السينما العراقية من عهد الى عهد “1”

محمد رُضا

سينما تتبع نظاماً
أحد إنجازات نظام صدّام حسين البائد هو أنّه أوجد مؤسسة حكومية ترعى وتموّل الأفلام العراقية بغاية خلق سينما فاعلة. لكن واحد من آثار ذلك النظام هو إساءة استخدام هذا الإنجاز سريعاً من بعد استحداثه. فهو 
 وظّف كل الأعمال الفنية ومهارات السينمائيين والمواهب المبدعة في الكتابة والإخراج والتصوير والتمثيل،  لكي تخدم النظام وحزب البعث والدولة بمفهومها القائم. هذا ما منع، والبعض قد يقول أباد، السينما العراقية التي كانت بدأت تترعرع في مطلع عهد ذلك النظام الذي لم يكترث، شأنه في ذلك شأن أنظمة عربية أخرى، الى تشجيع السينما كفن وكثقافة وترفيه، وتأسيسها كصناعة كبيرة وفي الوقت ذاته استخدام ما حلا له منها لمصالحه فيكون بذلك خدم وانتفع. ما فعله النظام آنذاك أنه وجّه، عبر مسؤوليه، كل الطاقات لأن تخدم فكر الدولة وايديولوجيّتها فقط جاعلاً من شبه المستحيل على السينما العراقية مواصلة طريق كانت شقّته بصعوبة كبيرة من الأربعينات وحتى ذلك الحين.
فإلى أن نشبت الحرب العراقية- الإيرانية كانت هناك سينما عراقية بالفعل. لم تكن السينما المنشودة، معظم الأحيان، لكن قوامها، من خبرات ومواهب وستديوهات، كانت متوفّرة ولو في حدود. ففي الأربعينات تم إنشاء أوّل ستديو سينمائي في بغداد (باسم ستديو بغداد) تبعه ستديو آخر للإنتاج والتصوير باسم “دنيا الفن”. وكلا الاستديوهين أنتجا أفلاماً حتى أواخر الخمسينات من بينها “علياء وعصام” و”عروس الفرات” و”ارحموني”،  و”من المسئول” و”ندم” و”سعيد أفندي”  و”وردة” وعدد آخر من انتاجات انقسمت ما بين الدراما والكوميديا كشأن العديد من السينمات المحلّية في المنطقة آنذاك.

ملصف فيلم القادسية ولقطة للعلايلي من نفس الفيلم

من مطلع الستينات، أخذت السينما العراقية تجد نفسها تابعة لنظام حجر عليها، وذلك تبعاً لتوالي الحكومات وفهمها المحدود الذي لابد أنه كان مستوحى من تجربة الدول الشيوعية حيث الحظر على الفكر والإبداع الا ما توجّه لخدمة الحاكم والنظام على ذلك حتى منتصف الخمسينات كانت هناك المزيد من الأفلام الترفيهية المتّجهة الى الجمهور السائد مثل”يد القدر” و”ورق الخريف” و”عودة الى الريف”. لاحقاً، هذه الحدود ضاقت أكثر حين بدأ حشر الرسالات السياسية في الأفلام العاطفية.  وأدى قيام حزب البعث بالاستيلاء على السُلطة في العراق الى مزيد من توجيه السينما لخدمته كما كان متوقّعاً
على ذلك، فإن السنوات الأولى  من حكم الرئيس صدّام حسين (الذي استلم المقاليد في العام 1979) لم تكن، سينمائياً، سيئة. كان لا يزال هناك جهد حقيقي لتقديم سينما ذات هوية وطنية وكان بعض فرسانها صاحب حدّاد ومحمد شكري جميل  وقاسم حول  وفيصل الياسري يتمتّعون بهامش من التقدير لمواهبهم ومساعيهم من قبل أن ينحسر التقدير ويصبح هؤلاء وسواهم رهينة الرغبة في تسييرهم حسب وصيّة الدولة وحدها

أفلام كبيرة
إنها الفترة التي أنجز فيها السينمائي العربي الراحل مصطفى العقّاد فيلميه الكبيرين “الرسالة” و”عمر المختار”. الفيلمان نجحا في التوجّه الى الغرب (والشرق معاً) ما جعل لزاماً  على السينما العراقية أن تخرج من حدودها بقرار. المؤسسة العامّة للسينما في بغداد، رفعت سقف الموازنات وأطلقت أفلاماً كبيرة الحجم مثل “الأسوار” و”المسألة الكبرى” لمحمد شكري جميل  و”الأيام الطويلة” لتوفيق صالح و”القادسية” لصلاح أبو سيف
   فيلم محمد شكري جميل “المسألة الكبرى” كان تحدّياً انتاجياً، فالمخرج والمؤسسة العامة للسينما أراداً عملاً يوازي “عمر المختار” الذي تمتّع، كما هو معروف، بعناصر الإنتاج الدولية من خبرات أجنبية ممتزجة مع تلك العربية. لكن رؤية  مصطفى العقّاد كانت مطعمة بممارسته الإنتاج طويلاً في الولايات المتحدة قبل تحقيقه فيلميه الشهيرين، بينما اكتفى محمد شكري جميل على طموحه. المشترك بين هذا الفيلم وفيلم “عمر المختار” هو أن كليهما أراد الحديث عن نضال فترة وأن كليهما وضع عنواناً أجنبياً مختلفاً عن العربية  فأصبح “عمر المختار” “أسد الصحراء” بالإنكليزية و”المسألة الكبرى” صار “صدام الولاءات”، وهو عنوان لا يتذكّره أحد طبعاً.

من فيلم المسألة الكبرى

المشكلة االأخرى، لم تكن كناية عن الحجم بل ما هو المرغوب من الفيلم الواحد تحقيقه. تلك الأفلام العراقية المذكورة، كانت منتجة لرسالات سياسية لا تريد التستّر وراء الموضوع بل تولّيه ولا تريد التخفّى في طيّاته بل الإستيلاء عليه. على أنها لم تكن، وهذا ضروري جدّاً في هذا المجال، أفلام هواة او أعمالاً رديئة ولو أنها، بالنسبة للمخرجين المصريين توفيق صالح (الأيام الطويلة) وصلاح أبو سيف (القادسية) لم تكن من أفضل ما حققّاه في حياتهما السينمائية.
مع اشتعال جبهة القتال العراقية- الإيرانية تراجع دور السينما في كل الاتجاهات وانتقل الحال من السيئ إلى الأسوأ مروراً بجريمة احتلال الكويت ووصولاً الى انهيار النظام بالكامل.

السؤال الذي يطرحه ذلك كلّه هو، إذا كانت السينما العراقية سبحت طويلاً في مياه الموضوع السياسي المُوجّه، ما الذي يجعلها تختلف الآن مع أفلام  مرحلة ما بعد صدّام حسين؟  أفلام مليئة بالإسقاطات والانتقادات والرسائل الموجّهة بدورها. معذورة كونها تريد أن تتناول كل تلك القضايا بعد سنوات من الكبح والقمع، لكن هل سيصنع ذلك سينما؟.
 فيلم “زمن رجل القصب” لعامر علوان واحد من الأفلام القليلة التي تجنّبت الرسالة السياسية المباشرة وبذلك تجنّبت أن تكون ضلعاً في عملية مواجهة الحاضر للماضي على نحو خطابي. فيلم رقيق و، مع مشاكل في السرد، إنساني الملامح حول ذلك العجوز الذي يترك الريف للمدينة بحثاً عن دواء لزوجته وسعيه الحثيث لإيجاد الدواء في مدينة غريبة عليه ومواجهاته مع عناوينها الاجتماعية المختلفة تكوّن ذلك الحس النابض بقيمة الإنسان المهدورة في زحام الحياة والدعة والتباين الاجتماعي الحاصل بين أهل الريف وأهل المدن. في النهاية، فإن بطله يشعر بالأمان إذ عاد الى قريته. لعلّه من هنا يستطيع أن ينتظر أيامه (أو أيام النظام) وهي تولي.


إعلان