نم قرير العين يا عمر… فأحلامك أصبحت واقعاً

  ناصر ونوس

“مات عمر أميرالاي”! هكذا، وبكل بساطة، بقدر ما هو خبر صاعق بقدر ما هو خبر عبثي. ما الذي يسمى هذا الموت الذي يأتي بغتة ويخطف الأحبة من بيننا؟ ما الذي يسمى هذا الموت الذي يأتي بغتة ويخطف مبدعيننا؟ مبدعيننا الأنقى والأذكى والألمع؟ ببساطة، هو “الموت” الذي لا يميز بين مبدع وغير مبدع، بين عالم وجاهل، بين … ولا بد لنا أن نسلم به وبحتميته كيفما أتى… لكن في نهاية الأمر عمر أميرالاي لم يعد بيننا. يا للوعتنا… لم يُعطَ المهلة لمشاهدة المسلسل حتى النهاية، والتمتع به حتى النهاية. تفرّج على الحلقة الأولى من مسلسل “دومينو طغاة العرب” واستمتع بها أيما استمتاع لسقوط أول طاغية. وبينما يتفرج على الحلقة الثانية رحل قبل أن يرحل الطاغية الثاني. يا للمفارقة، اللحظات التي انتظرها عمر طوال حياته ستأتي بعد أن يكون عمر قد قضى نحبه. يا لسخرية القدر. لكأن المثقف المهموم بقضايا شعبه ووطنه محرّم عليه أن يرى شعبه وهو ينهض من محنته.
عبر رحلته الإبداعية استطاع عمر أميرالاي الهروب من حراس الصمت كي يقول الحقيقة ويكشفها في أفلامه الوثائقية عارية للملأ وفاضحة. ذلك أن عمر أميرالاي قارئ جيد لوصايا المسرحي الألماني بيرتولت بريشت الذي تحدث عن الصعوبات الخمس التي تكتنف قول الحقيقة في الزمن الذي لا يسمح للحقائق أن تقال. بل لعل عمر أميرالاي مبتكر لطرق جديدة لقول الحقيقة لم يعهدها بريشت نفسه. ومنذ فيلمه الأول “محاولة عن سد الفرات”(1970) وحتى آخر أفلامه “الطوفان”(2003) كان عمر ذكياً في التعرف على الحقيقة والتقاطها، وشجاعاً في قولها وإيصالها لمن تهمهم.
لقد دفعت أفلام عمر أميرالاي السلطات الثقافية لتقول: “لن نعطي المخرجين السينمائيين أموالاً ليصنعوا أفلاماً يهاجموننا فيها”. ولعل هذه العبارة تنطوي على أكثر من مغالطة؛ فأفلام عمر أميرالاي لا تهاجم”هم”، بل تهاجم الفساد والمفسدين. أو بالأحرى تهاجم الواقع الذي أوجده المفسدون، وتفضحه وتفضحهم. وإذا كانوا قد شعروا أنها تهاجمهم فهذا دليل على أنهم هم المفسدون، وبالتالي تكون أفلام عمر أميرالاي قد أدت غرضها. أما المغالطة الثانية فهي أن الأموال ليست أموالهم بل هي أموال الشعب، ويجب إنفاقها في خدمة الأغراض التي تفيد الشعب، ومنها صناعة الأفلام. وخصوصاً الأفلام التي تفضح واقع الفساد والجهل والتخلف مثل أفلام عمر أميرالاي. الأفلام التي تفضح الطوفان الذي نغرق به، طوفان الأيديولوجية، وطوفان الكذب، وطوفان التضليل، وطوفان الشعارات المنتهية المفعول ولم تعد صالحة لشيء…

لم يكن في جنازة عمر أميرالاي أي شخصية رسمية، وكاد خبر وفاته يغيب عن الإعلام الرسمي. هنا أتذكر وفاة “المثقف النقدي الآخر” المخرج فواز الساجر عام 1988، عندما قطع التلفزيون السوري بثه ليبث خبر وفاته. وبالمقارنة يتبين كم أصبح إعلامنا، وبعد نحو ربع قرن، أكثر عدائية تجاه الضمائر الحية، والوجوه النّيرة، والقامات المشرقة، والرموز اللامعة، في ثقافتنا.
مات عمر أميرالاي مقهوراً لعدم تمكنه من إنجاز مشاريعه التي يعمل عليها بحثاً وتفكيراً وتأملاً منذ وقت طويل (فيلم عن أسمهان، وآخر عن الممثلة إغراء). مات عمر أميرالاي وبقي حراس الصمت الذين حاربوه، لكن أفلام عمر أميرالاي هي الباقية، ومن حاربه مصيرهم الزوال لحظة تزول مناصبهم. وهاهي أفلام عمر أميرالاي منتشرة على المواقع التفاعلية (يوتيوب، وفايسبوك، وربما غيرهما) ويمكن للملايين مشاهدتها. فنم قرير العين يا عمر. فهاهي أفلامك التي منعت في بلدك وعرضت في بلاد الغير تصل لمن تشاء، والتغيير الذي حلمت به وعملت عليه وبذلت عمرك في سبيله هاهو يتحول إلى حقيقة. نم واترك لنا الحزن عليك، فمازلنا قادرين على تحمله، رغم ثقله.


إعلان