دعم وتمويل أفلام

شكا لي مخرج عربي صديق ذات يوم من انه اضطر للانتظار عدة أشهر كي يتمكن من إنجاز عمليات المونتاج لفيلمه الروائي الطويل الممول أجنبيا، إذ كانت تنقصه الأموال اللازمة لإنهاء مونتاج الفيلم، علما بأنه احتاج إلى ثلاث كي يتمكن من تسويق السيناريو وجمع المال اللازم لإنتاج الفيلم، وهذا ما أثار استغرابي لأن أسماء الممولين التي جرى بثها على الشاشة في نهاية الفيلم كانت تفصح عن ما يزيد على عشرة جهات إنتاجية أوروبية ساهمت بدعم الإنتاج وتمويل الفيلم. وردا على استغرابي، أوضح لي هذا المخرج أن ما ساهمت به كل من هذه الجهات كان، حسب تعبيره، من فتات المال.
مع ذلك، فهذا الفتات الذي استغرق تحويله إلى موازنة كافية للبدء في عملية  تصوير الفيلم ومن ثم الانتهاء من التصوير حوالي الثلاث سنوات، مع إضافة بضعة أشهر أخرى قضاها المخرج في البحث عن المال المطلوب لإنجاز عمليات ما بعد التصوير، ساعد المخرج في نهاية المطاف على جعل فيلمه جاهزا للمرحلة الثانية من مبررات وجوده، أي عرضه على الناس.
بعد إنجاز الفيلم الممول بفتات الأموال ينشأ السؤال التالي: ما هي المجالات المتاحة لعرض الفيلم؟
في غالبية الأحيان، فإن أفلام الشباب الممولة بهذه الطريقة لا تجد فرصا حقيقية للعرض، بمعنى العرض الجماهيري في صالات السينما، خاصة صالات السينما في موطن مخرجي الأفلام، وإن حدث وتمكن فيلم ما من احتلال موقع له في صالة سينما محلية، أي في بلد المخرج، فغالبا ما لا يستمر العرض أكثر من بضعة أيام، لأن أذواق الناس السينمائية لا تتقبل، إلا فيما ندر مثل هذه النوعية من الأفلام. الفرصة الأخرى المتاحة لعرض مثل هذه الأفلام هي المشاركة في المهرجانات السينمائية والتي انتشرت في سائر بقاع الأرض، في العواصم وفي المدن الكبيرة والمدن الصغيرة، بحيث  باتت أكثر من أن تحصى، والتي صارت جميعا تتسابق للحصول على الأفلام الجديدة، وتتنافس فيما بينها على الحصول على فرصة العرض العالمي الأول في مسابقاتها الرسمية، مقدمة في سبيل تحقيق ذلك الجوائز والحوافز المادية والمالية، التي غالبا ما تكون من نصيب المخرج، وليس الجهات الداعمة والتي لا تبتغى من وراء الدعم تحقيق الأرباح. وبالطبع، لا تحصل كل الأفلام على الجوائز، كما لا تتمكن الكثير من هذه الأفلام من المشاركة في البرنامج الرسمي الخاص بالمسابقة، بل تعرض ضمن البرامج الموازية وتضل نتائج مشاركاتها في المهرجانات محصورة ضمن بعض مقالات وتعليقات صحفية ومقابلات تجري مع مخرجي الأفلام لا أكثر ولا أقل.
يكسر الدعم التمويلي المتعدد الجهات والجنسيات للمخرجين الشباب، وهو تمويل هدفه الرئيسي المعلن تقديم الدعم للمخرجين الناشئين، الأساس الذي قامت وتقوم عليه صناعة السينما في أرجاء العالم وهو ضرورة تحقيق الأرباح بواسطة شبابيك التذاكر، وهي الأرباح التي تصب عادة في جيوب مثلث الأشخاص المترابط  والمتبادل المنافع المالية، أي المنتج والموزع ومالك صالة العرض.
يؤثر الدعم التمويلي المتعدد الجهات والجنسيات للمخرجين الشباب من جهة ثانية على العلاقة بين المخرجين صانعي الأفلام والجمهور العام، فلا يعود الغرض من إخراج الفيلم إرضاء الجمهور وإمتاعه أو توجيه رسالة فكرية ما  له، بل يصبح الغرض التعبير عن ذات المخرج الفنية والفكرية، بغض النظر عن وصولها إلى الناس من عدمه، وربما هذا ما يفسر شيوع استخدام مصطلحات جديدة تتضمن ألقابا تطلق على المخرجين الشباب، من نوع المخرج المؤلف أو المخرج المستقل.
تتسبب الإمكانية المتاحة للتعبير عن الذات في توجه المخرجين نحو إلغاء دور الطرف الثاني، الشريك التقليدي في عملية كتابة الفيلم، أي كاتب السيناريو المحترف، وقيام المخرجين بكتابة السيناريوهات بأنفسهم، وذلك على الرغم من أنهم قد لا يكونون من أصحاب الخبرة الكافية في كتابة السيناريو، أو أنهم ربما، لم يجربوا الكتابة قبل ذلك مطلقا.
تولي المخرجين عملية كتابة السيناريو بأنفسهم يقود إلى التخلي عن الاعتماد على الاقتباس من الأدب والاعتماد بدلا من ذلك على كتابة النصوص مباشرة للسينما، وهي نصوص تستقي مادتها وموضوعاتها في غالبية الأحيان من السيرة الذاتية أو التاريخ الشخصي للمخرج المؤلف، وهو أمر قد يتسبب أحيانا في نتائج سلبية، كان يزدحم الفيلم بالأفكار والمواضيع فيتحمل أكثر مما يحتمل ولا يفي أي من الأفكار أو المواضيع حقها في الطرح والوضوح أو العمق، أو أن يستنفذ المخرج ما قد يكون مهما في سيرته في فيلم أول واحد ويستنفذ ذخيرته من الذاكرة، فلا يجد ما يكفي من الأفكار والمواضيع لملء فيلم تال مما قد يضطره لحشو السيناريو بما لا يضيف له قيمة، بل عل العكس من ذلك، قد يضعف من قيمته.
ينتج عن كتابة المخرجين للسيناريوهات، خاصة منهم الذين لا يتمتعون بموهبة السرد، توجه نحو التمرد( سواء أكان هذا التمرد ذو خلفية مبدأية كما عند جان لوك غودار مثلا، أو تغطية على عجز وفقر في موهبة الكتابة والسرد)، على القواعد التقليدية المتبعة في السرد الكلاسيكي( بداية وعقدة ووسط وذروة ونهاية)، والتي تولدت منها القواعد الأساسية لكتابة السيناريو، كما وردت في كتب تعليم السيناريو السينمائي التي تستمد خبرتها من دراسة وتحليل نماذج أنجح أفلام السينما الجماهيرية( وهي في غالبيتها من إنتاج صناعة السينما الأمريكية)، وكتابة السيناريو بأسلوب حر قد تكون نتيجته موفقة وقد لا تكون كذلك، إذ قد يجعل الأسلوب الحر بنيته الدرامية مهلهلة غير مقنعة.
أخيرا، نضيف إلى هذا كله ما يشاع من تهم توجه للأفلام التي تتلقى الدعم بأنها تستجيب لإملاءات، معلنة أو غير معلنة، مباشرة أو غير مباشرة، بريئة النية أو غير بريئة، مصدرها الطرف أو حتى الأطراف الداعمة.
يثير هذا الحال الذي بات السمة الشائعة للعديد من أفلام المخرجين العرب الشباب، وربما أيضا أفلام المخرجين الشباب من دول أخرى في العالم لا تتوفر فيها صناعة سينمائية، سؤالا جوهريا يتعلق بكون هذا الأمر يقدم حلولا فردية، مؤقتة وليست دائمة، لمخرجين أفراد لكنه لا يساهم أبدا في إنشاء و تطوير صناعة سينمائية في بلدان المخرجين الذين ينتجون أفلامهم بواسطة أموال، وحتى خبرات، الجهات التي تقدم الدعم، بحيث لا يعود من المجدي الحديث عن سينما وطنية، هذا في حين أن وجود صناعة سينما وطنية يتميز عن واقع إنتاج الأفلام بواسطة الدعم الأجنبي، لأن السينما الوطنية تؤسس قاعدة لإنتاج متواصل بعكس الدعم الأجنبي الذي يتوجه نحو أفراد ويرتبط بحالات فردية قد لا تتكرر.


إعلان