الفيلم الإسرائيلي “الشرطي” عنف الدولة وعنف الفرد
لا يؤمن المخرج الإسرائيلي لنداف لبيد بالناس “الفائقي الهدوء في وسط فائق العنف”، ويعتبر أن كون المرء إسرائيليا يجعله في “حرب على الدوام”. تصريحاته هذه أدلى بها لجمهور مهرجان القارات الثلاث السينمائي الدولي. هي الدورة الثالثة والثلاثين لهذا المهرجان الذي يقدم أفلاما من آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، ويُنظَم سنويا في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر في مدينة نانت الواقعة غرب فرنسا والقريبة من شواطئ الأطلسي.
تضمنت المسابقة الرسمية للمهرجان عشرة افلام من الأرجنتين والبرازيل والصين(3) واليابان والفيليبين وسريلانكا وتايلند، ومن اسرائيل. من هذه الأخيرة جاء فيلم “الشرطي” لنداف لبيد. سيناريو الفيلم كان قد نال جائزة في مهرجان الفيلم في القدس والمخرج، الذي درس الفلسفة والتاريخ والسينما وعمل صحفيا وناقدا تلفزيونيا، أنجز قبل فيلمه الروائي الأول هذا أفلاما قصيرة عرضت في كان وبرلين.

ولد نداف لبيد في هذا البلد” الأحمق والقاسي” كما يقول الذي هو بلده، وتظهر نظرته المنتقدة تلك جلية في فيلمه الذي يتحدى المفاهيم السائدة، و”الحقائق” المفروضة. المخرج “يرفض الإملاءات” وكل ما يمكن اعتباره أمورا مفروغ منها، يعلن عن تضامنه مع القضية الفلسطينية، ويقول إنه يشعر بالانتماء إلى آسيا على العكس من مواطنيه الذين يتجهون بأحلامهم وخيالهم نحو أوربا. يقول عن عمله ” الشرطي” أنه فيلم إسرائيلي بامتياز”. لعل ذلك يعود إلى بنائه القائم على المجابهة والعنف. وهو عمل لا بد أنه اثار الجدل في بلده، ففي بادئ الأمر منعت لجنة الرقابة الفيلم لمن هم دون سن الثامنة عشر، إذ كان ثمة خوف من الأثر الذي قد يتركه العمل في نفوس الشباب، وهذا المنع كما صرح لجمهور المهرجان شيء “نادر جدا، وقاس جدا”. بيد أن المنع جُمَد فيما بعد لكنه لم يلغ. كتب لبيد الفيلم وأنجزه قبل المظاهرات التي استوحت “الربيع العربي” في إسرائيل، استخدم التعبير الفني وسيلة لانتقاد مجتمع تسيره هواجس أمنية وتتحكم فيه نزعات عدوانية، دون أن يغفل هذا التفاهم الخفي والارتباط القائم والمصالح المشتركة بين رجال الأمن ورجال المال.
يبدأ الفيلم بتقديم بطله الشرطي “يارون” الذي يشكل وفريقه المكون من خمسة أفراد في وحدة مكافحة الإرهاب في الشرطة الإسرائيلية مجموعة مترابطة متماسكة. يقضون أوقات العمل واللهو معا، يبدون قساة حتى في لهوهم وخشنين حتى في سلامهم، حركاتهم المعبرة عن سعادة باللقاء معا، لا تخلو من ضربة على الرأس أو على الكتف…
حين يتنقلون في أرجاء بلدهم ويتأملون مناظره، يرون فيه” أجمل بلد في العالم”، ويعتقدون أن واجب حمايته من تهديد خارجي، معلوم أو مجهول لا فرق، يقع على عاتقهم. يكرس السيناريو القسم الأول من الشريط للتعريف على هذه المجموعة، أفرادها، عملها، قضائها للوقت. بداية، في إيقاع بطيء يعتمد التكرار والتفصيل الممل أحيانا مركزا على ” يارون” الشخصية المحورية، وعلى الروابط التي تجمع بينه وزوجته من جهة وبينه وبين فريقه من أخرى.
يارون، يخشى على طفله القادم فيعتني بزوجته الحامل اعتناء شديدا و يحيطها برعاية خاصة كما لو كان ذلك جزءا من الرعاية الأشمل التي يحيط بلده بها. لكنها رعاية حنونة على تناقض صارخ مع خشونته وأحيانا قسوته في تعامله مع المجتمع الخارجي. ليست العدوانية فقط ما يميز أعضاء الفريق فهم عنصريون تجاه العرب، يرددون فيما بينهم الاهانات والسباب عندما يرون عربيا ولو من بعيد، “كابن الزنى” الذي تجرأ وأوقف سيارته قرب سيارتهم في الموقف العمومي. بعد تعريف الفيلم بالفرقة التي يدخل اغتيال “الارهابيين” ضمن مهماتها( ذكر منهم أيمن السرطاوي)، يبدأ أفراد مجموعة أخرى بالظهور ليسير بعدها الشريط في خطين متوازيين، بحيث يتابع تحركات كل فريق على حدة دون أن تكون ثمة روابط أو مشاهد مشتركة بين الشخصيات تجمع بينها وذلك حتى المشهد المأساوي الأخير.

الفريق الآخر مكون من شباب لا خبرة في الحياة لديهم ولكن لهم تصميم على فعل شيء ما يعبر عن تمردهم ورفضهم لهذا المجتمع، رفضهم لسلطة المال، لجدار الفصل والعيش كالحيوانات في ” دولة بشعة” تحكم فيها “أقلية من الأسياد مجموعة من العبيد” . إنهم من الشباب المتطرف الداعي إلى العنف في مواجهة العنف. يتدربون على استخدام السلاح ويدبرون خطة لأخذ رهائن من كبار رجال الأعمال. يريدون استغلال المناسبة لبث رسالتهم والتعبير عن أفكارهم وحركتهم عبر وسائل الإعلام. لكن فرقة مكافحة الإرهاب كانت لهم بالمرصاد.
حين يخترقون بأسلحتهم حفلا باذخا لعرس ابنة اقتصادي كبير، ويأخذون رهائن. لم يكن أحد ليشك فيهم، فهم ذوو سحنة غربية، شقر وتصحبهم فتاة جميلة شقراء، وحين يعرف أعضاء فرقة مكافحة الارهاب أن من سيكون أمامهم ليسوا من “الارهابيين” العرب، فإن مفاجأتهم لن تمنعهم من إطلاق النار دون شفقة لتخترق الرصاصات صدور الشباب الإسرائيلي المتمرد. فلا مزاح في مجال كهذا في دولة إسرائيل.
حين يتوقف يارون في النهاية متأملا هذه الأجساد المضرجة بدمائها، لاسيما الفتاة التي لم يتركوها تدلي برسالتها لوسائل الإعلام، يغادره رفاقه غير مبالين ويبقى هو متسمرا. لم يعلق، كأن المخرج رغب أن يقنع نفسه أن هؤلاء أيضا يمكن لهم أن يصدموا. فهل تغير في” الشرطي” شيئا؟!
كان بناء الشخصيات وإدراتها من قبل المخرج ركيزة أساسية منحت الفيلم قوته وتأثيره المدهش، شخصيات كان بعضها شرا مطلقا( من الفريق الأول) وبعضها الآخر تناوبت عليها مشاعر العنف والضعف أو التردد( فريق الشباب). لقد قدم المخرج الإسرائيلي فيلما صادما مدينا لعنصرية الدولة و لعدوانيتها، فيلما أصابت مشاهده الحاضرين بالذهول، لقدرتها على نقل رسالة الإدانة تلك. قد يكون منحهم الفيلم جائزة الجمهور، الجائزة الثالثة في المهرجان، تعبيرهم عن وصول الرسالة.