الدورة ال 61 لمهرجان برلين السينمائي

الشباب والاتجاهات التجريبية ثيمات مستحدثة
 وعروض فيها جواهر سينمائية

 قيس قاسم – برلين
 
مهرجان برلين، مثل كل المهرجانات الكبيرة، يسبق كل دورة من دوراته، كلام كثير وتوقعات باحتمال ظهورها بأقل مستوى من الدورات التي سبقتها، كما هو الحال عندما أعلن بعض النقاد ومتابعي السينما عن تشاؤمهم من تقليص عدد أفلام المسابقة الى 22 فيلم فقط، وقلة الأسماء الكبيرة، نسبيا، والرهان على الشباب والتركيز على الكثير من الأعمال التجريبية، ولكن ومثل كل مهرجان كبير فإن الأيام الأولى من كل دورة تتكفل هي بنفسها بإزاحة الكثير من الكلام الذي سبقها وتبرهن على قدرته في ايجاد الجديد من الأفكار والموضوعات التي تكرسه كواحد من أكبر ثلاث مهرجانات سينمائية في العالم، وتكفي هنا الإشارة الى الإحتفائية الخاصة بالمخرج السويدي انغمار برجمان وكيف خصصوا له معرضا فوتوغرافيا وثق جزءا من حياته وطبعوا عنه كراريس ونظموا عن أعماله ومساهماته السينمائية المهمة ندوات وحلقات دراسية، الى جانب عرض بعض أفلامه وتسجيلات جديدة كشف عنها لأول مرة في هذة الدورة.

انغمار برجمان

ومثل كل مهرجان يكثر الحديث، سنويا، عن علاقته بالسياسة واهتمامه بها، وإذا كان موضوع المخرج جعفر بناهي واختياره عضوا (غائبا) في لجنة التحكيم كونه مسجونا في ايران وإنسجامه مع مواقف مهرجانات أخرى سبقته في هذا مثل كان وروتردام وجوتنبرج، فإن أفلاما كثيرة عرضت فيه أحيت الموضوع السياسي بقوة ومنها فيلم زميله أصغر فرهادي “انفصال نادر وسيمين”. في هذا العمل الرائع يغور فرهادي في أعماق مشاكل ايران السياسية بطريقة بعيدة عن المباشرية والمساس الفاقع بالسياسة كونه يتناول في، الظاهر فقط، علاقة عادية بين زوجين مشرفة على الانتهاء، وعبر تقربنا من تفاصيلها يقربنا الفيلم بدوره من واقع ايران السياسي والاجتماعي.

 جعفر بناهي

 ثمة أفلام فيها النقد السياسي أشد قسوة من الفعل السياسي نفسه وهذا الفيلم واحد منها، فهو من جهة يعري طبيعة المجتمع الذكوري وكيف تُستغل المرأة فيه وتُعامل بطريقة دونية وعلاقة هذا التشابك الاجتماعي المختل بالنظام السياسي الذي يغذيه ويحميه من جهة أخرى. إشتغل فرهادي بإسلوب سردي غني يعرفه جيدا، فهو سينمائي حكائي من الطراز النادر وهذا ما لمسناه في فيلمه “عن ايلي” الذي عرض في مهرجان أبو ظبي الأخير، وفي جديده نلمس ذات القدرة على حكي أكثر من قصة في الفيلم الواحد، وفريق عمله منسجم مع حسه وبحثه عن التفاصيل المناسبة والمنسجمة موضوعيا مع رؤياه فنرى الكاميرا تبادر لقص  جزء مما تعرضت له عائلة نادر، من الأب المصاب بمرض الزهايمر الى الزوجة  الراغبة في التخلص من هيمنة الزوج ومتطلباته الكثيرة الى طفلتهما التي تريد البقاء تحت رعايتهما سوية. مستوى التمثيل مدهش وكل أبطاله تقريبا أجادوا أدوارهم مما رفع من عمل، نقول انه يستحق جائزة “البرليناله”، ودونها يظل فيلما يستحق التقدير كونه مس السياسي عبر الفن السينمائي، برشاقة، مستغلا كل قدراته الكبيرة في توصيل أفكاره ورؤيته للصراع الدائر في بلده.

أصغر فرهدي

 وعلى ذات المستوى من الهاجس السياسي كان “بديل الشيطان” الذي يدور حول عدي صدام حسين وشبيهه لطيف يحيى. بفيلم لي تاماهوري حضر الموضوع العراقي مجددا خاصة وأن الفيلم قد اعتمد كثيرا في مادته على كتاب “كنت ابنا للرئيس” والذي سجل فيه شبيه عدي جزءا كبيرا من تجربته الشخصية ومن خلالها قدم صورة عن واقع العراق خلال فترة  الثمانينات. الفرق بين الفلمين أن عمل أصغر مهم في حين كان عمل النيوزلندي تاماهوري ضعيفا، يعتمد الفضول السياسي عند المشاهد مصدرا لنجاحه بدلا من المقدرة الاخراجية وسيلة لعرض الأفكار والمتغيرات السياسية في العراق وغيره منهجا للعمل السينمائي الحقيقي، كالذي تناوله وبإسلوبية خاصة الروسي الكسندر مينداجه في فيلمه “في يوم السبت” وموضوعه عن انفجار المفاعل النووي تشرنوبيل وكيف تسبب تأخير الاعلان عنه الى كارثة نووية راح ضحيتها الكثير وما زالت آثاره قائمة الى الدرجة التي يشبه فيها البعض مخلفاتها على المستوى الانساني بكارثة اسقاط القنبلة الذرية على مدينة هوراشيما اليابانية. ينطلق الفيلم ليكشف ما جرى السكوت عنه، وبسببه تضرر جزء كبير من العالم غير أوكراينا التي انفجر فيها، ينطلق من حكاية أحد الشباب الحزبيين والذي كان يعمل في المفاعل نفسه وعلم من خلال علاقاته الحزبية بخبر تفجيره وكيف سعى لتخليص نفسه وصديقته من خطر الموت بسبب الانبعاثات النووية المتسربة منه الى أي منطقة بعيدة عن موقعه لكن ظروفا كثيرة تدخلت وأجلت عملية هروبة ليعود خلال تلك الليلة الى زملاء فرقته الموسيقية التي اتهمها يوميا بإفساد الذائقة الشيوعية وتشجيع المجتمع  الإقبال على الثقافة الغربية عبر تسجيل أغاني فرقة البيتلز الانكليزية وغيرها من الموسيقى الغربية وقت انقسام العالم الى غربي وشرقي. الساعات ال 36، الفاصلة بين الانفجار والاعلان الرسمي عنه، تحولت الى ساعات حشر كان هذا الشاب الوحيد الشاهد عليها والمتواطيء في اخفائها. في هذا العمل المذهل جسد صاحبه الموقف الأخلاقي للسطات السوفيتية التي كان همها الأول الحفاظ على سمعتها حتى لو كان على حساب ملايين البشر، وكيف وجد الشباب نفسه وفي لحظة مراقبته للجحيم القادم، أسيرا للضوابط والمصالح التي أنتقل بسببها من الحياة السوية الناشدة للفرح أي كان مصدره الى حزبي، انتهازي، يرضي قادته رغم لفظهم له في لحظة الحقيقة القاسية ولهذا ظل في داخله منقسما بين ذاك الذي كانه يوما وبين الذي صاره اليوم. “في يوم السبت” سنتذكره طويلا ونتذكر أن عارضه العالمي الأول كان مهرجان برلين في دورته ال 61 وليس أي مهرجان أخر.


إعلان