هيرتسوغ : إنموذج فريد للمخرج التسجيلي

 بدأت تباشير مهرجان سينما DOX BOX في دمشق لهذا العام بعرض سلسلة من أفلام المخرج الألماني فرنر هيرتسوغ Werner Herzog بدأ عرضها من 9 يناير وهو مستمر حتى 27 فبراير هيرتسوغ المولود في ميونخ1942 بدأ حياته السينمائية في 1962 منجزاً على مدى عشرات السنين ما يربو على ستين فيلماً.
لحسن الحظ كان من بين الأفلام المعروضة أفلام عن هيرتسوغ ونشاطه التسجيلي… ما يضيف وثائق هامة إلى هذه التظاهرة ترصد وتشرح مدى أهمية هذا المخرج (السوبر).. نكاد نكون أمام صورة “مثالية” قد يخالها البعض شبه مستحيلة، صورة تعيد طرح مسألة هامة حول ما يمكن أن يعنيه المخرج التسجيلي بوصفه إنسان يتابع “ما يجري” وموقفه مما يجري… ومن جهة أخرى: مدى الاحتمالات الممكنة واتساع الرؤية ومن ثم الأمداء التي تعنيها عبارة “ما يجري”: نحن هنا أمام مخرج “انتحاري” وفي نفس الوقت إنسان يشغل مجساته ومستشعراته بأقصى الطاقات الممكنة متجاوزاً بحساسيته الحدود الوطنية والإقليمية وحتى القارية ببحث معرفي يفتح الآفاق أيضاً على كل ما تعنيه كلمة إنسان بل وبنظرة تتجاوز الإنسان نحو رؤى كونية تعبر أول ما تعبر عن حرية قل نظيرها تسمح لصاحبها بالانطلاق نحو كل صوب.

المخرج فرنر هيرتسوغ

في فيلم “السوفرير” (1977) الذي انطلق فيه إلى جزيرة في المحيط الهندي يرصد هيرتسوغ حالة بركان موشك على الانفجار… وقد حذر العلماء والأخصائيين أنه سينفجر لا محالة بقوة قنابل نووية ستطيح بكل شيء… أخليت الجزيرة من سكانها… في ذلك المكان الذي يبدو وكأنه من كوكب آخر يصدمنا هيرتسوغ بوجود لم نعتد عليه… وجود يكاد يضعنا في مواجهة مباشرة مع العدم عينه… نشاهد جثث الكلاب والحيوانات الأليفة مبعثرة في الشوارع الخاوية وقد نفقت بعد “نفوق” القمامة التي كان السكان يتركونها أمام منازلهم… إشارات المرور لا تزال تعمل في شوارع خالية من السيارات… هناك شيء وحيد يوحي بالحركة في مكان كان عامراً بسكانه.. البركان فقط وقمته النافثة للغازات القاتلة والحرارة التي تكاد تزلزل الأرض تحت أقدام طاقم التصوير… ولكن من قال أن هذا المكان خالٍ من البشر؟ ها هي كاميرا هيرتسوغ تجد شخصاً مستلقياً نائماً وبجواره قطة في ذلك المكان المهول وكأنه مخلوق غريب لا ندرك طبيعته نحن البشر… إنه ينتظر هنا،بين لحظة وأخرى، القدرَ مطمئناً يساعده في ذلك فقره وإيمانه العميق بالله. يبدو هيرتسوغ مندهشاً مما وجد ولكن ما يلفتنا هنا تشابه الاثنين وتوحدهم في حالة واحدة؛ هيرتسوغ هنا “كشخصية” في الفيلم يمثل الغرابة عينها بالنسبة إلينا، ويعيدنا إلى ما يعنيه (التسجيلي) مجدداً، إنما المخرج هنا على عكس الشخصية المرصودة في الفيلم؛ يضع نفسه عنوة في المكان معتمداً قدريته الخاصة.

الفيلم الوثائقي “دروس في الظلام”

أيضاً في فيلم “دروس في الظلام” (1992) يلقي هيرتسوغ بنفسه في مكان مهوول آخر لا تعود فيه وطأة البركان السابق تذكر أمام جسامة كارثة سببها الإنسان هذه المرة ضد الإنسان، والطبيعة. نحن في كويت ما بعد حرب الخليج مباشرة. وجحيم صنعه النفط وصنع به. يقسّم المخرج الفيلم إلى مقاطع لكل منها عنوان، وهو إذ يرصد في بعض المقاطع الكارثة التي حلت بالأرض وبالبيئة؛ نراه في مقاطع أخرى يقوم -بشكل موازٍ- بتتبع ما حل بالإنسان وقد أصبح هذا مجرد عنصر ضئيل في الحدث الكبير… مساحات على مد النظر.. ما كان سابقاً صحراء أصبح مستنقعات هائلة مترامية في كل الاتجاهات، قد يخدعك جمال المنظر وسحره، إلا أنه في الكويت لا يوجد ماء، بل هو النفط ما لفظته الأرض كالقيء، يغطي كل شيء، ينبثق بنوافير سوداء إلى السماء تصبح “أجمل” عندما تتوهج مشتعلة بلهيب يصلي كل ما هو حي.
في إحدى المقاطع المعنون بـ”طفولة” أم تحمل طفلها الأبكم وتخبرنا أنه فقد القدرة والرغبة بالنطق إثر تعذيب الغزاة لوالده أمامه… كحال أم أخرى نشاهدها في الفيلم وقد اختفى صوتها تماماً تشرح بالإشارة كيف قتل أولادها الأربعة أمام ناظريها.
لم يحلل أو يسرد هيرتسوغ لنا ماجرى وما الذي سبّب كل ذلك إثر حرب الخليج ولم يحفل به، ترك بدلاً من ذلك رعب الواقع يشرح نفسه بالصورة صاعداً بالتأمل وبالصورة الجميلة المناقضة لمحتواها لمعاينة مستقبل الإنسانية جمعاء.
في مقطع آخر بعنوان “الديناصورات” مخلوقات ما قبل التاريخ؛ يناظر هيرتسوغ بصورة بليغة مستفيداً من الشبه بين تلك المخلوقات المنقرضة، والشاحنات الضخمة والجرافات آلات ذروة التطور التكنولوجي الحديثة كعودٍ على بدء.


إعلان