“أمل ومجد”: إعادة اكتشاف فيلم عظيم
أمير العمري
أخيرا أصبح الفيلم البريطاني الشهير “أمل ومجد” Hope and Glory متوفرا على اسطوانات مدمجة في الأسواق العالمية في نسخة جيدة أتاحت الفرصة لإعادة مشاهدة عمل سينمائي كبير لقي عند عرضه الأول في بلاده عام 1988 إقبالا كبيرا لا يضاهيه سوى الإقبال الجماهيري الذي سبقه على فيلم بريطاني آخر هو فيلم “الطريق إلى الهند” Passage to India لديفيد لين.
وربما يكون العامل الوحيد المشترك بين الفيلمين هو أن كلا منهما يأخذنا سنوات عديدة إلى الوراء، إلى الماضي الذي كانت عليه الامبراطورية البريطانية، في نوع من الحنين الجارف بهدف تأمل الماضي واستخلاص دروسه، وربما أيضا الاستمتاع بما يحيطه من سحر خاص.
ولكن على حين كان “الطريق إلى الهند” عودة إلى المجد الامبراطوري الزائل، في محاولة لسبر أغوار العلاقة المعقدة بين الشرق والغرب، يركز “أمل ومجد” على فترة انهيار وسقوط الحلم الامبراطوري القديم وانعكاس ذلك الانهيار على أبناء الأسر “العادية” من الطبقة العاملة في المجتمع البريطاني، في زمن الحرب العالمية الثانية التي تركت تأثيرا لا يمحى من أذهان وعقول أبناء “الامبراطورية” البريطانية التي بدأت شمس تأفل مع نهاية الحرب.
أما الاختلافات بين الفيلمين فهي كثيرة وإن كانت المقارنة بينهما ليست موضوع هذا المقال. ويكفي القول إن فيلم “أمل ومجد” فيلم بريطاني أصيل، صنع خصيصا لمخاطبة الجمهور البريطاني على عمومه، وليس فيلما من تلك الأفلام متعددة الجنسيات التي تخاطب جمهور الفيلم البريطاني- الأمريكي أي ذلك النوع من الأفلام الذي يصنع في بريطانيا ولكن طبقا لمواصفات تلبي شروط السوق السينمائية في الولايات المتحدة.
لا يروي الفيلم قصة أسطورية غامضة، ولا يستعرض بطولات فردية خارقة على طراز أفلام جيمس بوند مثلا، كما لا يستعين مخرجه بأي من نجوم السينما الأمريكية، بل ولا يرد فيه أي ذكر للوجود الأمريكي، في حين أن أحداثه تنتهي عام 1942، أي في الوقت الذي أصبح اعتماد بريطانيا على “أبناء العم” في الولايات المتحدة في بقائها وصمودها أمام التحدي الألماني خلال الحرب العالمية الثانية حقيقة راسخة.
ولعل أول ما يلفت النظر في هذا الفيلم الذي أخرجه جون بورمان، أحد كبار السينمائيين البريطانيين، كونه أحد الأفلام البريطانية القليلة التي تعتمد أساسا، على الذاكرة الشخصية، بل وعلى السيرة الذاتية لمخرجه ومبدعه، فالمعروف أن السينمائيين البريطانيين من أكثر السينمائيين في العالم نحفظا في التطرق إلى “الذاتي”، أي إلى رواية سيرة حياتهم مقارنة مع نظرائهم الفرنسيين والإيطاليين مثلا، ومع باقي السينمائيين الأوروبيين بوجه عام.
وثانيا مما يميز كثيرا فيلم “أمل ومجد” سمة الإغراق في “المحلية”، أي في تأمل السمات الخاصة المميزة لعلاقة الفنان بمحيطه، بالبيئة التي نشأ فيها وخبرها جيدا، بالشخصيات التي تركت تأثيرها الأكبر عليه في مرحلة الطفولة والمراهقة، الأمر الذي يجعل منه عملا فنيا للإنسانية بأسرها، شأنه في هذا شأن الأعمال الكبيرة في الفن.
![]() |
لا تقوم دراما الفيلم على قصة محكمة الصنع نتابعها من البداية إلى الذروة إلى حين انفراج “الأزمة” أو حتى النهاية المنطقية للأحدث، لكنها أقرب إلى “الدراما العائلية” البسيطة المتحررة التي تعتمد على رصد الكثير من التفاصيل والملاحظات الدقيقة، التي سجلها الفنان في ذاكرته، مرت عليها عيناه، وحفرت في عقله، خلال فترة طفولته التي حدث أنها شهدت أيضا انهيار مفاهيم عصر بأكمله، مع تداعي الأطر القديمة، الثقافية والفكرية، التي كانت قائمة، بعد نشوب الحرب العالمية الثانية مباشرة.
تتركز أحداث الفيلم في منطقة شعبية في ضواحي مدينة لندن، حيث يعيش بطلنا “بيل” – وهو طفل فيذ التاسعة من عمره- مع أسرته المكونة من والده ووالدته وشقيقتيه في منزل الأسرة القائم وسط مجموعة من المنازل المتشابهة التي تقطنها عائلات تنتمي للطبقة العاملة الإنجليزية.
وبعد أن تعلن بريطانيا الحرب رسميا على ألمانيا النازية، وبدء الغارات الجوية الألمانية العنيفة والقصف المتواصل لمدينة لندن، تنقلب حياة الأسرة رأسا على عقب، فيتم استدعاء الأب “كلافي” لأداء الدة العسكرية، وثم يعود بعد فترة قصيرة لكي يخبر زوجته أنهم وجدوا أنه غير لائق للاشتراك في العمليات القتالية بسبب تقدمه في السن نسبيا، فيسندون له وظيفة في الخطوط الخلفية تعتمد على الأعمال الكتابية، ثم يرحل مجددا تاركا أسرته تواجه تداعيات الأحداث الدرامية الصاخبة دون عائل.
هنا تقرر الأم إرسال “بيل” مع شقيقته الصغرى للاقامة في استراليا كما فعلت مئات الأسر من الطبقة العاملة في تلك الفترة. إلا أن الأم التي تشعر بارتباط شديد بطفليها تتراجع عن قرارها بعد أن يكون الطفلان قد أصبحا على ظهر سفينة، وتنجح في استعادتهما إليها.
وهكذا يقدر لبيل أن يبقى وأن يصبح شاهدا على أحداث الفترة.
ومع زيادة حدة وكثافة الغارات الجوية والقصف يصاب مبنى المدرسة وتتهدم بعض المنازل المجاورة لمنزل الأسرة، وينتشر أطفال الحي، ومن بينهم بطلنا الصغير “بيل”، يلعبون ويلهون وسط حطام المنازل وبقايا قطع الأثاث المحترقة، ويتضح تأثرهم في ألعابهم بأجواء الحرب.
من ناحية أخرى نتابع نمو علاقة عاطفية بين “دوان” شقيقة بيل الكبرى (وهي في الرابعة عشرة من عمرها) وجندي كندي يخدم في القاعدة العسكرية القريبة. ونرى أيضا كيف يختزن بيل في ذاكرته كل ما يشاهده من محاولات مستحيلة تبذلها أسرته وأسر الجيران للتكيف مع واقع الحرب.
في الفيلم الكثير من لحظات المرح: سكان الحي يحاولون دائما الاحتفال بالحياة رغم الدمار المنتشر، تجسيد حس السخرية والمرح عند الطبقة الشعبية الانجليزية من خلال ما يلقيه الناس من نكات، واجتماعاتهم للاحتفال الجماعي في المناسبات العامة والأعياد وانشاد الأناشيد والأغنيات معا.
ولكن هناك أيضا الكثير من لحظات الحزن والأسى والألم. بطلنا الصغير مثلا، يغرم بفتاة تدعى “بولين” لكن منزل أسرتها يتعرض للقصف مما يؤدي الى وفاة والدتها تحت الأنقاض.
وذات يوم تعود أسرة بيل من نزهة على الشاطيء لكي تجد منزلها وقد احترق بالكامل ولكن بسبب حريق لا علاقة له بالقصف الجوي بل لسبب آخر من تلك الأسباب “العادية”. هنا تجد الأسرة نفسها مضطرة للانتقال الى المنزل الريفي للجدة، الذي يقع في بقعة شديدة السحر والجمال، حيث تحيط به مياه نهر التايمز من كل جهة. يتنافس الجد والحفيد في لعب الكريكيت، وكيف يقوم الطفل “بيل” بتطبيق الدرس الذي سبق أن علمه اياه والده في بداية الفيلم أي كيفية تضليل الخصم وخداعه، ويتمكن بذلك من هزيمة جده، ونشهد كيف يتم الزواج الغريب بين الجندي الكندي وشقيقة بيل “دوان” بعد أن تحمل منه، وكيف يأتي جنودمن الكتيبة الكندي للقبض على الجندي يوم زفافه بعد أن أعرب عن رغبته في الاستقرار في “الأرض الجديدة” بعد الزواج أي في الذهاب مع عروسه الشابة الى الولايات المتحدة!.
![]() |
في الفيلم أيضا ذكريات عن علاقة عاطفية نشأت لبعض الوقت بين والدة بيل (جريس) وزوج شقيقتها، يراقبها بيل بمتعة خاصة، وكيف يتلصص أيضا على علاقة شقيقته بالكندي، كما يصور الفيلم باسهاب الكثير من تفاصيل الفترة في التجمع داخل الحانات والمراقص، ويستعرض الأغاني المميزة لتلك الفترة، قبل أن نعود إلى تصوير تساقط القنابل والصواريخ الألمانية وكيف يتعامل معها السكان برباطة جأش.
وينتهي الفيلم بعودة بيل بصحبة جده إلى المدرسة لاستئناف دراسته بعد أن انتهاء العطلة الصيفية لكنه يفاجأ مع زملائه، بانهيار مبنى المدرسة بفعل ما تساقط من قنابل. هنا ينتهي الفيلم وبيل يتذكر ولكن بصوت المخرج جون بورمان، كيف أصبح هذا اليوم أسعد أيام حياته بعد أن أصبحت الفرصة متاحة أمامه، للخلاص من الهم الثقيل للدراسة، والعودة مجددا إلى اللعب والمرح على ضفة نهر التايمز.
ولعل من أكث ما يلفت النظر في هذا الفيلم تصويره المكثف والأخاذ، لقدرة الناس البسطاء على العيش، والاستمرار في الحياة، والقدرة على الاستمتاع بها أيضا، رغم كل ما يتعرضون له في حياتهم من معاناة بل وتهديد مستمر بالموت. إنه احتفال بالحياة وتجسيد الانتصار لها على الموت.
ولاشك أن تعليق جون بورمان بصوته داخل الفيلم كراوية للأحداث ورابط بينها، يكسب الفيلم المصداقية حينما يجعل منه شاهدا دقيقا على الفترة، كما يمتلك الشجاعة لكي يروي بكل جرأة في نوع من “سينما الاعترافات” كل ما كان يشهده داخل عائلته من أحدث وصراعات ومغامرات صغيرة، فيها من السقطات كما فيها من الصمود والحب والجدال المفعم بالحيوية والحياة.
وفي غمرة احساسه بالحب وبالجو الحميمي الذي يربطه بأسرته ويربط أسرته بأسر الجيران، يوجه الكثير من الغمزات الساخرة هنا وهناك، حول التناقضات العديدة في محيط مجتمعه.
إننا نرى، على سبيل المثال، كيف يقوم المعلم المبتديء بتعليم الأطفال التماسك والنظام والانضباط العسكري الصارم، متشبها بالتقاليد النازية، كما نرى المعلمة التي تتحدث بصوتها القوي الجامد المتزمت، عن عظمة الامبراطورية وأمجادها وما تنتظره من أبنائها من تضحيات دفاعا عن مستعمراتها الممتدة، والتي تشير هي إليها باللون الأحمر على الخريطة، في أرجاء العالم المختلفة. ولاشك أن هناك اشارة واضحة من خلال تلك الشخصية إلى رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مرجريت تاتشر التي عرفت بميلها إلى استدعاء الأمجاد الامبراطورية الزائلة كوسيلة للتلاعب بالنزعة الوطنية للتغلب على فشل السياسة الداخلية وما أدت اليه من تفاقم المشاكل الاقتصادية في أوساط الطبقات الفقيرة. ولا يفتأ التلاميذ يسخرون من تلك المعلمة، ويضحكون منها ولا يكفون عن اثارة استفزازها طيلة الوقت.
إن فيلم “أمل ومجد” نموذج للفيلم المكتمل بصورة مدهشة، فليس هناك مشهد واحد فيه زائد عن الحاجة أو خارج السياق، وبالتالي ليس من الممكن الاستغناء عن أي من مشاهده، كما لا يمكن اضافة مزيد من اللقطات. إنه بناء متوازن بدرجة كبيرة، يعتمد على التدفق السريع للإيقاع ولكن دون إفراط أو استطرادات، كما يعتمد أسلوب الاخراج على التحكم المدهش في أداء مجموعة الممثلين، وعلى تجسيد العلاقة بين الشخصيات والمكان، ودقة التفاصيل الخاصة بالديكورات والاكسسوارات، والاستفادة من البناء القصصي في “المضارع” ولكن مع نزعة رومانسية خاصة في رواية “الماضي”. ولاشك أن بلاغة أسلوب التصوير والقدرة الهائلة على تقديم تلك المشاهد المعقدة باستخدام مصادر الضوء الطبيعية يعود الى البراعة الاحترافية عند مدير التصوير الكبير فيليب روسيلوت.
كان “أمل ومجد” أول فيلم بريطاني يدور تصويره بالكامل داخل الاستديو. وقد قام بورمان ومساعدوه، بتشييد شارع كامل بمنازله بالحجم الطبيعي داخل الاستديو، وأعادوا تجسيد الخرائب التي تنتج عن القصف الجوي في مشاهد طويلة تتحرك فيها الكاميرا حركات معقدة بواسطة الروافع “الكرين”، كما تمكن بورمان من تصوير عدة مناطيد حقيقية تحلق فوق المنازل بطريقة تصل إلى درجة الاحتكاك بأسطح تلك المنازل في حين يمرح الأطفال في الشارع بطريقة طبيعية تماما.
ونجح بورمان في توظيف المؤثرات الخاصة في مشاهد الانفجارات والحرائق والانهيارات، وحقق سيطرة مدهشة على الأداء، ولاشك أن الممثلة الكبيرة الراحلة ساره مايلز تألقت في هذا الفيلم كثيرا فيذ دور الأم.
ويعتبر الديكور الهائل الذي تدور فيه الأحداث كان أضخم ديكور في تاريخ السينما البريطانية منذ الديكورات التي شيدت لفيلم “تخريب” (1936) للمخرج الفريد هيتشكوك. وقد شيدت ديكورات فيلم “أمل ومجد” على مساحة بلغت 50 فدانا، وكانت كل الحرائق التي صورت في الفيلم طبيعية، الأمر الذي كان يشكل مخاطرة حقيقية بالنسبة للممثلين والعاملين في الفيلم.
إن فيلم “أمل ومجد” ذروة المزاوجة بين سينما الرؤية الذاتية، وتطويع الامكانيات الفنية والتقنية لتجسيد هذه الرؤية دون افتعال أي مبالغة أو ابهار مصطنع.