تجربة مايك لي السينمائية (1)

أمير العمري

عندما عاد المخرج السينمائي البريطاني مايك لي Mike Leigh بقوة إلى الأضواء عام 1987 بفيلم “آمال كبيرة” High Hopes كانت السينما البريطانية تواجه أسوأ أزماتها، بتأثير ما تعرضت له من إهمال كبير خلال سنوات حكم حزب المحافظين بزعامة “السيدة الحديدية” مرجريت تاتشر.
كانت هذه السينما العريقة قد فقدت جمهورها، واتجهت، خلال محاولتها استعادة ذلك الجمهور، إلى انتاج الأفلام الهروبية والبوليسية وأفلام الجاسوسية المحكمة الصنع على طريقة أفلام جيمس بوند.
وكان ظهور فيلمين هما “الأصوات البعيدة” Distant Voices للمخرج تيرنس دافيز، و”آمال كبيرة” لمايك لي بمثابة عودة الروح الى تلك السينما العجوز التي لم تعرف التألق خلال الثمانينيات سوى مرة واحدة من خلال الفيلم الشهير “غرفة تطل على منظر طبيعي” A Room With A View لجيمس إيفوري.
أما “آمال كبيرة” فهو أول ما يخرجه مايك لي من أفلام سينمائية منذ عام 1971 بعد أن انتقل للعمل في التليفزيون.
ينتمي مايك لي إلى  جيل من المخرجين البريطانيين الذين يمكن وصفهم بـ”جيل الالتزام بالقضايا الكبرى” مثل كن لوتش وبيتر جريناواي ونيكولاس روج وستيفن فريرز وآلان باركر ورولاند جوفي، سواء كانت هذه “القضايا الكبرى” على الصعيد الاجتماعي- السياسي، أم الفلسفي- الفكري. أما من ناحية الأسلوب فيلتزم مايك لي بالواقعية مع بعض اللمحات الكوميدية التي لا تخلو منها أفلامه، وأحيانا أيضا بعض الميلودراما، لكن الكوميديا تتفجر من التناقضات القائمة بين الشخصيات، وتبدو الميلودراما دائما محكومة ويمكن قبولها والاستمتاع بها في إطار اكتشاف تلك الحالة “الذهنية” من “العصاب” الاجتماعي التي يتناولها مايك لي عادة في معظم أفلامه عن الواقع البريطاني المعاصر.
كان معظم المخرجين البريطانيين في الثمانينيات، يفضلون ترك السينما من أجل العمل لحساب التليفزيون الذي كان يدعم إنتاج أفلام “طليعية” تتحرر من الشروط المعقدة لشركات الانتاج السينمائي، وهي شروط “تجارية” عادة تحاول أن تخضع الجماليات لمقتضيات السوق، إلا أن مايك لي قطع الطريق العكسي، أي أنه بعد أن أخرج أول أفلامه السينمائية عام 1971 وهو فيلم “لحظات تشاؤمية” Bleak Moments اتجه للعمل في التليفزيون لسنوات طويلة، لكنه آثر العودة إلى السينما عام 1988 بفيلمه الذي حفر ملامح أسلوبه، “آمال كبيرة”، قبل أن يمد تجربته على استقامتها بعد ذلك ويواصل العمل في الاخراج السينمائي فيقدم فيلمه الشهير “الحياة حلوة” Life is Sweet (1990) ثم “تعرية” Naked  (1993) ثم “أسرار وأكاذيب” Secrets and Lies (1996) ثم تتوالى أفلامه وصولا إلى التحفة الكبرى التي يصل فيها الى ذروة أعماله كمخرج وفنان متميز في التعامل مع الممثلين بوجه خاص، أي فيلم “عام آخر” Another Year (2010).

مايك لي

 كان “لحظات تشاؤمية” (1971) فيلما يقوم، مثل معظم أفلام لي، على ما يمكن تسميته “دراما المشاعر الداخلية”، التي تتصارع فيها الشخصيات طبقا لمنطق الصراع في الدراما التشيكوفية (نسبة إلى الكاتب الروسي العظيم أنطون تشيكوف)، أي دراما عائلية تتجه فيها الصراعات إلى الكشف عن مكنون الشخصيات، وصولا إلى لحظة المواجهة ثم الاستنارة. وهنا، لا تعود بعدها الشخصيات أبدا إلى ما كانت عليه من قبل.
وفي “آمال كبيرة” يبحث لي في تلك التناقضات الكامنة تحت قشرة المجتمع البريطاني في ذروة سنوات التاتشرية، ويصور كيف تم تشويه تقاليد الطبقة العاملة وأفكارها وأصبحت أكثر اغترابا، وكيف بدأت القيم الجديدة للأثرياء الجدد (أثرياء حقبة تاتشر) في الزحف تدريجيا، تهدد الفقراء وتدفع بهم الى الهامش أكثر فأكثر، وكيف تتبدى حالة الحرمان، ويلوح التطلع اليائس بحثا عن مكان ما على خريطة المجتمع، كيف ينعكس هذا التشتت على التماسك النفسي والاجتماعي في مواجهة الضغوط، كيف يكون البحث عن الحب الحقيقي هنا معادلا للتماسك النفسي واليقين الروحي، وكيف ينعكس ضياع الحلم الاشتراكي القديم في اقامة الجنة العادلة بعد غروب “الماركسية”، ولكن دون فقدان الأمل في التغيير المنشود.
إن مايك لي في فيلمه هذا الذي يعد المرجعية الأولى لكل أفلامه من الزاوية الفكرية على الأقل، يتوقف أمام الذاتي والاجتماعي، ولكن على صعيد يتجاوز محاولة سينمائي رفيع آخر هو برناردو برتولوتشي في التوفيق بين الفرويدية والماركسية. فمايك لي هنا يبحث فيما بعد الفرويدية والماركسية معا، فهو يبحث في فكر اليسار الأوروبي الجديد بعد 1968، أي بعد انتحار الأفكار الماركسية التقليدية الجامدة القديمة، بعد أن برزت الحاجة الملحة إلى البدء من الداخل أولا، من الذات ومن الفرد ومن النفس البشرية بمكوناتها الأولية في علاقتها بمحيطها البسيط، أي الأسرة. وجوهر فكرة الأسرة هو ما سيعود لكي يشغل لي في أفلامه التالية وأبرزها “أسرار وأكاذيب” الذي حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1996.
في فيلم “آمال كبيرة” سبع شخصيات رئيسية هي سيريل وشيرلي وأم سيريل وشقيقته وزوجها وجار الأم وزوجته.
سيريل وشيرلي ثنائي يقيم معا بإحدى شقق البلدية الباردة العارية من الأثاث تقريبا في أحد أحياء لندن التي كانت تعد من الأحياء العمالية الشهيرة تاريخيا. لكن الاثنان يشعرات بالدفء بفضل الحب الكبير الذي يجمعهما.
والاثنان ينتميان إلى جيل الهامشيين الجدد في المجتمع البريطاني، أي ذلك الجيل الذي استيقظ فجأة ليجد ثورته قد توقفت أو سرقت منه، وأن حلمه قد أصبح في مهب الريح بعد أن أًصبح محاصرا من قبل أولئك الذين صعدوا بفضل السياسات التاتشرية الشرسة التي تمثلت في تدمير نقابات العمال والحركة العمالية، ورسخت فكرة المتلك بأي وسيلة، وقلصت دور الدولة في حماية الفرد.
الزوجان يفترشان الأرض في منزلهما الفقير ورغم ذلك يحاولان التماسك بالحب. وهما يناضلان في صفوف منظمة مناهضة التسلح النووي CNC التي أصبحت في تلك الفترة رمزا للنضال ضد شراسة النظام وضمت الكثير من العناصر العمالية واليسارية وتميزت مظاهراتها بالعنف البالغ وتعرضت لقمع لا مثيل له.
يرفض الاثنان قيم الطبقة الوسطى، لكنهما يرفضان أيضا الماركسية التقليدية وتعاليمها. يتحفظان على فكرة الحزبية التقليدية، ويبحثان عن التحقق من خلال اشكال أخرى من التماسك الاجتماعي والحفاظ على الهوية الطبقية.

في أحد المشاهد الأساسية في الفيلم يذهب الاثنان للتجول بالقرب من مقبرة كارل ماركس في ضاحية “هاي جيت” في شمال مدينة لندن. وهناك يلتقيان بفتاة تعمل ضمن صفوف أحد الأحزاب العمالية الراديكالية. وتكشف المناقشة العابرة مع الفتاة عن جهلها الفاضح بالأوضاع الجارية في المجتمع البريطاني. إنها تعمل مثل آلة صماء في خدمة الحزب، هدفها كما تقول هو المجموع، لكنها لا تعرف شيئا عن نفسها ولا عن ذلك المجموع ومشاكله الحقيقية. ويعكس المشهد بوضوح وجهة نظر مايك لي السياسية، كما أنه يترجم على نحو واضح، ترحمه على أفكار ماركس التي انتهت إلى مجموعة من “الدوجما” تتردد دون معنى حقيقي كما يرى لي.
والدة سيريل العجوز تعيش بمفردها في منزلها القديم في وسط لندن. هذا المنزل مستأجر من البلدية، ولكن زحف الطبقة الجديدة بالقرب من منطقة وسط المدينة يبدو جليا. ذات يوم تترك المرأة مفاتيح منزلها داخل المنزل، فتضطر لطرق باب جيرانها الجدد لكي تفاجأ بزوجين انتقلا حديثا للمنزل بعد شرائه من أصحابه. إنه ثنائي من الذين صنعوا ثروة من المضاربة في البورصة ويرغبون في الزحف على منطقة وسط المدينة.
تعامل الزوجة المرأة العجوز بازدراء ولا تفهم لماذا تصر على البقاء بمفردها في هذا المنزل الكبير وترفض التخلي عنه مقابل الحصول على ما يجعلها تعيش باقي حياتها في ثراء وتنتقل إلى إحدى الشقق الصغيرة في الضواحي.
أما شقيقة سيريل “فاليري” فهي متزوجة من مارتن الذي يمتلك جراجا للسيارات، وهي ضائعة ومتمزقة بين جذورها الشعبية وبين القيم الجديدة التي تسعى إلى التشبث بها. إنها تحاول الانسلاخ عن أسرتها وطبقتها وجذورها، توهم نفسها بالسعادة عن طريق التشبه بقيم الطبقة الجديدة، أي طبقة أثرياء مجتمع تاتشر، مجتمع الملكية الخاصة و”البيزنس”. ةلعل الجاراج هنا رمزا لهذا النوع من الأعمال التي تدغدغ مشاعر بعض الراكضين وراء أوهام مجتمع الملكية الخاصة. إنه بؤرة تتجمع فيها رموز الطبقة من السيارات الفارهة.
فاليري ترتدي الملابس الصارخة التي تعكس سوء الاختيار دائما، تتشنج وترتبك وتشعر بالضآلة أمام شيريل رغم كل ما تستحوذ عليه من مظاهر جوفاء خارجية للثراء في بيتها. ورغم ما تبذله من جهد للفت الأنظار يبدو زوجها مشغولا عنها باشباع نزواته العابرة. تريد أن تقيم حفلا بمناسبة عيد ميلاد والدتها على طريقة الطبقة الوسطى، لكن الحفل ينتهي الى كارثة تدفع هي ثمنها.
غير أن المشهد الأخير في الفيلم يجسد روح التفاؤل التي تغلف معظم أفلام مايك لي رغم مأساويتها وقتامة ما تصوره في الواقع، بل إن عنوان الفيلم نفسه يعكس تفاؤلا ما، ويبتعد تماما عن السخرية. ففي المشهد الأخير نرى سيريل وشيريل يصعدان للجلوس فوق سطح المنزل مع الأم العجوز، حيث يطل الجميع من أعلى كما لو كانوا يمتلكون العالم. الأم تجلس في هدوء وصمت. الضوء يغمر المكان.. إنه الاحساس بالثقة والأمل والتماسك مجددا في أشد لحظات القسوة والألم، أي في اللحظة التي يتسلل الينا الاحساس بأن الأسرة تتمزق بسبب سوء اخيتارات بعض أفرادها ووقوعهم في الوهم.
فيلم “آمال كبيرة” من نوع “الكوميديا السوداء”، أي تلك التي تفجر الضحكات من عمق اللحظات المأساوية الكامنة وراء كل موقف وكل ايماءة وحركة، وهذا النوع بالتالي من أصعب أنواع النصوص السينمائية. ولولا التجربة العريضة لمخرجه في مجال المسرح ما أمكنه كتابته بكل هذا التألق وتلك الدقة. ولذلك أيضا يأتي الأداء في الفيلم على مستوى رفيع كما في كل أفلام لي.
ولعل أهم ما يميز الفيلم أنه رغم كونه ينفذ داخل تضاريس الواقع الاجتماعي البريطاني المعاصر، إلا أنه لا يغرق في اليأس والتشاؤم بل يمتلك القدرة على الوصول بنا الى لحظة الأمل، وأن يشيع روح الحب والتساند الانساني، ولذا لقي استقبالا إيجابيا من جانب الجمهور.


إعلان