الصورة الملتبسة : النقد السينمائي كمرآة للعصر
لايتوقف الناقد السينمائي اللبناني ابراهيم العريس عن الكتابة لأنها تشكل له متعة لاتحدّ. وهو لن يتوقف عن الكتابة ، فهو كما يقول متشبها بسائق دراجة هوائية ليس بوسعه التوقف ، لأنه سيقع حتما . يضيف العريس أيضا في ندوة متخصصة عن كتابه الصادر حديثا ( الصورة الملتبسة : السينما البنانية ، مبدعوها وأفلامها ) دارت وقائعها في انطلياس ( بيروت ) ضمن فعاليات المعرض الدولي للكتاب ، وبادارة من جورج اسطفان رئيس الحركة الثقافية في انطلياس ومشاركة متميزة من الزميلين الناقدين السينمائيين فيكي حبيب ونديم جرجورة ، إن كتابه ” ولد هنا عن الهيئة الثقافية قبل ثلاثين عاما حين تخطيت مصاعب الحرب وعنفها ووحشيتها لأجيء هنا وأتحدث عن السينما اللبنانية متخطيا المتاريس وأزيز الرصاص سينما كانت مخاضها صعب ومؤرق . ويمكنني القول إن الكتاب ولد من محاضرة هنا “. يضيف العريس إنه اذا كان ثمة مسار لفن السينما في لبنان ، ولتأريخ هذا الفن يكاد يشبه تاريخ لبنان كله خلال السنوات الثمانين الأخيرة ، فإن هذا المسار هو تاريخ السينما كما حققت في لبنان ، سواء أكان ذلك في البدايات أو في الأزمان اللاحقة . وربما هذا مادفع بأحد الحضور ( فادي حويك ) للقول نقلا عن الشاعر المبدع جورج جرداق للقول إن تاريخ السينما اللبنانية هو كتاريخ لبنان ، مجموعة حوداث كان يجب ألا تحدث . العريس بالطبع لايدّعي الأكاديمية في التاريخ لهذه السينما وصورتها الملتبسة ، فالكتاب هنا لايتوخى أن يزيل الالتباس الناشئ هنا عن فكرة السينما في لبنان إلى فكرة السينما اللبنانية ، فهذا التحول الذي يفصّله في كتابه أدى فيما أدى إلى ولادة تيارات سينمائية وأعمال فنية وصلت في الآونة الأخيرة إلى مستويات متقدمة جدا ، كجزء من حراك سينمائي عربي جديد ومتجدد ، إن لم يكن على صعيد الانتشار الجماهيري المحلي والعالمي . ولهذا ربما يجد الناقد السينمائي اللبناني المتمرس في كتابه الجديد مايطرح كقاعدة لنقاش ما ، ليس فقط حول تاريخ الفن السابع في لبنان ، بل ربما أيضا حول سمات المجتمع اللبناني وانقساماته وتحولاته .
رئيس الحركة الثقافية اسطفان اشار في مداخلاته إنه كذلك لن يخوض في دراسة أكاديمية أو فنية للكتاب ” الذي تابعت باهتمام بعض ماأثاره من ردات فعل من خلال ماكتب وقيل عنه وفيه “. ففي العلاقة التفاعلية بين الكتاب والمؤلف ثمة شؤون صغيرة لايدخل عليها غيره مهما انهمرت المقالات والاستنطاقات ، فهنا يكمن قناعه ، وهو ليس صورة عنه وعن صراعات ذاته ، فخلف هذا القناع الذي يميل إلى التهكم ،- وهو أرض خصبة للعداوات كما يشير اسطفان -، يخفي العريس كمّاً من المرارة في مواجهة الحلم ، ومن الواقع جبلا من الغضب انتقاما من الواقع – المهزلة في زمن الخوف والهرطقة والتخويف . ويرى اسطفان إن كل ماقيل في كتاب العريس جاء منقوصا ، اذ سيبقى هذا الحاجز عصيا على القارئ والناقد والمحاور ، ” ووحده الكاتب قادر إلى حد ما على الافراج عن بعض خباياه ، فيما تبقى الندوات واللقاءات عاجزة عن فك رموزه ، فهي وسيلة للتطرق إلى موضوعه المعلن ، والدوران من حوله على رغم ماتقدمه من اجتهادات وتشويق . لهذا يختم رئيس الحركة الثقافية في انطلياس بأن العريس نظم كتابا بالمعنى الابداعي ( كمن يتعاطى الشعر ) ، أو كمن يؤلف رواية ترهق النقاد ولاتعجب الشخصيات ، وتظل كل قراءة أخرى للكتاب مختلفة ، فهنا ” تكمن عظمة النص ، ,أي نص يفتح المجال للقراءات المتعددة اللانهائية ” .
الكاتبة السينمائية اللبنانية فيكي حبيب قالت في مداخلتها إن هموما ثلاثة شغلت الناقد العريس في كتابه ، أولها حرصه على إبراز دور الثقافة في كتابة التاريخ ، وهو هنا – تضيف حبيب – يبدو متأثراً بالمنهج الذي بلورته مدرسة الحوليات ، وهو المنهج الذي لايؤرخ من خلال الأحداث التاريخية الكبرى ، إنما يلتفت إلى منشأ الأحداث ويعتبرها محرك التاريخ الكامن في الاقتصاد والاجتماع وخصوصا الثقافة . وترى فيكي حبيب إنه في لعبة الربط بين الخاص والعام يكمن جوهر أسلوب العريس ، وهو الذي يقول دائما إن المعلومات والمعاني مرمية على الطرقات ، وعلى الناقد أو المؤرخ الاشتغال عليها ربطا وتحليلا واستنتاجا في متن شامل بدءاً من التفاصيل الصغيرة ليصل إلى الاستنتاجات الكلية : ” جامعا في هذا لعبة النقد ولعبة التأريخ في بعد واحد “. وتشير حبيب إلى أن الهمّ الثاني الذي طالما شغل العريس في هذا الكتاب ، هو همّ معرفي بامتياز انطلاقا من ايمانه بأن الفن السابع هو واحد من الفنون الأكثر ديمقرطية ، لشعبيته أولا ، وامكان وصول المعرفة إلى المتفرج العادي بأبسط الطرق ، وثانيا بسبب قدرته على تحريك المتلقي بجعله يطرح الأسئلة على نفسه ، ف ” العملية المعرفية انما تتحقق حين يبدأ الفرد بطرح علامات استفهام على نفسه وعلى الآخر وعلى مجتمعه “. وتلفت حبيب إلى أن كتاب العريس لايخلو من بعض المفاتيح المهمة في فهم الأسلوب الذي يميز كتابته السينمائية ، فهو يبدأ بطرح تساؤل عما اذا كان هناك في لبنان انتاج سينمائي جدير بأن يحكي عنه في 400 صفحة وأكثر ليصل إلى القول إن كل ماوصفه انما يشكل فقط بداية لعمل دؤوب يدعو آخرين إلى القيام به ، وهذا يدفع إلى المربع الأول حين يفاجئ القارئ بقوله إن هذه الاستنتاجات ليست نهائية ، فهو يريد فتح نقاش يحرك لعبة التحليل والتأويل لدى القارئ . بالطبع قد يرى البعض في هذا الأسلوب ( السقراطي ) مكرا ينصب أفخاخا معرفية في طريق هذا القارئ محركا لديه فضولا للوصول إلى معرفة تتجاوز أبعاد الفن المتمثلة هنا بالسينما ، وهي تصل بأسلوبه إلى حدود الخطر ، فقد اتهم الكتاب ب ( الطائفية ) لمجرد أن مؤلفه العريس صوّر طائفية المجتمع وكشف عنها في أفلام وعند مخرجين ماكان أحدهم يحدس بأنها تنطلق أصلا من رؤى طائفية .
![]() |
من الندوة |
وتضيف فيكي حبيب في معرض اشارتها للهمّ الثالث الذي يشغل العريس في كتابه اذ يتجلى في الفهم الذاتي الذي يحاول الكاتب من خلاله اشراك قارئه شغفه بفن من الفنون سار في دمائه قبل أن يختاره طواعية ، فالعريس ولد ونشأ في ظل الانتاج السينمائي الذي كان والده علي العريس أحد رواده بوصفه أول مخرج سينمائي لبناني .وتلفت حبيب إلى الفصلين اللذين كرس أولهما للإنتاج السينمائي المصري الذي تحقق في لبنان ، وثانيهما لمسيرة الانتاج السينمائي الفلسطيني في هذا البلد ” حيث قدّم جديدا في المعلومات والتحليل الفني والسياسي مؤكدا من خلال هذين الفصلين نظرته المتقدمة جدا للعروبة ، إنما في إطار التركيز على نهائية لبنان كوطن لشعبه ، يطل على الأشقاء من دون تنازلات ايديولوجية “. من جهته يرى الناقد السينمائي نديم جرجورة إن كتاب ( الصورة الملتبسة ) لايقف عند تتبع المسار التاريخي البحت لصناعة الأفلام في لبنان فقط ، لأنه ذاهب إلى المجتمع اللبناني وتحولاته منذ تأسيس دولة لبنان الكبير إلى الانهيارات الآنّية في السياسة والثقافة والفن والاعلام ” كأن استعادة التاريخ السينمائي اللبناني انعكاس للتناقض الصارخ بين ماض مضى بجماله ونزاعاته وصداماته الجمّة ، وراهن معقود على آمال التغير الابداعي ، سينمائيا بالدرجة الأولى “. ويضيف جرجورة إنه مقابل الانهيارات الراهنة بدت صناعة الأفلام لبنان حاليا أشبه بتفعيل نهضة ابداعية ما تواجه الانهيارات الأخرى وتعمل على اعادة بلورة مفهوم عصري للصورة اللبنانية المتحركة ” التي لم يكن ابراهيم العريس في كتابه هذا بعيد عنها وعن انتاجاتها الشبابية “. ويلفت جرجورة إن السينما لطالما كانت محطة أولى في النتاج النقدي للعريس ، والصورة الملتبسة إضافة تاريخية لمسار مرتبك وضائع وغير موثق كلياً لغاية الآن ، وتظل الأسئلة كثيرة حول البدايات والاشتغالات وحول التحولات أيضا . والمحطات التاريخية التي أرادها العريس محاولة نقدية لفهم دلالات الانتاج السينمائي اللبناني وجزء من قراءة الزمن وفضاءاته ، وجزء من قراءة المضامين الدرامية للأفلام السينمائية ولأشكالها المفتوحة على اختبارات غربية وتجارب عربية . ويختم جرجورة بالقول إن الصورة الملتبسة جزء من اشتغال فردي طويل الأمد ، جزء من سيرة ناقد سينمائي لايتردد أبدا عن دعم من يرى فيه ولو نقطة واحدة من الجدية والمثابرة والرغبة في التقدم ، ف ” التاريخ مع العريس رحلة في الضمير الانساني والوعي الفردي اللذين صنعا ماضيا ، وإن احتاج هذا الماضي إلى إعادات دائمة في قراءته والاشتغال عليه . بهذا المعنى ، فإن الصورة الملتبسة جزء من معنى الكتابة النقدية التي جعلها ابراهيم العريس مرآة عصر “.