أن تمتلكَ روحاً ديمُقراطية بثورةٍ، أو بدونها
“صوت، وصورة”، هي عنوان زاويةٍ يومية يكتبها الناقد السينمائيّ “سمير فريد” في صحيفة “المصري اليوم”، وقبل أن يتهمّني أحذُ بانتحال العنوان، أنتهزها فرصةً للتأكيد بأنه يُشرّفني القراءة، والتعلم منه، هو الذي التقيتُ معه لأول مرة بعد ندوةٍ أسبوعية حضرتها في “جمعية نقاد السينما المصريين” خلال سنتي الدراسية الأولى في “المعهد العالي للسينما” بالقاهرة، وأمام مدخل غرفةٍ تحولت إلى صالة عرضٍ سينمائية صغيرة، عرّفته على نفسي:
ـ أنا هو القارئ السوريّ الذي أشرتَ إليه في “جريدة السينما”(ولم أعد أتذكر الأسباب لضياع أرشيفي الورقيّ مابين سورية، القاهرة، وباريس).
تبادلنا بعض كلمات الترحيب (وهو بالمُناسبة يتعامل مع الصغير، والكبير، الهاوي، والمُحترف، بنفس التواضع)، قال لي:
ـ طب ما تيجي معانا يا صلاح،..
في الثواني الأولى التي لحقت كلماته، فكرتُ بأنه يدعوني إلى جلسةٍ في مقهى، فقلتُ له بتردد، وبنفس لهجته المصرية التي أتقنتها سريعاً، ولازمتني سنواتٍ طويلة قبل أن أستعيد لهجتي السورية المُختلطة بلهجاتٍ عربية أخرى.
ـ أجي معاكو فين يا أستاذ سمير ؟
ـ في الجمعية طبعاً.
وبكثيرٍ من انبهار مقيم جديد في القاهرة يكتشف، يوماً بعد يوم، خبايا مصادر الثقافة السينمائية فيها، قلتُ له:
ـ إزاي ؟
ـ مش إنتَ بتكتب، وطالب في معهد السينما، خلاص، يبقى من حقك تنضمّ للجمعية، إبقى شوف الأستاذ “فتحي فرج”، وادفع الاشتراك عشان يسجلك، ويديلك الكارنيه (ومازلتُ أحتفظ ببطاقة الجمعية حتى اليوم).
وقتذاكَ، لم أكن أعرف معنى جمعية، وكنتُ أحسبها واحدةً من مؤسّسات الدولة الرسمية، خاصةً، وأنها واحدة من جمعياتٍ سينمائية اجتمعت مكاتبها في مقرٍ واحدٍ يُسمّى “مركز الثقافة السينمائية”.
لم أستوعب ذلك الانتقال السريع في مسيرتي المهنية النقدية، ولم أصدق بأنني في جمعيةٍ واحدة مع:
سمير فريد، أحمد رأفت بهجت، سامي السلاموني، علي أبو شادي، فتحي فرج، يسري نصر الله، محمد كامل القليوبي، أمير العمري، كمال رمزي، محمد خان، داود عبد السيد، خيري بشارة، عادل عبد العال، أحمد عبد العال، محسن ويفي، أحمد قاسم، خيرية البشلاوي، أحمد الحضري، د.سيد سعيد، يوسف شريف رزق الله، …
باختصار، كلّ أولئك الذين كنتُ أقرأ لهم قبل إقامتي الدراسية، وأكثر من ذلك، كان البعض منهم أساتذةً في معهد السينما(د.مدكور ثابت، هشام أبو النصر، د.محمد بسيوني).
![]() |
يوسف رزق الله مدكور ثابت |
وأصبحت السابعة مساءً من كلّ يوم أحد موعداً مقدساً لا أتخلى عنه إلاّ في حالة غيابي عن القاهرة لبعض أسابيع عطلة كنتُ أقضيها في سورية لإنجاز إجراءاتٍ إدارية.
ولكن، مازلتُ أسأل نفسي، وأتساءل، كيف قرأ “سمير فريد” مقالاتٍ كتبها “مجهولٌ” في صحيفة “الثورة” السورية (كان الناقد السينمائي “رفيق الأتاسي” يشرف على صفحاتها الثقافية)، ولم تكن تُوزع أصلاً في مصر، ولهذا السبب، كنتُ أنتهز فرصة أيّ زيارةٍ قصيرة لمدينة دمشق للذهاب إلى مقرّ الصحيفة، والجلوس في مخزنها لساعاتٍ أتصفح مجلداتها باحثاً فيها عن مقالاتي التي كنتُ أرسلها بريدياً من القاهرة، واكتشفتُ بعضها منشوراً باسم موظفة في القسم الثقافي، وهي بفعلتها، كانت تسرقني مادياً، ومعنوياً، ومنذ تلك الأيام وضعتُ نفسي في مواجهةٍ علنية، وحادّة مع لصوص الثقافة السينمائية.
***
وعلى النقيض تماماً من الروح الديمُقراطية التي يتحلى بها “سمير فريد”، مازلتُ أتذكر سلوكيّات ديكتاتورية عادية (أيّ تأقلمنا معها تماماً بلغة التحليل النفسي) كان يُمارسها أحد النقاد القدامى، وتلك الكلمات القاسية جداً التي سمعتُها منه في أكثر من مناسبة:
ـ بعد شهورٍ، ورُبما سنة، أو أكثر، وفي نفس المكان، جمعية نقاد السينما المصريين، 36 شارع شريف بالقاهرة، ونفس الموعد الأسبوعيّ، سمعتُ ذاك الناقد السينمائيّ يعبّر عن امتعاضه من قبول عضوية طلبة “المعهد العالي للسينما” في الجمعية، ورُبما كان ذاك الخلاف يثير نقاشاً في جلسات الأعضاء القدامى، أو مجلس الإدارة، ولم تكن تعنيني إطلاقاً، حيث كنتُ أعتبر نفسي عابر سبيل.
ـ في إحدى المرات، سافرتُ ـ على حسابي الشخصي ـ إلى دمشق لمُتابعة الدورة الثالثة لمهرجانها السينمائي، وكانت، بالنسبة لي، تجربةً، مفيدةً، وثرية، حيث تعرفتُ خلال فترةٍ قياسية قصيرة على عددٍ كبير من العاملين في الوسط السينمائي العربي، وانخرطتُ تماماً في فعاليات المهرجان (الكتابة التطوعيّة في النشرة اليومية، حضور الأفلام)، وفي الندوات، واللقاءات، كنتُ أذكر اسمي متبوعاً بعضو “جمعية نقاد السينما المصريين”، (ورُبما أشير أيضاً إلى دراستي في معهد السينما)، ومع أنني لم أخترع تلك الصفات، وجدتُ ناقداً مصريّاً (قبل أن يتحول إلى الإخراج) يطلب مني بأن لا أقدّم نفسي عن طريق الجمعية، لأنها لم تفوضني رسميّاً، وبالفعل التزمتُ بتعليماته بدون نقاش.
![]() |
سامي السلاموني سيد سعيد |
ولكن، المُثير للدهشة، عندما رجعتُ إلى قواعدي السينمائية المصرية، أدرج “سمير فريد” في برنامج النشاطات الشهرية لجمعية النقاد العتيدة ندوةً تحدثتُ فيها عن مهرجان دمشق،..
وكالعادة، التقيتُ بذاك الناقد السينمائي(الذي كان يعترضُ على عضوية طلبة معهد السينما)، ولا أعرف حقاً ما الذي دفعني للحديث معه عن المهرجان، وتعداد أسماء النقاد المصريين الذين حضروه، وعندما وصلتُ إلى اسم “سمير فريد”، انتفض مُنزعجاً، وردد غاضباً:
ـ إيه ده، “سمير فريد”، “سمير فريد”، هو ما فيش ناقد في مصر غير “سمير فريد” عشان يتعزم في كلّ المهرجانات، حاجة غريبة ؟
في تلك اللحظات الغريبة فعلاً (بالنسبة لي على الأقلّ)، تخيرتُ الصمت (تماماً كما فعلتُ مع الناقد الذي أصبح مخرجاً)، وقررتُ تحاشي التورط معه لاحقاً في أيّ نقاش.
ـ كان “سمير فريد” نشيطاً في إصدار الكتب، والمجلات (السينما والتاريخ، السينما والعالم،..)، يوزعها بسخاءٍ على الأعضاء، وكنتُ أحصل على نصيبي منها بدون معاناة.
بدوره، كان ذاك الناقد يُصدر أيضاً، بين الحين، والآخر، كتاباً، مجلة، أو نشرة، وفي إحدى المرات وجدت واحدةً منها بين أيدي بعض النقاد.
جمعتُ قوايّ، وطلبتُ منه نسخةً، وأتذكر بأنني تلقيتُ رداً لا يقلّ انفعالاً عن ردوده السابقة:
ـ النسخ موجودة عند “عم حسن” (أحد الموظفين في المركز)، دي تمنها كذا،..
وبسذاجةٍ زائدة قلت له:
ـ قصدي ما فيش نسخ مجانية للنقاد،..
وبنفس العدوانية التي عهدتها منه، انفجر غاضباً:
ـ هو يعني عشان نقاد لازم ياخدوها ببلاش ؟
خلال سنوات دراستي، كنتُ أنفقُ الكثير من مصروفي الشهريّ المحدود جداً في اقتناء الكتب، المجلات، والنشرات من “سور الأزبكية”، و”عم حسن” نفسه، ولم أكن أبخل عليه بشراء مطبوعاتٍ يتمّ تخزينها في “المركز”، ومن المُفترض بأنها مجانية.
ولكن، مع تلك السلوكيات المُتكررة، فهمتُ متأخراً بأنه يعاني من أزمةٍ وجودية مع الآخرين، وحالما أكملتُ دراستي، غادرتُ القاهرة إلى باريس مباشرة، وتركت عند “عم حسن” صناديق مليئة بمئات الكتب (التي اشتريتُ معظمها منه) على أمل العودة مرةً أخرى، واستعادتها، ولكن أحداث الثمانينيّات حالت دون عودتي الفورية إلى مصر، وخلال إقامتي الباريسية، وصلني نبأ الرحيل المُبكر لذاك الناقد، وعندما سنحت لي الظروف بزيارة القاهرة، ذهبتُ في يوم أحدٍ إلى “جمعية نقاد السينما المصريين”، وتبيّن لي بأنّ كتبي، ووثائقي الدراسية، والشخصية قد اختفت، وفهمتُ من البعض بأنّ “عم حسن” أصابه اليأس من عودتي، وباع كلّ ما اشتريته منه ماضياً.
![]() |
احمد الحضري على شادي |
بعد سنواتٍ أخرى، وخلال زيارة مهرجاناتية قصيرة للقاهرة، التقيتُ بناقدةٍ سينمائية مصرية، ��خلال حديثنا الوديّ تماماً، يبدو بأنني أشرتُ إلى سورية، وباستغرابٍ شديد قالت لي :
ـ إيه يا صلاح، إنتَ سوري، ولا مصري ؟
في مثل تلك الحالات، كنت أقول، ومازلت:
ـ أنا سوري، بس قلبي مصري .
ولكنها نسيت قلبي، وتساءلت كيف كنتُ عضواً في “جمعية نقاد السينما المصريين” ؟، وأجبتها، لأنني درستُ في معهد السينما.
ـ ولكن، هل كان يحق لك الانضمام إلى الجمعية ؟
شعرتُ بعدم براءة استفساراتها، وببرودةٍ أعصابٍ تعلمتها من إقامتي الباريسية، قلتُ لها :
ـ لا أعرف، من الأفضل سؤال “سمير فريد” نفسه،…
وأضيف اليوم، …ورُبما كلّ الأعضاء القدامى الذين لم يتذمروا من عضويتي في جمعيةٍ تخضع لقوانين “الشئون الاجتماعية” التي تلتزم بها جمعياتٍ أخرى كنت عضواً فيها أيضاً، مثل جمعية الفيلم، ونادي السينما، وأكثر من ذلك، كتبتُ في نشرتيهّما بانتظام، بالإضافة لكتاباتي المُتفرقة، والمُتباعدة في صحيفتيّ المساء (بمُساعدة يعقوب وهبي)، والسياسي، وبانتظام في مجلة الفنون (بمُساعدة أحمد رأفت بهجت).
ولم يتذمر أحدٌ منهم عندما مثلتُ “جمعية نقاد السينما المصريين” في لجنة تحكيم “الفيبريسي”(الإتحاد الدولي للصحافة السينمائية) في بعض المهرجانات الدولية، قبل أن أحصل على عضويةٍ فردية، ومن ثمّ التحق بالنقابة الفرنسية لنقاد السينما التي تستقبل أعضاء من جنسياتٍ مختلفة.
وأنتهزُ هذه القراءة الاسترجاعية للاعتراف بالجميل للناقد المصري “سمير فريد”، وبدون دعوته لي للانضمام إلى الجمعية، لما واظبتُ ـ ربما ـ على الكتابة بنفس الحماس، والشغف، والأهمّ، لما فكرتُ يوماً بالمجيء إلى فرنسا في زيارةٍ قصيرة، تحولت سريعاً إلى إقامةٍ دائمة، ولو كان ذلك الناقد، أو تلك الناقدة، أو غيرهما، أصحاب قرار، أو تأثير في ذلك الوقت لما تمكنتُ من الانضمام إلى الجمعية أيضاً بسبب رفض الأول عضوية طلبة معهد السينما، وتساؤلات الثانية عن جنسيتي السورية.
كان “سمير فريد”، وما يزال، يمتلك سلوكاً حضارياً، مُتفتحاً، مُنفتحاً، وديمُقراطياً، حتى وإن لم تسنح له سنوات عمره المديدة بالمُشاركة في اعتصام، مظاهرة، أو احتجاج، وفي زمنٍ تسقط فيه الأنظمة العربية تباعاً، أجد بأنّ الوقت قد حان أيضاً كي يثور كلّ واحدٍ منا على نفسه، ويتخلص من الطاغية الذي يسكن في داخله.