تجربة مايك لي السينمائية 2/2

في 1990 يفاجئنا مايك لي بفيلم آخر يعتبر من أكثر الأفلام البريطانية التي ظهرت خلال العام، شجاعة وجرأة وتميزا في الأسلوب والأداء. والفيلم الجديد يحمل عنوانا لاشك أنه يتضمن مغزى آخر يتناسب مع أجواء الموضوع الذي يتناوله، وهو “الحياة حلوة” Life is Sweet وهو عنوان مترجم حرفيا عن إسم فيلم المخرج الايطالي الشهير فيلليني “لادولشي فيتا” الذي كان قد ظهر قبل نحو ثلاثين عاما من ظهور فيلم مايك لي، وتأثرت به أجيال من المخرجين الأوروبيين.
ولكن على حين كان فيلليني يقصد حرفيا حياة اللهو والمجون والعبث التي يعيشها أفراد الطبقة الثرية، وينغمس فيها المثقفون الناطقون بلسانها، يدور فيلم مايك لي في أوساط الطبقة العاملة التي تقاوم كل أشكال الهدم التي فرضت عليها فرضا في مجتمع كان يتجه خلال الحقبة الطويلة التي سيطر فيها المحافظون على الحكم، نحو تمجيد القيم الفردية والاعلاء من شأنها، وتكريس فكرة الكسب بشتى الطرق، والتملك بأي ثمن، والبقاء للأقوى ماديا، وشحن أفكار الناس بأحلام الصعود من خلال “المشروع الخاص” أو “البيزنس”، وإهمال التعليم، وتجاهل الجيل الجديد الذي بلغ بالفعل أعتاب اليأس المطلق.

فيلم الحياة حلوة

هذاهو الإطار العام الذي صاغ فيه مايك لي رؤيته لمجتمعه من خلال السيناريو الذي كتبه بنفسه لفيلمه. وهو يختار أسرة كادحة مكونة من زوج وزوجة وابنتين مراهقتين (توأم). الزوج “آندي” يكدح في العمل لأكثر من 12 ساعة يوميا، فهو يعمل رئيسا للطباخين في احدى الشركات. أما الزوجة “ويندي” فهي تعمل في بيع ملابس الأطفال. والابنة الأولى “نتالي” تعمل في السباكة وتركيب أنظمة التدفئة المركزية، أما الابنة الثانية “نيكولا” فهي لا تفعل شيئا على الإطلاق بل تكتفي بالجلوس داخل غرفتها التي وضعت على بابها لافتة تقول “ممنوع الدخول”، وانزوت، ترفض مشاركة الأسرة الطعام، مكتفية باطلاق شعارات التمرد المعروفة لدى الحركة النسوية feminism المعادية للمجتمع الرأسمالي، والمعادية للسيطرة الذكورية بشكل عام مع درجة من الحدة والمبالغة في رفض الرجل.
يجيد المخرج- المؤلف رسم الصراعات التي تحيط بحياة أفراد الأسرة، وتناقضاتها الداخلية، وصراعها من أجل السيطرة على تلك التناقضات والاستمرار في الحياة بشكل أو آخر. وهو يحيط الشخصيات التي يقدمها بتفاصيل كثيرة مذهلة في واقعيتها وحميميتها وبساطتها الآسرة.
ولكن ليس من الممكن اعتبار فيلم “الحياة حلوة” فيلما من أفلام نسخ الواقع فالفيلم يمتليء بالتصوير الكاريكاتوري والمبالغات الملحوظة في رسم الشخصيات بما يجعله يخلق نوعا من “التغريب” يسمح لنا بتأمل تلك الشخصيات أو “الحالات” الإنسانية رغم الكوميديا التي تتفجر في الكثير من المشاهد من خلال المواقف المحكمة والمفارقات. وهي ليست كوميديا يمكن العبور عليها ونسيانها سريعا بل كوميديا سوداء قاسية تجعل المشاهدين يضحكون على أنفسهم، فكل منهم يجد من ذاته شيئا في شخصية أو أخرى من شخصيات الفيلم، أو في أحد مواقفها وتصرفاتها الطريفة.
ورغم القسوة الشديدة التي يتناول من خلالها المخرج واقع أسرة من الطبقة العاملة البريطانية في الزمن المعاصر ويوجه لها نقدا حادا، إلا أنه يبدي تعاطفا واضحا مع شخصيتي الزوج والزوجة، خاصة الزوجة التي يرمز من خلالها إلى بقايا القيم الأصيلة التي تميز الطبقة العاملة، فهي أم وعاملة شديدة الجلد والصبر، تتسم شخصيتها بالمرح، ترغب في مساعدة زوجها وأبنائها والآخرين بشتى الطرق. وهي تبذل كل ما تستطيع من جهد من أجل إحاطة المنزل الصغير الذي تعيش فيه الأسرة بجو من الدفء والمرح، ولكن المرح الذي يحيط بالشخصيات هو مرح من النوع الهستيري الذي يخفي هنا قلقا عميقا وخوفا من المستقبل وإحساسا عبثيا بسخف الحاضر وهشاشته.
الطابع الكاريكاتيري الذي يلجأ إليه مايك لي في بنائه للشخصيات يبرز على نحو خاص في شخصية “ستيف” البدين الذي يبدو أقرب إلى البلاهة، والذي يمتلك حلما خاصا يتمثل في الصعود إلى طبقة أرقى اقتصاديا عندما يفتتح مطعمه الغريب الذي يستأجر له طاهية من طراز فريد تبدو هي الأخرى وكأنها دمية أو مجرد جارية لا حول لها ولا قوة. ويجسد لي شخصية تلك الطاهية من خلال ما تتصف به من استكانة وسلبية وملابس تنتمي للقرون الوسطى إلى حد ما!
أما شخصية الابنة السلبية “نيكولا” التي تعتبر من أكثر الشخصيات غرابة في السينما البريطانية، فهي تجسيد كاريكاتيري كامل لما انتهى اليه قطاع كبير من الفتية والفتيات في بريطانيا التسعينيات: هوس بالشعارات الفارغة المتطرفة التي ترفض الكثير من القيم والتقاليد، سلبية مطلقة في التعامل مع الواقع ومع الآخرين، قلق نفسي عميق يؤدي إلى المرض، غرائبية في السلوك والمظهر وفي طريقة الحديث بل وحتى في شكل العلاقة مع الجنس الآخر.
ورغم الطابع المسرحي للفيلم الذي يتمثل في الاعتماد على الديكورات المغلقة وعلى المشاهد الطويلة والحوارات والأداء التمثيلي بدرجة أساسية، إلا أن مايك لي بمهارته المعهودة، ينجح في خلق ايقاع سريع داخل كل مشهد على حدة، وعبر أجزاء ومشاهد الفيلم ككل، كما ينجح في كسر أي شعور بالملل قد يتسرب الى المشاهدين بل ويجذبنا كثيرا إلى متابعة المصائر التي تنتهي اليها تلك “الحالة الإنسانية” اأصيلة التي يصورها.
نيكولا تعود الى وعيها بأهمية الأسرة، وتدرك أنها يجب أن تمد يدها الى الآخرين لكي تشعر بمقدار ما يحملونه لها من حب.
الأب يصاب في حادث أثناء العمل، مما يتيح أمامه ماحة زمنية للتأمل في علاقته مع أسرته ويحاول استعادة دفء الاحساس بالأسرة.
“ستيف” البدين ينتهي نهاية عبثية بعد انهيار حلمه في افتتاح مطعم لا يجد له زبائن سوى نفسه، حيث يملأ معدته بالطعام والشراب إلى أن يفقد الوعي.
الإبنة الثانية لا تكف عن الأحلام القاسية وتتحلى ببرود ظاهر يتناقض مع القلق الداخلي العميق تفيق أخيرا بعد أن تدرك حجم المأساة لتحاول أن تصنع شيئا من أجل الأسرة.
الأم تبقى محافظة على نوع من التوازن الوهمي على أمل واحد هو الاستمرار في الحياة رغم كل المصاعب.
إن فيلم “الحياة حلوة” ليس بالتأكيد فيلما من أفلام التفاؤل الكاذب، ورغم ما يمتليء به من لحظات ومواقف مرحة إلا أنه يعكس تشاؤما وسوداوية في المزاج قد تصيب بعض المشاهدين بالاحباط. إنه لا ينتهي بانفراج أزمة الشخصيات بل بما يوحي باستمرار الفشل في مجتمع فقد البوصلة وفقد اليقين بالحاضر. إنه بهذا المعنى نقيض للتفاؤل الذي كان كامنا في فيلم مايك لي السابق “آمال كبيرة” High Hopes

من فيلم آمال كبيرة

ولكن أليس الواقع نفسه مليئا بالاحباطات؟
وربما كان من أكثر البيانات التي أصدرها السينمائيون غرابة ذلك البيان الذي أصدره مايك لي ووزعه على الصحفيين عند ظهور الفيلم لكي يصف فيه تجربة فيلم “الحياة حلوة” أو بالأحرى، يلخص مغزاها.
يقول مايك لي:
“بالترتيب الأبجدي، وضمن أشياء أخرى، هذا فيلم عن العاطفة، عن الحكول، عن الاغتراب، عن فقدان الشهية” ملابس الأطفال، الباليه، الحمامات، الميلاد، الأولاد، البراز، الشموع، الرأسمالية، السيارات، الكرفانات، التساند، الطهي، التدفئة المركزية، الشيكولاتة، شرائح البطاطس، القهوة، قبعات رعاة البقر، البنات، نظام فقدان الوزن، رقص الديسكو، كيف تساعد نفسك، الطبول، الموت، الأكل، الطاقة، المتعة، أوروبا، الوجود، العائلة، الأبوة، الأمن الصناعي، الضحك، الكذب، الثوم، أسماك الزينة، الجيتارات، الآمال الكبيرة، العطلات، الاحتياج، الأمومة، التغذية، أسرة مرضى العظام، الآباء، باريس، بياف، السباكة، السياسة، الجمبري، الاغتصاب، الأسف، المطاعم، لحم الهروف، المشويات، السلع المستعملة، الجنس، الملاعق، الكلاب الشبعانة، السكر، الأملاح، البقاء، المخاطرة، الشاي، الدموي، الألسنة، التوائم، الولايات المتحدة، العنف، الدفء، الويسكي والخمر، الحرب العالمية الثانية، هدايا الكريسماس، الشباب، التعصب، والغضب.
وياله من بيان يلخص الحياة: الحلوة والمرة معا!


إعلان