النادي السينمائي في دمشق يعيد ذاكرته… وحياته

حكاية النادي السينمائي في سورية هي حكاية طويلة. حكاية لا يمكن فصلها عن حكاية عمر أميرلاي، العمود الفقري للنادي، وعن حكاية السينما السورية في أوهج أوقاتها وفي أحلكها، وفي المحصلة هي حكاية حقبة في سورية ليس غياب النادي وحضوره فيها على ساحة الخارطة الثقافية إلا مؤشرا هاما على حال البلد… غياب وحضور الحريات العامة… “نتوء” أو ضمور الحراك المدني، السياسي، الثقافي، الفكري… بداية من دمشق وثم في مدن أخرى…
حكاية النادي صراع لم يبدأ مع بدايته، بين سينمائيين عادوا –غالباً- من الخارج بعد إنهاء دراستهم الأكاديمية

محملين بكل خبراتهم المكتسبة: الأكاديمية السينمائية، والاجتماعية، الفكرية وحتى السياسية (ربما، خصوصاً السياسية) لتتبلور وتتمظهر جميعها ليس فقط في صناعة أفلام، ولكن أيضاً بإنشاء نادٍ للسينما، خطوة تؤكد وتدل على رغبة مؤسسيه في الانخراط أكثر في اللعبة “الحياتية” بكل أبعادها وكأنها شيء لا ينفصم عن اللعبة السينمائية عينها، كما رأى على ما يبدو مؤسسو النادي، العائدين من بلدان مختلفة، وتبدو متناقضة في ثقافاتها أو على الأقل في بنية أنظمتها السياسية وأيديولوجياتها، وفي مرحلة امتازت على الصعيد العالمي بانقساماتها الحادة… وبين، منظومة خاصة بالبلد هذه المرة سياسية، رقابية كانت حجر عثرة أمام المشاريع الجديدة السينمائية كما المسرحية على وجه الخصوص، كما كانت حجر عثرة أيضاً أمام ملامح “الجديد” في تفاصيل الحياة الأخرى.. في مجتمع كان موعوداً بأنوار التطوير بعد غليان وتفاعل على مدى عقدين قبل سبعينيات القرن العشرين.

نادي دمشق السينمائي “في المركز الثقافي الفرنسي”
والآن وبعد عودة النادي السينمائي للانعقاد في المركز الثقافي الفرنسي، وبعد وفاة عمر أميرلاي قد يدهش المرء عند استرجاع الذاكرة، لمدى “التغيّر” ووطأته على مجتمع بأسره بقي محجوزاً خلف جدران إسمنتية مسلحة.. هذا الاسترجاع بالضبط ما حاول النادي السينمائي مؤخراً القيام به بعقد ندوة خاصة حول تجربة عمر أميرلاي ضمن هذا الإطار، النادي وبداياته في سنوات بداية السبعينات التي كان فيها بقية من ضوء (أو ذروته).. قبل الموعد مع جدران الإسمنت.
قال المخرج هيثم حقي في تلك الندوة: “كان النادي السينمائي في دمشق موجوداً قبل مجيئي أسسه الدكتور نجيب حداد الذي كان رئيساً فخرياً للنادي في فترتنا.. وعندما أتيت إليه في العام 1973 كان رئيسه مروان حداد.. كان النادي وقتها نشطاً يدعمه مدير مؤسسة السينما “حميد مرعي”، كان يقدم أفلاماً لنا… لنعرضها في صالة الكندي وكان الجمهور يبقى جالساً  بعد الفيلم لأكثر من ساعتين أو ثلاث للمشاركة بالنقاش الذي كان يدور بعد الفيلم…” ويؤكد هيثم حقي الذي عرفه الجمهور الواسع كمخرج تلفزيوني فيما بعد أن ذلك النقاش كان في العمق مطاولاً حتى السياسة ويعود حقي في حديثه مراراً وتكراراً للتذكير باسم “محمد مرعي” والدعم الكبير والاهتمام المميز الذي قدمه للنادي والأفلام التي أمنها للقائمين عليه وهم كما ذكر: نبيل المالح وعمر أميرلاي وقيس الزبيدي وفيما بعد محمد ملص بالإضافة إلى مجموعة سينمائيين آخرين.. ذلك الدعم “الرسمي” الذي لم تردعه في تلك الأيام النقاشات المذكورة التي طاولت السياسة وافتقدته الحالة السينمائية طويلاً فيما بعد.
وفوق ذلك كانت هناك نشرة يصدرها النادي وتطبع كما يستذكر حقي –بحنين- على حرير، ويتم ذلك في مديرية الاستيراد في المؤسسة العامة للسينما… ويتابع حقي: إن من يقرأ النشرات في تلك الفترة يكتشف كم كان هناك وعي ثقافي وسياسي من خلال نوعية النقاشات ونوعية الأفلام التي يحضرها “مرعي” كالأفلام السياسية الإيطالية والفرنسية والفيلم السوفييتي وأفلام لكيروساوا.. هناك ما هو “عجيب غريب” كما ذكر حقي.. وغيره من ضيوف الندوة.. ولكن ماذا جرى بعد ذلك… يتابع حقي… حميد مرعي تم تغييره، واستلم المؤسسة “أحمد قرنة” الذي كان مخالفاً لنا وحدثت الحادثة الفارقة، إذ أرادوا أن “يبهدلوا” هؤلاء السينمائيين وعرضوا فيلم اليازرلي، وحيث كان من المتوقع توجه حقي والمالح والزبيدي وأميرلاي (الذي كان أنجز فيلم حياة يومية في قرية سورية) إلى المؤسسة للقول إن هذه الأفلام ليست جيدة وإنه يجب التوجه إلى إنتاج أفلام أجود للجماهير.. إلا أن ما حصل تحدث مجموعة كبيرة من السينمائيين لصالح هذه الأفلام “الأقل جودة” وحصل الخلاف.. فقرر المختلفون.. (الأساسيون) أن يستقلوا… لتبدأ رحلة طويلة لنادي سينمائي (آخر) ما فتئ يحاول الوقوف على قدميه الغضتين مع التخلي التدريجي للدعم الرسمي عنه…
أي رحلة عذبة عاشها أهل ذلك النادي (القائمين عليه وجمهوره) وأي عثرات سوداء أوقفته؟! النادي الذي استضاف بازوليني وقدم أفلاماً لا يزال معظم الشباب في سورية اليوم يحلمون بمجرد مشاهدتها من جديد.. عداك عن أن يتم ذلك في جو اجتماعي، مدني، وفكري.. و”حر” بما يناسب أبعاد السينما كما يعرفها العالم.


إعلان