إسقاط “نظام النجوم” في السينما العربية

السينما في خدمة الثورة
صلاح سرميني ـ باريس

نحنُ نتحدثُ هنا من هذه المنصة عن التضامن مع الطلاب، والعمال، وأنتم تتحدثون عن حركة الكاميرا، واللقطة الكبيرة(1).
جان لوك غودار

كان على الشعب التونسيّ، المصريّ، الليبيّ، والقائمة مستمرّة.. الانتظار عقوداً من الزمن كي يُفجروا ثوراتهم التي تتطاير شظاياها في كلّ مكانٍ مثل ألعابٍ نارية ترتعدّ منها الأنظمة الطاغية.
وقد حان الوقت أيضاً بأن تحدثَ ثورة في السينما العربية، ويُعلن العاملون الشرفاء في هذه الصناعة عن مطالبهم الحالية، والمُستقبليّة بهدف تغييّرٍ جذريٍّ، إنتاجاً، توزيعاً، وثقافةً سينمائية.
لقد كانت السينما، المصرية تحديداً، ومازالت، وسيلة جذبٍ شعبية كبرى، ولكن، من المؤسف بأنها اُختطفت بمُساعدة السلطات السياسية، واُستثمرت في تغيّيب الجمهور، تخديره، تفريغ غضبه، تمييّع مشاغله، وتسطيح قضاياه.
وقد وصلت السينما العربية (المصرية خاصةً) إلى أوضاع مُهينة من الناحية العددية، والنوعيّة، حقيقة لا  لا يستطيع أحدٌ إنكارها من الفاعلين الجادّين في الصناعة السينمائية، التجار المُستهترين، أو الجمهور نفسه، المصريّ، والعربيّ.
كنتُ أعتقد بأن الأوان قد فات، بعد أن حفر الكثير من صُناع السينما العربية قبرها بأيديهم، ولكنّ الثورات الحالية، والمُتتالية، أعادت لي (لنا) بعض الأمل، أو كله في إمكانية انطلاقة “ثورة سينمائية” حقيقية تقضي على الفساد السينمائيّ في كلّ جوانبه الإنتاجيّ، التوزيعيّ، والثقافيّ، وتبدأ مرحلةً جديدةً تتوافق مع رغبة الملايين بالتغييّر.
من أجل هذا الغرض، ومساهمةً في نشر وتعميم، وترويج ثقافة سينمائية نضالية، وثورية، سبقها الكتابة عن سينما تجريبيّة، مُغايرة، بديلة تُجسد تاريخاً متواصلاً من تمردّ السينمائيين، وثورتهم أحياناً على السينما التقليدية، ثقافتها، وآليات إنتاجها، وتوزيعها،…
سوف ألفتُ الانتباه إلى أفلامٍ منسيّة، أو مجهولة كي يبحث القارئ عنها، يشاهدها، يُروج لها، ويوزعها بطريقةٍ شرعية بعيدة عن القرصنة، أو على الأقلّ، إن لم يتمكن من الحصول عليها، يقرأ عنها، يستوحي منها، ويقارن بين ما حدث البارحة، وما يحدث اليوم .
أفلامٌ، الشعب فيها هو البطل، تُذكرنا بأحداثٍ، وثوراتٍ تتقاطع فيها الأسباب، الآليّات، النتائج، الآمال، الاحباطات، التنظيم، الفوضى، الآلة الأمنية القمعيّة، الشرطة، الفساد، السيارات المحروقة، القنابل المسيلة للدموع، الرصاص الحقيقي، والمطاطي، التظاهرات، التجمّعات، الإضرابات، المتاريس، أحجار الشوارع،… مواقف الدول العظمى (الولايات المتحدة خاصةً)، وحتى هروب الرؤساء، وعائلاتهم خارج البلاد، وتهريب ثرواتهم.

مهرجان كان 68

في فيلمٍ تسجيليّ قصير بعنوان “كان 68″، يلتقطُ الناقد، والمُؤرخ السينمائيّ الفرنسيّ “سليم ساسون” 22 دقيقة من الأحداث المُضطربة التي هزّت الدورة الـ 21 لمهرجان كان، والتي توافق انعقادها مع اندلاع الانتفاضة الطلابية، والعمالية في مايو من عام 1968، لقد بدأت “الشرارة السينمائية” من الصالة الصغيرة “جان كوكتو”، حيث اجتمع فيها عددٌ كبيرّ من العاملين في الصناعة السينمائية الفرنسية، والأجنبية من ضيوف تلك الدورة :
جان لوك غودار، ماشا ميريل، كلود بيري، فرانسوا تروفو، رومان بولانسكي، ميلوش فورمان، ريتشارد ليستر، جان لوي بوري، ميشيل كورنو، …والذين شكلوا فيما بينهم هيئةً للدفاع عن السينماتيك الفرنسية، وتحوّل الاجتماع إلى حثّ لجنة تحكيم المهرجان على الاستقالة، ومُطالبة المُنظمين بإيقاف العروض تضامناً مع الطلاب، والعمال، تُقدم تلك الوثيقة لحظاتٍ مُكثفة، وقصيرة، لم يكن الاجتماع هادئاً، ولم تمرّ المُطالبات بهدوءٍ، فقد تعالى السباب، واللعنات، وحتى التشاحن بالأيدي، ولحسن الحظ، كانت كاميرا “سليم ساسون” هناك تُسجل ذاك الارتباك، ومنذ تلك اللحظات، التحقت السينما بالثورة.
يحدثُ انقسامٌ في آليّات التضامن، ويتحوّل المشهد من الشاشات الكبيرة إلى تلك الصالة الصغيرة، وحتى في شوارع، ومقاهي المدينة، وأروقة قصر المهرجان .
في هذا الفيلم/الوثيقة (مهرجان كان 68) الجديرة بالمُشاهدة، التأمل، والتفكير، يعلقُ “ميشيل كورنو” (مخرج فيلم Les Gauloises bleues) تعليقاً دالاً، حان الوقت بدورنا أن نُعلنه، نتبناه، ونطالب به :
“مهرجان كان ليس مهرجان السينما، ولكن، بعض الأشخاص فقط من العاملين في السينما، المخرجين، والممثلين بالتحديد،…..”.

يُضيف “ميشيل كورنو”، بأنه طلب من مدير المهرجان بأن يحضر معه بعض العاملين من فريق عمل فيلمه، ولكنّه رفض.
رُبما نسيت، أو تناست المهرجانات السينمائية العربية بأنّ الفيلم “عملٌ جماعيّ”، ولكنها، بهدف الدعاية، والمُحفزّات التجارية، تدعو دائماً المخرج (وهنا لا أنكرُ حقه، وأولويته في متابعة فيلمه)، وممثلي الأدوار الرئيسية (ولا أنتقص من حقهم أيضاً).
ولكن، هناك دائماً تساؤلات علنية، ومُضمرة، تصل إلى درجة السخط، عن فائدة حضورهم غير استقطاب الأضواء بتواطىءٍ مشتركٍ مع المُنظمّين .
ويعرف الجميع كيف يقضي معظم هؤلاء النجوم أوقاتهم “الثمينة جداً” في مهرجانٍ ما، وماعدا اللحظات الاستعراضية أمام كاميرات التلفزيون، ومؤتمراتهم الصحفية الخفيفة، وتصريحاتهم الباهتة، المُكررة، وعديمة الفائدة، فإنّ هؤلاء لا يشاهدون الأفلام، ولا يشاركون في أيّ حدثٍ جادّ، ومفيد، ويقضون أوقاتهم في الترويج لأنفسهم، ودعم نجوميتهم، وهي جزءٌ من منظومةٍ تجارية مخططة تجعل من السينما سلعةً فقط، وتنفي عنها كلّ الجوانب الأخرى، وفي مقدمتها الثقافية، والتثقيفية.
هم واجهة العمل السينمائيّ بالتأكيد، ولكن، يتحتمّ على المهرجانات السينمائية العربية، وتماشياً مع الزحف الثوريّ المطلوب، بأن تُغيّر من نظرتها الترويجية، وتكريس مفهوم الفيلم/سلعة، والتفكير بجميع العاملين في الفيلم، وإعادة حقوقهم المعنوية التي سلبتها الأضواء، وتقاليد السجادة الحمراء.
هل الممثل، أو الممثلة أهمّ من كاتب السيناريو، مدير التصوير، فنان الديكور، مهندس الصوت، أو المونتير ؟…
علينا بأن نتصور حجم الفائدة التي يقدمها هؤلاء المنسييّن، والمغيّبين عندما يتحدثون عن تجربتهم في فيلمٍ ما، أو مسيرتهم السينمائية عموماً، وديناميكية تبادل الخبرات، والتجارب مع الضيوف من تخصصاتٍ أخرى.
لقد حان الوقت للبدء بإسقاط “نظام النجوم” نفسه الذي يُحول الصناعة السينمائية العربية إلى “ديكتاتورياتٍ” تصول، وتجول كما يحلو لها، وتؤثر سلباً برغباتها، نزواتها، وأجورها الخيالية، وتفرض أنماطاً محددة من الأفكار، الموضوعات، والأداء، بدون أن تُساهم في تطوير السينما، وحتى إفساد ذوق الجمهور، وهو وحده، راضياً، أو مُرغماً، الضحية.
في نفس الوثيقة/الفيلم، يتساءل “ميشيل كورنو” عن إمكانية انعقاد الدورة القادمة لمهرجان كان، وانحيازها إلى الجانب التجاريّ، أو الفكريّ ؟
لقد كان السؤال في عام 1968، وكما نعرف، يتواصل المهرجان حتى اليوم، ويجمع بين الجانبيّن، ولكن، من الواضح بأنّ المُنظمّين عبر تاريخه لم يُصغوا كثيراً إلى استهجان “ميشيل كورنو” من إقصاء المهن السينمائية الأخرى عن هذا الحدث، وبقي المهرجان ينحاز إلى المخرجين، والنجوم فقط.

مهرجان كان سنة 1968 ..


ولكن، بالمُقابل، لا يوجد مهرجانٌ واحدٌ يحتكرُ الأفلام، والأذواق،… حيث تحتفي فرنسا وحدها بأكثر من 600 مهرجان سينمائيّ صغيرٍ، وكبير، محليّ، ودوليّ، كلّ واحدٍ منها يُحقق خطةً برمجية خاصة،
ولكنّ المُشكلة الكبرى التي تعيشها المهرجانات السينمائية العربية، بأن معظم منظمّيها يعتبرون مهرجان كان (وبعض المهرجانات الأخرى) نموذجاً، ويتغافلون عن الاستفادة من المهرجانات الدولية الصغيرة، والكبيرة المُتخصصة.
عندما يُنتج بلدٌ عربيّ 350 فيلماً في العام، وينعقدُ فوق أراضيه أكثر من 600 مهرجان سينمائيّ، سوف نفهم تطلعاته، وماعدا ذلك، فهو اقتناعٌ مرضيّ بالأوهام.
من حقّ المهرجانات السينمائية العربية بأن تكون كبيرة، ولكن، وُفق تطلعاتٍ جديدة، ومُجددة دائماً، وأولها، بأن يهتمّ بلد المهرجان بإنتاجه الوطنيّ، وتتوقف عن المُزايدات على السينما العربية، وأكثر من ذلك، تتعامل مع الفيلم بصفته عملاً جماعياً.
هل تمتلك المهرجانات السينمائية العربية إمكانية صنع سينمائيّ عربيّ جيد، وسينما عربية جيدة ؟ أم أنّ السينمائيّ الجيد نفسه، والسينما العربية الجيدة نفسها هي التي تصنعُ مهرجاناً سينمائياً جيداً ؟
لقد حان الوقت أيضاَ بأن تتوقف المهرجانات العربية عن نسخ بعضها، وأن يُحقق كلّ واحدٍ منها خطةً برمجيّة خلاقة بدون إدعاءٍ، وهياج.
المهرجانات السينمائية في مصر، وتونس، والقائمة مستمرّة… قادمةٌ قريباً، فهل تستفيد من ثوراتها ؟

هامش :
(1) ـ هذه العبارة رددها “جان لوك غودار” في 18 مايو عام 1968 خلال انعقاد الدورة الـ 21 لمهرجان كان أثناء الاجتماع العاصف في صالة “جان كوكتو”، وعلى أثره، أعلنت لجنة التحكيم عن استقالتها، وتوقفت العروض، وفعاليات المهرجان، والتحق السينمائيّون بالمظاهرات الطلابية، والعمالية في مدينتيّ كان، ونيس القريبة منها.


إعلان