اختيارات الفيلم لهاتين الشخصيتين، لها دلالاتها الواضحة، فأحدهما صحفي من العصر القديم، كان يرفض حتى مع بدء تصوير الفيلم فتح حساب على موقع (تويتر). وأما الآخر فهو من جيل الشباب الذي يسخر سرا من نظم العمل القديمة، ويجد صعوبة كبيرة في تقبل أي زميل لا يقوم بالاطلاع على الفايسبوك وتويتر كل خمس دقائق.
إنه صراع بين جيلين إذن، وتميل كفته بالكامل لجيل الشباب الذي وجد قنواته الإعلامية الخاصة، ومن المستحيل أن يكتفي بما يوفره الماضي من وسائط إعلامية. كذلك كان اختيار الفيلم لقسم الإعلام في الجريدة وتسليط الانتباه على عمله اليومي لعام كامل، يرتبط بالرغبة لرصد التطورات في المشهد الإعلامي الأمريكي والعالمي، وكيف ينظر لها قسم إعلام في جريدة تقليدية.
“ويكيليكس”.. تعاون يضع سمعة الجريدة على المحك
لن يكون العام الذي يقضيه فريق الفيلم الوثائقي في مطبخ الأخبار في الصحيفة الأمريكية عاديا أبدا، ففي منتصفه يبدأ موقع “ويكيليكس” ثورته الإعلامية الأولى التي تعاون فيها مع صحف عريقة مثل النيويورك تايمز للوصول إلى جمهور واسع.
ينقل الفيلم حيرة إدارة تحرير الجريدة أمام خطورة المعلومات التي كشفها “ويكيليكس”، وكيف يمكن تعريف العمل المشترك بين الصحيفة وموقع كشف الوثائق الشهير. فهل هو تعاون بين مؤسستين للصحافة، أم أن موقع “ويكيليكس” لا يتعدى أن يكون مصدرا للأخبار لنيويورك تايمز.
هذه الأسئلة أرقت إدارة الجريدة، لان أجوبتها تعني الكثير لهذه الصحيفة الأمريكية التي لا ترغب أبدا بالمغامرة بمهنيتها.
فحين سرب موقع “ويكيليكس” مقطع فيديو لجنود أمريكيين يطلقون النار من طائرة هليكوبتر على مدنيين عراقيين في العاصمة العراقية بغداد، قامت الصحيفة بالإشارة له في صفحتها الأولى، وقد خضع لنقاشات طويلة، نقل بعضَها الفيلمُ الوثائقي. خاصة بعد الكشف عن نسخة طويلة من المقطع ذاته، ويبين أن واحدا من الذين أصابتهم طلقات الجيش الأمريكي، كان يحمل أسلحة يدوية.
حافة الإفلاس.. عام من المطبات ينقذه الموقع الإلكتروني
العام الذي غطاه فيلم “الصفحة الأولى.. داخل النيويورك تايمز” من عمر الجريدة، هو نفسه عام الاهتزازات الاقتصادية التي زادت من ضبابية المستقبل، فقبل بداية التصوير بأشهر نشرت صحف ومواقع أمريكية بأن النيويورك تايمز قريبة من الإعلان عن إفلاسها.
وقد نفى المديرون في الجريدة بشدة كل ذلك حين تحدثوا للمخرج، لكنهم في الوقت ذاته اعترفوا بانخفاض كبير لعوائد الإعلانات في الصحيفة، وهو ما دفع الإدارة إلى تسريح عدد من موظفيها، لكن انخفاض العائدات تقابله زيادة في أعداد متصفحي موقع الجريدة على شبكة الإنترنت، إذ يقترب من 18 مليون متصفح يوميا.
لكن هذا العدد الهائل في عرف الصحافة الإلكترونية ما زال عاجزا عن تحصيل إعلانات كافية للموقع على شبكة الإنترنت، لتعوض ما فقدته الصحيفة الورقية. إنه إذن زمن قصير حاسم بين حقبتين تاريخيتين؛ ما يبدو أنه نهاية الصحف الورقية التقليدية، وبداية لأخرى تصل إلى جمهورها عبر الشبكة العنكبوتية.
مواقع الإنترنت.. متطفلون يسرقون جهد الجرائد التقليدية
ينقل الفيلم كثيرا من الجدل الدائر عن مستقبل الصحافة الورقية في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ يقوم بتقديم مواد أرشيفية من الأعوام القليلة الماضية من مناظرات أكاديمية وأخرى تلفزيونية لمبشرين بنهاية الصحف الورقية الحتمي، وآخرين يشككون بجدية ما ينشر على مواقع الإنترنت الإلكترونية المستقلة التي لا تعود إلى مؤسسات إعلامية، مثل القنوات التلفزيونية والصحف الورقية.
في واحدة من تلك المناظرات، يُخرج “ديفيد كار” صفحةً ورقية مطبوعة لواجهة أحد المواقع الإخبارية الأمريكية الشهيرة، فتبدو الصفحةُ زاهيةً بالمقالات والعناوين المثيرة، وبعد ذلك يخرج صفحة ورقية وقد ثقب قسمها الأكبر. هذه هي واجهة الموقع إذا حذفت منها مقالات صحيفة النيويورك تايمز.

فالموقع الذي ذُكر في المناظرة -شأنه شأن كثير من مواقع الأخبار الإلكترونية- يعتمد بشكل كبير على الأخبار والتحقيقات التي تنشرها جريدة النيويورك تايمز، وما بقي من الصحف الأمريكية الجادة، ولا توجد حتى الآن تقاليد حقيقية لمعظم المواقع الإخبارية الإلكترونية، لإنتاج أخبارها الخاصة، بل إن غالبية تلك المواقع لا تستخدم مراسلين خاصين في مواقع الأحداث، كما تفعل الصحف الورقية الرصينة.
أسلوب التقرير.. نبش عالم الصحيفة وتجاهل العوالم الشخصية
يختار الفيلم أسلوب التقرير التلفزيوني العادي، عوضا عن التركيز على حالات أو شخصيات من قلب النيويورك تايمز المتعب والمشوش، متخذا من ذلك وسيلة لمقاربة الأفق المضبب للصحيفة.
فالمخرج يرجع إلى الأرشيف القديم والحديث من عمر الصحيفة، للحديث عن أزمات سابقة، وعن الطريق الذي قطعته النيويورك تايمز لتحقيق تلك السمعة المدوية، مضيعا فرصا عدة للبحث عن القيمة النفسية للصحيفة عند العاملين بها.
فالفيلم مثلا لا يتابع ما يحدث للصحفيات والصحفيين الذي تلقوا أثناء تصوير الفيلم خبر فصلهم من العمل، بل تبقى الكاميرا بعيدة فعليا ومجازيا عن تلك اللحظات المؤثرة، فنشاهد عن بعد مسؤولة قسم الوفيات في الجريدة، وهي تحمل أغراضها وتغادر مبنى الصحيفة في مدينة نيويورك، بعد عشرين عاما من الخدمة هناك.
حتى أن ذلك ينطبق على الشخصيتين الأساسيتين في الفيلم، فلا نكاد نتعرف على شخصية الصحفي الخمسيني، كما يعجز الفيلم عن استدراج الصحفي الشاب للحديث عن حياته وهواجسه الذاتية، أو تلك التي تخص المهنة التي يزاولها.