أفلام وثائقية في تطوان

لا تبتعد بعض الأفلام الوثائقية المشاركة في الدورة السابعة عشرة من مهرجان تطوان الدولي لسينما دول البحر المتوسط ( 26 مارس – 2 أبريل 2011 ) عن ذلك الحس التوثيقي العالي الذي يميزها ، كما لا يقترب بعضها من هذا الحس ، لوجود مشكلة في السرد وأدواته المكلفة ، وطريقة القبض على التيمة ، ومعالجتها بوصفها  الوثيقة الحية الناتجة عن حالة مستغرقة في اعادة تركيب الواقع فنيا ومجازيا ، وليس رسما له بأي حال من الأحوال .
أربعة أفلام جاءت من فلسطين ومصر وسوريا ولبنان ضمن خمسة عشر فيلما وثائقيا ، تستحق الوقوف عندها في مطولات ، وإن لم يكن ثمة رابط بينها ، إلا النوع الذي تنتمي له هذا الأفلام ، وغير ذلك ، ما من أبعاد أخرى تحتوي عليها هذه الأفلام لجهة الرؤيا

محمد بكري

والتكثيف والسرد والنظر في البطانة الوثائقية التي تقوم عليها هذه ” المبرزات ” . فيلم “زهرة” للمخرج الفلسطيني محمد بكري، ينتمي إلى نوع قائم بذاته. هو النوع الذي يقترب من إحالة عائلية، وليس محض حالة. هنا يقترب البكري “عاطفيا ” من خالته زهرة وأولادها وأحفادها ، واذ يخفق في التقاط صورة فوتوغرافية لهذا المكون العائلي تسند روايته ، فإنه ينجح في المقابل في امساك طرف الخيط الذي يقوده نحو بوح زهرة ، وهو بوح مفارق لما هو خاص. البوح في الرواية العائلية يتعدى حالة زهرة، وثمة ما يبرر للبكري، فهو يقابل هذا البوح بوثائق بصرية معادلة له. لا يعود البوح المتقن إلا صورة متقنة أيضا. كلاب ضارية تنهش خنزيرا بريا يقابلها مطر دافئ وناعم يكشف عن تناقض في الروح البشرية المتشظية بعنف ، وهذا مايخفف من عبء الاحالة التي تنتج عن شيء شخصي له مكونات حساسة، كما هو حال الفيلم اللبناني “شو صار”  لدي غول عيد . الفيلم عموما يقبض على تيمة حارة وملحة، ولكنه يخفق في نوع السرد المطلوب. لا يتعدى السرد الشخصي لمجزرة عائلية إبان فصول مغيبة ومسكوت عنها من فصول الحرب الأهلية اللبنانية راح ضحيتها والد ووالد وشقيقة عيد ودزينة من العائلة نفسها . ربما لم يدر بخلد المخرج إن بوحا شخصيا مؤلما تتضمنه روايته قد لايتعدى الاحالة الشخصية التي يلهث ليتجاوزها، ولكنه يظل يدور من حولها من دون أن تتحول إلى وثيقة أخلاقية تصدم الجميع ، فيكتشف المخرج من بعد جولة مكلفة تبدأ من كورسيكا وتنتهي في بيت الضيعة الذي حدثت به المجزرة، إن المجزرة مسألة ذهنية مخففة، وكأنها لم تحدث إلا في ذهن المخرج نفسه، من دون أن يخبرنا سؤاله الساذج لقاتل أمه ، بأننا نقف بالفعل أمام القاتل الحقيقي ، وليس ذلك القاتل المتخيل الذي رسمه عيد لنفسه ، وأوغل في البحث عنه ، في السرداب الخاص المغلق به . ماينقص ( شو صار ) هو اعادة تركيب خلاق للمنحنى الدرامي الذي بدأ منه عيد . وربما تبدو معه نقطة الانطلاق من كورسيكا عبئا لابد منه .

“في انتظار بوزيد”

“في انتظار أبو زيد” للمخرج السوري محمد علي الأتاسي، ثمة ما هو مربك ومخيب للأمل، فنحن نقف أمام محاضرة طويلة نسبيا للمفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، لا بل إن المخرج الأتاسي ، يتنازل هنا عن كرسيه طائعا لحساب تسجيل هذه المطولة الفكرية ، وخصومات صاحبها مع الواقع المحيط به منذ تكفيره وحتى لحظة “تطليقه” من زوجته ابتهال يونس ، وكذا ادارته للجدال الناشىء عن فكره التنويري الذي لم نجد أثرا له سوى في واحد من تلامذته نفهم في نهاية الفليم إنه شاب وقضى مبكرا ( 1962 – 2007 ) وإن الفيلم مكرس لذكراه.  والحق أن هذا الفيلم يستحق مطولة نقدية أكبر تكشف ثغراته على الملأ، وربما تكشف نوعه الاشكالي، لأن هذا النوع من التوثيق يغدر بالفيلم الوثائقي لحساب تحريض لاطائل منه ، أو لايكون هنا مكانه في أحسن الأحوال ،  فما وقعنا عليه هو محاولات الأتاسي تنميق أبو زيد لحساب نجومية كان يرفضها أبو زيد نفسه ، وهذا يكشف عن اعجاب شخصي بالمفكر لم يكن ممكنا توظيفه توظيفا صحيحا ، لأنه جاء على مكونات الفيلم الوثائقي ليبتزها ويقطعها في الوسط . في حالة هذا الفيلم يمكن القول إن أبو زيد قد حضر عبر محاضرة مهمة وغنية ومؤطرة بالفكر الذي كان يحاجج به ، ولكن يمكن القول إن المخرج محمد علي الأتاسي قد تغيب عن فيلمه وتركه عرضة للنهش النظري الذي قد لايسهم بتركيب فيلم وثائقي قيض له أن يظل محض محاضرة  يمكن قراءتها في كتاب نموذجي .، واذا كان المخرج كما يقول قد صرف ست سنوات في تصوير فيلمه ، فإنه يمكن القول بثقة ، إن الأتاسي فشل تماما في القبض على مكونات الالهام الذي قد ينشأ عن طول هذه المدة ، وهي المكونات ذاتها التي تحدث عنها فلاهرتي حين نصح بقدح شراراتها جراء المعايشة والسكن والسكون في المكان .
” جلد حي ” للمخرج المصري فوزي صالح ، نوع قائم بذاته ، فهو حين أمسك بتفاصيل مدبغة الجلود البدائية ، التي يعمل بها ( أطفاله التسعة) ، وقدم صورة جميلة عن هذا المكان الآسر، إلا أنه رضي لنفسه طريقة تقليدية في السرد كان يمكن القفز عنها وتجاوزها، بما لهذا الفيلم من قدرات استثنائية على الغوص في أسرار المكان وهي القدرات الملهمة التي ساعدت في اختيار الزوايا والاضاءة والتشكيلات الجمالية اللافتة . ومع ذلك يظل فيلم “جلد حي” ينبئ بولادة مخرج وثائقي على قدر من النباهة والذكاء الملحوظين في كل ثانية منه . وصالح يمكن القول عنه إنه يمتلك احساسا متعاظما بفخامة الصورة التي خلت منها الأفلام السابقة ، وبعضها قد أسعفها القدرة على البوح العاطفي والشعري كما هو حال “زهرة” البكري . الفيلم الآخر الذي يقدم  ووثيقة  شعرية نادرة عن البوح الشخصي حين لايصبح كذلك .  فمانجح به البكري حين ظهر في الفيلم ممسكا بطرف الخيط التوثيقي غدا في حالته غير مفقود البتة ، وهذا ماأخفق به دو غول عيد حين ظهر في فيلمه ليشكل من طرف الخيط منحنى مغلقا يدور في عين المكان ، ولايفصح عن أسرار المكان بما هو محمل من دم وقتل وضحايا وشهود على جرائم تكشف عن مرتكبيها في وضح النهار من دون أن تغرق الفيلم بالوثائق الخلاقة المهمة في مثل هذه الاحالة الشخصية ، حتى تتعدى ماهو شخصي ، وتصبح مفتوحة على كل ماهو مسكوت عنه وجاء في سياق حرب عبثية ، لم يكن ممكنا تصورها . ولو نجح المخرج عيد في تركيب المأساة مجددا ، فإن الفيلم سيقع على غنى يمكن أن يكون ذا قيمة وثائقية ، نعتقد أن المخرج ضيّعها حين أجهش في البكاء على أطلال البيت والمدفن العائلي دفعة واحدة .


إعلان