بين هيتشكوك وأربعة عمالقة آخرين

كيف يتساوى السينمائي مع الفنّان؟
 
محمد رُضا

“لا دولتشي فيتا” لفديريكو فيلليني

سنة 1960 شهدت عدداً غير معتاد من الأفلام الرائعة. في مصر “بداية ونهاية” لصلاح أبو سيف و”الرجل الثاني” لكمال الشيخ. في فرنسا “نفس لاهث” لجان-لوك غودار و”اقتل لاعب البيانو” لفرنسوا تروفو. من ايطاليا “لا دولتشي فيتا” لفديريكو فيلليني و”إمرأتان” لفيتوريو دي سيكا و”المغامرة” لمايكل أنجلو أنطونيوني. وبسهولة يمكن تعداد نحو 80 فيلم جيّد وما فوق اشتركت في تقديمها، عدا الدول المذكورة، اليابان والمكسيك واليونان، وأسبانيا، ويوغوسلافيا (أيامها) والإتحاد السوفييتي والهند، وبريطانياوالسويد والمكسيك من بين أخرى.
حصاد تلك السنة خمسة أفلام اعتبرها معظم النقاد تحفاً  ولا زالوا:
“سايكو” لألفرد هيتشكوك، ” “الحياة حلوة” (او “لا دولتشي فيتا”) لفديريكو فيلليني، “المغامرة” لمايكلأنجلو أنطونيوني و”روكو وأشقّائه” للوكينو فيسكونتي (الثلاثة الأخيرة إيطالية).
إليها يمكن ضم عشرين فيلم تقترب منها إجادة لكن ليس بنفس الإجماع من بينها “شهادة أورفيوس” لجان كوكتو (فرنسا)، “توم البصباص” لمايكل باول (بريطانيا)، “سبارتاكوس” لستانلي كوبريك (الولايات المتحدة)، “عينان بلا وجه” لجورج فرانجو (فرنسا) و”مساء السبت وصباح الأحد” لكارل رايز (بريطانيا).
كان عاماً حافلاً بالأحداث السياسية: بريجنيف أصبح رئيساً للاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة واعترفت بإرسال طائرة تجسس فوق الإتحاد السو?ييتي (أسقطها الروس وقبضوا على طيّارها) بينما أصبح جون كندي رئيساً للولايات المتحدة  واستقلت الكونغو وتم إلقاء القبض على رئيس الغستابو السابق أدولف أيخمان.
لكن لا شيء من هذه الأحداث كانت السينما ستسجّله لحينها، ولو أن بعض الأحداث كانت سُجّلت من قبل، فاللجوء إلى إثارة التعاطف حيال ما حل باليهود كان بدأ مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة بين الروس والأميركيين حلّت محل الحرب الساخنة بينهما وبين الألمان وباقي دول المحور. 
 بالنسبة لنقاد آخرين فإن “سايكو” لا يوازي الأفلام الأربعة الأخرى التي معه في تلك المجموعة الأولى من حيث أنه الوحيد الذي يدور حول حكاية تتصدّر العمل السينمائي، في حين أن الشخصيات المختلفة في الأفلام الأخرى هي التي تفعل ذلك واضعة الحكاية في خط خلفي.
لكن إذا ما كان هناك فيلم واحد يستطيع أن يبرهن على أن المسألة أوسع إطاراً من أن تحدد بمكمن الحكاية ومكمن الشخصية فهو “سايكو” (كما في بضعة من أفلام هيتشكوكية).
هيتشكوك ضد أنطونيوني وغودار و?يسكونتي وفيلليني لابد أنه الجنون بعينه. كيف يتساوي سينمائي مع الفنان؟
لكن الحقيقة هي أن هذا السينمائي لا يقل فنّاً. نعم يختلف اهتماماً ويختلف أسلوباً لكنه لا يقل فنّاً. النقاد الفرنسيون أنفسهم (غودار، تروفو، شابرول وآخرين) اعتبروا ألفرد هيتشكوك مخرجاً مؤلّفاً. بذلك كانوا الأسبق لنقله من وسط المخرجين المنفّذين (ولو الجيّدين عموماً) الى مستوى المخرج الفنان الذي يعمل بمقتضى حالة تعبيرية خاصّة.
إذا كان ذلك لا يكفي، فلنا أن نرصد أن واحداً من حالات العمل الفني الأساسية هي تفضيل البحث في الشخصيات على سرد القصّة. في ذلك لدينا بين تلك الروائع المذكورة حكاية الرجل الضائع الذي لا يعرف كيف يحقق ذاته، ولا بديلها في فيلم فديريكو فيلليني “الحياة حلوة”، ولدينا متابعة فيسكونتي لحياة خمسة أشقّاء في “روكو وأشقائه”، وبحث أنطونيوني الذي لا يتوقّف عن المرأة ولغزها في “المغامرة” ثم رصد غودار المؤلم والساخر معاً للشاب الفرنسي الذي وثق بمن يحب أكثر قليلاً من اللازم في “نفس لاهث”. كلّها أفلام تضع الشخصية أمام القصّة وتبدّيها لأنها تريد التعمّق فيها. فما الذي يوفّره فيلم هيتشكوك؟
حكاية امرأة تسرق رئيسها وتنطلق هاربة بسيارتها من مدينة فينكس، أريزونا قاصدة كاليفورنيا وعلى الطريق تتوقّف لتنام الليلة في فندق يديره شاب يعاني انفصاما خطيراً في الشخصية. بعد أقل من خمس دقائق من دخولها الغرفة ينقض عليها بالسكين مرتدياً ملابس أمّه وباروكة شعرها ومتقمّصاً شخصيّتها بالكامل؟
لكن قبل أن يؤكد البعض أن الفيلم إذاً بلا عمق شخصي، يجب التأكيد على أن ثلث الساعة الأولى من الفيلم، تلك الممتدة من بداية الفيلم وحتى مقتل ما كان يفترض بأن تكون بطلة الحكاية، هو بنفس العمق لكل الشخصيات في الأفلام الأخرى. قدرة هيتشكوك البديعة هي حياكة الاهتمام الشخصي بالحلقة ذاتها التي تسرد الموقف.
في تتابع واثق يقدّم لنا امرأة ترتكب جريمتين. واحدة تؤدي إلى ثانية: هي على علاقة مع رجل متزوّج (وكانت مستويات التعامل الأخلاقي لدى العائلات الأميركية أعلى مما هي اليوم ما شكّل ردّ فعل محافظة ومدينة للبطلة) وهي حتى تهرب مع عشيقها وتساعده في طلاقه، تسرق رئيسها. في لقطات مقتصدة يوفّر المخرج نظرة على ذلك الرئيس وشركائه. بذلك يمنحنا وضعاً اجتماعياً ملازماً. ومنذ خروجها من المكتب إلى المصرف إلى السيارة لكي تهرب بها من المدينة ونحن نلاحق سمات اجتماعية، والأهم شخصية.

هيتشكوك أثناء فيلم سايكو

فالمجرم أيضاً شخص يُتابع ويثير الاهتمام كما الشخصية الرائدة، طالما هو ضحية، وهذه المرأة ضحية بالفعل. ضحيّة حبّها وضحية عدم رضاها عن عملها ثم ضحية مجرم ذي حالة نفسية شائكة.
ما جعل فيلم هيتشكوك غير الذاتي بالضرورة، كشأن الأفلام الأخرى، يقف في مستوى تلك الأفلام هو التزامه بأسلوب فني لسرد ما نراه. من اللقطة الأولى التي تحلّق فيها الكاميرا كعين صقر فوق المدينة قبل أن تبحث لنفسها عن نافذة تدخلها وتطل منها على ما يقع في داخلها، إلى باقي الأحداث ومنوال تقديمها في كل نحو وعلى كل صعيد من الاختيارات. حتى تحويلنا إلى مشاركين في الذنب (وهي عادة ما نجح مخرج آخر في فعله كما نجح هيتشكوك) هو أكثر من مجرد أين وضع الكاميرا حين كان هذا الممثل أو ذاك يقوم بهذا الفعل او سواه.
فقط السينمائي الجيّد والناقد الجيّد يستطيعان أن يدركا كيف يحق لهيتشكوك أن يوضع على قدم المساواة مع فنانين أمثال فيلليني وأنطونيوني وغودار وفيسكونتي. وذلك لأنهما معاً لابد يعرفان كيف بنى المخرج كل لقطة (وبل كل كادر) من فيلمه بناءاً دقيقاً. وهذا ليس بالأمر السهل سواء أكان المخرج من أتباع سينما المؤلّف او مجرد سينمائي جيّد.


إعلان