“أرخبيل الغولاغ” محنة المثقف في أزمنة الديكتاتورية

ناصر ونوس

“أرخبيل الغولاغ” عنوان رواية للكاتب السوفيتي ألكسندر سولجينتسين، تتحدث عن معسكرات الاعتقال في الإتحاد السوفييتي في الحقبة الممتدة ما بين عامي 1918 و1956. وكاتب الرواية كان واحداً ممن عاشوا تجربة تلك المعتقلات لمدة ثماني سنوات وخضعوا لشتى صنوف التعذيب في أقبيتها وساحاتها. والسؤال هو: كيف تمكن الكاتب من كتابة ونشر روايته هذه التي تستعيد تلك التجربة في ظل رقابة مشددة فرضها النظام الديكتاتوري القمعي آنذاك؟. هذا هو السؤال الذي يجيبنا عليه فيلم “سر أرخبيل الغولاغ” الذي عرض قبل فترة قصيرة على قناة الجزيرة الوثائقية.
يعود الفيلم لبداية القصة، أي عندما تم اعتقال الكاتب سولجينيتسن، الذي كان عسكرياً في الجيش السوفييتي، في شباط فبراير عام 1945 بعدما أبدى شكوكه في مقدرة ستالين العسكرية وذلك في رسالة أرسلها إلى أحد أصدقائه. وزج به في تلك المعتقلات لثماني سنوات اكتشف خلالها منظومة العقاب السوفيتية وخرج منها بكتاب تحت عنوان “يوم من حياة إيفان دينيسوفيتش”، وهو عن تجربة زميل له في تلك المعتقلات وعن أرخبيل الغولاغ بكامله. وقد نشر الكتاب في زمن الرئيس خروتشوف حيث شهدت البلاد حقبة من الانفراج والحرية بعد حقبة من الديكتاتورية والقمع خلال زمن الرئيس ستالين. وعند نشره لاقى الكتاب ترحيباً واسعاً على المستويين الشعبي والرسمي، وصل لدرجة أن خروتشوف استقبل في قصر الكرملين مؤلفه سولجينيتسن الذي كان قد حظي بشهرة واسعة. لكن هذا الكتاب لم يكن ليتحدث عن قضايا بالغة الأهمية، قضايا لم يكن يتجرأ أحد على التطرق إليها، مثل الرعب الذي واجهه عدد هائل من الروس الأبرياء واعتقال الملايين منهم خلال أربعين عاماً من عمر النظام السوفييتي، وتأسيس الغولاغ (الكلمة التي تعني الإدارة العامة للمعتقلات).
وهنا بدأت فكرة تأليف رواية عن تلك القضايا تراود سولجينيتسن، وذلك في عام 1958. وبما أن المادة لم تكن متوفرة لديه كان عليه أن يراسل من عاشوا تجارب الاعتقال. وهنا تمكن المؤلف من جمع المادة الكافية لتأليف مثل هذا الكتاب. لكن في عام 1964 تمت إزاحة خروتشوف واستبداله بليونيد بريجينيف، مما وضع نهاية لمرحلة الحرية التي تلت عهد ستالين. وكان على المؤلف مواصلة تأليف كتابه “أرخبيل الغولاغ” بسرية تامة. وهنا يتحدث سولجينيتسن عن تلك التجربة. لقد كان يدعو المجموعة التي كان يتواصل معها بشكل سري وتساعده في تأليف الكتاب بـ “المتخفين”. وكلهم عاشوا، وأحياناً هم وذويهم، تجربة معتقل الغولاغ. يبحث مخرج الفيلم عنهم ويلتقي بهم، ليتحدث كل منهم عن تجربة تأليف كتاب سولجينيتسن في الزمن الذي عادت فيه الممارسات القمعية إلى حياة الناس. من هؤلاء ناديا ليفيتسكايا التي تتحدث عن سبب مساعدتها لسولجينيتسن، وتقول إن السبب هو أن والدها الذي كان مختصاً شهيراً في علم الوراثة قد تم اعتقاله في عام 1941 ومات في السجن، بينما تم اعتقال والدتها بعد الحرب وذلك لأنها نجت من الاحتلال النازي. ومن ثم ماتت في أحد المعتقلات، بينما اتهم شقيقها في الدعاية لأفكار مناهضة للسوفييت وسجن في أحد المعتقلات لمدة ست سنوات، وكانت هي آخر من اعتقل في عائلتها. امرأة متخفية أخرى هي إلينا تشوخوفسكايا “كانت عماد العملية السرية برمتها”، تكشف عن جوانب من أساليب الحذر والحيطة التي اتبعوها لتأليف الكتاب. والتي تعبر عن درجة الخوف التي يعيشونها والتي كانت سائدة في المجتمع السوفييتي في تلك الفترة. فتقول إنها وزملاءها اتبعوا قواعد دقيقة جداً وضعها سولجينيتسن، منها أن لكل منهم اسم مستعار وسري، ولم يكونوا ينادوا بعضهم بعضاً بأسمائهم الحقيقية حتى داخل الشقة الواحدة، ولم يستخدموا الهاتف أبداً.

 

سولجينيتسن

ولم يكن سولجينيتسن يتطرق للحديث عن مؤلفه إطلاقاً، وعندما كان يريد إعلامهم بشيء كان يكتب ذلك على ورقة ويحرقها فيما بعد. كانت تلك الأساليب من الحذر ضرورية بعدما تم اعتقال اثنين من الكتاب هما يوري دانييل وأندريه سينيافسكي في أيلول سبتمبر من عام 1965. إذ اتهما بتهريب مؤلفاتهما إلى الغرب. وكان من المرجح أن يتم تفتيش شقة سولجينيتسن والعثور على مخطوطة الكتاب، وهنا كان لا بد من إخفائها. فاستطاع تهريبها إلى أستونيا عبر معتقل سابق من أصل أستوني هو جورج تينو، ليلتحق المؤلف بعد ذلك بمخطوطته في مزرعة منعزلة بعيدة عن أعين رجال المخابرات السوفييتية الكي جي بي، وتعود لمعتقل سابق وزميل له في الزنزانة هو أرنولد سوزي في أستونيا. وهناك يواصل العمل على المخطوطة لمدة ثلاث سنوات، ومستمراً في اتخاذ إجراءات الحيطة والحذر التي اتخذها في موسكو خشية أن يكون مراقباً من أحد ما، وفق ماتروي هيلي سوزي ابنة رفيقه أرنولد. بعدها، وفي عام 1968 يعود سولجينيتسن إلى منزله الذي يبعد ثمانين كيلومتراً عن موسكو. وهناك تتولى صديقتاه إيلينا تشوخوفسكايا واليزا بيترفوسكايا طبع المخطوط على الآلة الكاتبة. ثم نقلت ناديا ليفيتسكايا أربع نسخ من المخطوط المؤلف من ثلاثة أجزاء إلى مصحح طباعة آخر. بعدها يعهد إلى المصور فاليري كوديوموف بتصوير كامل المخطوط، واستغرقت العملية أربعة عشر ساعة. ثم يتمكن ألكسندر أندرييف الذي كان يعمل مترجماً لدى منظمة اليونيسكو في باريس من نقل فيلم المخطوط إلى الغرب بعلبة كافيار وضعت ضمن معدات تخص منظمة اليونيسكو. في تلك الفترة نال سولجينيتسن جائزة نوبل عن كتابه “يوم من حياة إيفان دينيسوفيتش”، ولم تكن الظروف مناسبة لنشر “أرخبيل الغولاغ”، لكن ورغم كل إجراءات الحيطة والحذر، كانت هناك قصة مأساوية تخللت تجربة كتابة المخطوط ودفعت مؤلفه لنشره. ففي آب أغسطس من عام 1973 تم اعتقال إليزافيتا فورونسكايا التي طبعت النسخة النهائية من مخطوط “أرخبيل الغولاغ” في لينينغراد. بعد أن ضبطت عناصر من الكي جي بي نسخة من المخطوط في شقتها. لقد احتفظت بتلك النسخة رغم تحذير سولجينيتسن وطلبه منها أن تتلفها خشية العثور عليها من قبل الكي جي بي. وأنه أجرى بعض التعديلات عليها. لكن نفس إليزافيتا لم تطاوعها على فعل ذلك، وكانت أن دفعت الثمن غالياً. “لقد تم العثور على اليزافيتا مشنوقة في شقتها، وأشار بعضهم إلى وجود جروح بفعل طعنات وآثار دم”. وربما كانت قصة إليزافيتا هي القصة الأكثر مأساوية في التجربة كلها، ولهذا نرى المخرج يبدأ بها فيلمه، ليواصلها مع نهاية الفيلم. وبعد أن ضبطت لجنة أمن الدولة مخطوط الكتاب قرر سولجينيتسن نشره على الفور. فتمت ترجمته إلى الفرنسية ونشر في الغرب في اللغتين الروسية والفرنسية.

ووصلت نسخ منه إلى روسيا. لكن الإعلام السوفييتي هاجم الكتاب ومؤلفه، ليتم بعد ذلك اعتقال سولجينيتسن رغم شهرته وحيازته على جائزة نوبل. ومن ثم يتم تجريده من جنسيته ونفيه خارج البلاد وذلك في الرابع عشر من شباط/ فبراير من عام 1974. وبعد أربعة وعشرين ساعة من اعتقاله يصل إلى فرانكفورت فيجتمع مع مؤلف صديق هو الكاتب الألماني هاينريش بول. وخلال شهور قليلة تترجم روايته “أرخبيل الغولاغ” إلى عدد من اللغات وينشر منها في الولايات المتحدة وحدها ثلاثة ملايين نسخة. ليصل بعد ذلك عدد نسخ الكتاب التي بيعت إلى عشرة ملايين نسخة. ومن بين مترجمي الكتاب كان باليس غايوسكاس الذي كان يترجمه إلى اللغة الليتوانية والذي يعرف الموضوع تمام المعرفة بوصفه أحد سجناء معتقل الغولاغ السابقين، لقد سجن لمدة خمسة وعشرين عاماً لأنه كان عضواً في جبهة المقاومة الليتوانية ضد السوفييت. وهو يقول إنه كان على وشك الانتهاء من الترجمة عندما اعتقله رجال الاستخبارات. وعندما رفض إعطاءهم معلومات عن مصدر الكتاب حكم عليه بالسجن عشر سنوات إضافية. وهو يقول عن الكتاب إنه “أول كتاب يصف منظومة الغولاغ، ما كنت أخاطر لترجمة أي كتاب يقل عنه أهمية، إذ لا أريد قضاء عشر سنوات إضافية في المعتقل”. وهنا يتابع المخرج جمع شهادات ممن قابلهم حول أهمية كتاب سولجينيتسن هذا. فناديا ليفيتسكايا تقول “إنه كتاب فريد جداً ومذهل، واعتقد أن ما من كتاب يضاهيه حسب رأيي”. بينما تقول إيلينا تشوخوفسكايا إنه “أول كتاب يتجرأ على توثيق ما حدث في بلادنا بهذا الشكل الممتاز والواضح والجريء من كل النواحي”. بينما يراه الناشر الفرنسي كلود دوران بأنه أهم كتاب كتب في القرن العشرين من حيث قدرته على ترك انطباع على التاريخ.
وبذلك يقدم لنا المخرج فيلماً عن واحد من أهم كتب القرن العشرين، مظهراً ظروف تأليفه ونشره. لكن ما يمكن أن يؤخذ على هذا الفيلم هو أن مخرجه يورد على لسان الراوي أرقاماً مخيفة عن أعداد الناس الذين اعتقلوا في حقبة ستالين، ويقول إنها وصلت إلى مليونين وسبعمئة وخمسين ألف شخص. وهذه قضية خلافية، فثمة من يشكك بتلك الأرقام ويقول إنها مبالغ بها كثيراً، وذلك مثل الباحث السوفييتي “لودو مارتينز” الذي وضع كتاباً عن ستالين بعنوان “نظرة أخرى إلى ستالين”(صدر في دمشق بترجمة حسن عودة عن دار الطليعة الجديدة، 2002). لكن مخرج الفيلم يأخذ تلك الأرقام وكأنها مسلمة غير قابلة للنقاش، مثلما يأخذ كامل قضية القمع في حقبة ستالين، التي كانت، دون شك، حقبة مرعبة في وحشيتها. وهنا تكمن إحدى نقائص الفيلم الذي يبدو أن مخرجه نظر إلى مجمل موضوعه من وجهة نظر واحدة متجاهلاً وجهات النظر المختلفة. إلا أن الفيلم يبقى بمجمله شهادة بالغة الأهمية عن معاناة الكتاب في أزمنة القمع ومحنة المثقفين في أزمنة الديكتاتورية.


إعلان