في الخليج السينمائيّ:” كوران” المُسافر بلا ظل
مهما اجتهدنا في التفسيرات، دققنا في السردّ الفيلميّ، وفحصنا تدّفق الصور، لن نعثر في أفلام السينمائي الفرنسي “جيرار كوران” على ملامح حكاية، ولكن، سوف نصل إلى خلاصةٍ تحليليّة تجعلنا نقتنعُ بأنّ عموم أفلامه تُشكلّ معاً حكايةً بحدّ ذاتها، يتطوّع في تجسيدها آلاف الشخصيات، المعروفة، والغير معروفة في الوسط السينمائيّ، وتتوزع أحداثها في عددٍ مُماثلٍ لها من الأمكنة الجغرافية التي تسجلها الكاميرا معها، أو بدونها.
والعارف بتاريخ الإرهاصات الأولى السابقة لاكتشاف “السينماتوغراف”، واللاحقة لها بقليلٍ من السنواتـ،، يدرك، بدون معاناةٍ ذهنية، بأنّ “جيرار كوران” يصنع السينما قبل أن يختطفها المسرح، والرواية، وتتحوّل سريعاً إلى فنٍ قصصيّ، وتُحيد عن مسيرتها البصرية (ومن ثمّ السمعية/البصرية) الأقرب إلى الموسيقى، والفنون التشكيلية.
بارتكازها على آليّات الحكاية، تبعت السينما قدرها الذي لم تستطع الفكاك منه، ولا نريد أصلاً بأن تتخلى عنه، ويكفينا، بأنها خلال تاريخها، امتلكت خاصيّات التلوّن، والتنوّع، وتحلت بإمكانيات تدمير عناصرها السردية، والجمالية، وإعادة صياغتها من جديدٍ بفضل سينمائيين مجددين، مغايرين، ثوريين بإبداعاتهم، وهكذا، يعتبرُ “جيرار كوران” نفسه واحداً من أحفاد “الأخوين لوميّير”، لأنه، منذ بداية مسيرته السينمائية في عام 1975 وحتى اليوم، يقتفي أثريّهما، ويستوحي دهشة، وسحر الأشرطة الأولى في تاريخ السينما، وحتى بساطتها، وسذاجتها.
وكما تعشق عدسة الكاميرا التحديق، والترّبص بأقلّ إيماءة في وجوه الشخصيات التي تُصورها(سلسلة سينماتون)، فإنها تتغزّل كثيراً بالأماكن، وتُسجلها في لقطاتٍ ثابتة (سلسلة سينما، ومن نافذة غرفة فندق..)، حركات ترافلينغ أمامية (سلسلة من سيارتي)، أو بانورامية لأحد جوانبها (سلسلة دفتر ملاحظات فيلمية).
“جيرار كوران” يُصوّر كلّ شيءٍ بدون مللٍ من لقطاتٍ تستغرق فترةً زمنية طويلة جداً على الشاشة، وتتخطى بما يكفي حسابات الإيقاع المونتاجيّ السرديّ، ولا يتعب من أخرى ثابتة، أو حركات المُتابعة “ترافلينغ” المُستديمة، ولا حتى التكرار، أو الرتابة،..
الصور التي تلتقطها الكاميرا لا تشبه أبداً أصولها، فهو يمتلك البراعة في تحويل اليوميّ، الاعتياديّ، والمألوف إلى خياليّ، تخيّيليّ، وحلميّ، وخاصةً سلسلته المُسمّاة “دفتر ملاحظات فيلمية”، والتي يصورها، ويعرضها في حالتها السالبة/نيجاتيف، وتبدو الصور وكأنها خارجةً لتوّها من بقايا حلمٍ، أو جهاز نسخ (فوتوكوبي)، وهكذا، من الصعب الاعتقاد بأنّ ينجزُ أفلاماً تسجيلية/وثائقية، حتى وإن كانت تتغذى كثيراً من الآليّات المألوفة في العمل التسجيليّ/الوثائقيّ.
أفلامٌ استثنائيةٌ تضع المتفرج في حالتيّن متناقضتيّن : النفور منها فوراً، والابتعاد عنها مئات الكيلومترات، أو الانجذاب المغناطيسيّ نحوها، التعلق بها، والتأقلم مع مفرداتها الجمالية، ويمكن أن يصل الأمر إلى إدمان مشاهدتها بعد تحويلها إلى حبوبٍ/أفلام مُهدئة للأعصاب تُنسينا عذاباتنا الوجودية .
ببساطة (وتعقيد إن تطلب الأمر)، تُدربنا أفلام “جيرار كوران” على المُشاهدة الصعبة، والمؤلمة، تُشجعنا على التكاسل في البحث القسريّ عن أيّ محتوى، مضمون، أو معنى، تُوجه أحاسيسنا مباشرةً نحو الصور، والأصوات (الموسيقى عادةً) المُتدّفقة أمامنا على الشاشة شعراً بصريا/صوتياً، تساعدنا على وضع مسافة مع القضايا الصغرى، والكبرى التي تشغلنا، تُغرقنا في حالةٍ وجدانية، تطهر أرواحنا، تغسل مخزوننا البصريّ المُزدحم بالخطايا، وتغربل ذائقتنا اللاهثة خلف الأحداث الخارقة في مشهديتها.
وإذا كان مفهوم “رجل الكاميرا” قد ارتبط في أدبيات السينما، وأذهاننا بالسوفييتيّ “دزيغا فيرتوف”، أجد بأنه ينطبق أكثر على “جيرار كوران” الذي لا يتلاعب مونتاجياً بالسردّ بحثاً عن أفكارٍ جدلية.
هو في حالة تصويرٍ دائمة، تجوالٌ طقسيٌّ للبحث عن صورٍ هاربة لم تلتهمها عدسة الكاميرا بعد.
لقد ضرب “جيرار كوران” أرقاماً قياسية في سرعة إنجاز أفلامه التي تستغرق عادةً زمن تصويرها، وهذه الحقيقة وحدها تُفسر غزارة إنتاجه مع أننا نقول عنه ـ تندرّاًـ بأنه السينمائيّ الأكثر كسلاً في العالم.
وكما يطلب من الشخصيات التي يصورها في “سينماتون” بأن تفعل ما تشاء أمام الكاميرا لمدة ثلاثة دقائق، وبعض الثواني، فإنه في أفلامٍ أخرى يسطو على مشاهد كاملة من أعمال سينمائيين كبار كي يُطعم بها أفلامه، ويُعتبر “جان لوك غودار” من أكثر ضحاياه، كما قادته الجرأة إلى حدّ ضغط بعض هذه الأفلام، وتقليص مدتها الزمنية من ساعتين، أو ساعة، ونصف إلى بعض الدقائق، باستخدام تقنية معقدة تستخلص صورةً واحدة، أو اثنتيّن من كلّ لقطة في الفيلم المُراد ضغطه، ولم يتوقف جنونه عند هذا الحدّ، بل يلجأ أحياناً إلى فكُّ الضغط عنها، وإعادتها إلى حالتها الأصلية، أو.. تقريباً.

أنجز فيها 70 ساعة بورترهات
كما أوحى له مشروعه “سينماتون” الذي انطلق في عام 1978 بإنجاز سلاسل من البورتريهات الثنائية، والجماعية، وحتى عن القطط، والكلاب.
ولم يترك صالة سينما واحدة في هذا العالم عرضت فيلماً، أو مجموعةً من أفلامه، ولا محطة قطار وصل إليها، أو غادرها بدون أن يصور واجهاتها، ولم يدع فندقاً مكث فيه ليلةً، أو حزمةً من الليالي بدون أن يتجول حوله، ويسجل الأماكن المُحيطة به، ولم يعبر طريقاً بسيارته بدون أن يوثق بعض اللحظات من رحلته،..
وهكذا، تشكلت لديه سلاسل أخرى تحمل عناوين : محطة، من نافذة غرفة فندق، سينما، من سيارتي، ..بدون أن ننسى الأفلام التي صورها وأطلق عليها “دفتر ملاحظاتٍ فيلميّة”.
أخيراً، إذا أردنا التحقق من صحة المُصطلحات المُستخدمة في الثقافة السينمائية العربية، يتوّجب علينا مشاهدةً متيقظةً، وحانية لأعمال “جيرار كوران” كي نُدرك المعنى الأكثر اقتراباً من السينما الصافية، الشعرية، والقصيدة السينمائية، وربما نُصحح وجهات نظرنا المُبهمة حول مفهوم السينمائيّ المُستقل.
خلال أيام الدورة الرابعة لمهرجان الخليج السينمائي، والتي سوف تنعقد في دبي من 14 وحتى 20 أبريل2011، إذا التقى أحدكم برجلٍ خمسينيّ، أبيضَ الشعر، يضع كاميرا فيديو صغيرة على حاملٍ، ويصور واجهة صالة سينما، أو يحوم بها حول الفندق الذي يُقيم فيه، أو يُثبتها أمام أحد الضيوف، لا تشغلوا بالكم كثيراً بما يفعل، دعوه يعمل بهدوءٍ، وصمتٍ، إنه “جيرار كوران” السينمائيّ “المُسافر بلا ظلّ”*، ينجزُ أفلاماً أخرى سوف تُضاف إلى ذخيرةٍ سينمائية مُتشابكة، وعصيّة على التصنيف، رُبما يحبها البعض من هواة السينما “المهووسين” الذين أرهقتهم قصص الأفلام، وحكاياتها، ويلعنها آخرون يفضلون السينما التي تعودوا عليها، ورُبما يصل بهم الحال إلى القول :
هل هذه سينما حقاً ؟
وقبل أن يتوقف هؤلاء طويلاً عند علامة الاستفهام، سوف يتصفحوا كتاباً يقترب قليلاً من أعمال “جيرار كوران” هو حصيلة مقالاتٍ، دراساتٍ، وحواراتٍ نُشرت في وسائل إعلامية عربية مختلفة، وبشكلٍ خاصّ في موقع “الجزيرة الوثائقية”، والذي لم يضيع صبر المُشرف عليه هباءً.
وسوف يتابعوا ربما تظاهرة إحتفائية غير مألوفة في تاريخ المهرجانات السينمائية العربية تتضمّن مجموعةً مُنتقاة من أعمال هذا السينمائيّ تُعرض بشكلٍّ متواصلٍ على شاشات فيديو كبيرة مُوزعة في 11
مكاناً مختلفاً حول صالات العرض :
32 فيلماً طويلاً.
6 أفلام متوسطة الطول.
4 أفلام قصيرة.
ونماذج من سلاسل سينمائية، وحوالي مائة “سينماتون” (بورتريه).
هامش :
* “المُسافرٌ بلا ظلّ” عنوان فيلم لـ “جير كوران” من سلسلة “ملاحظات فيلميّة” (29 يونيو-6 أغسطس 1983)، إنتاج عام 1983، 74 دقيقة.