“العراق” في الأفلام التسجيلية في مهرجان الخليج

من بين عشرين فيلما اشتركت في المسابقة الرسمية للأفلام التسجيلية في الدورة الرابعة لمهرجان الخليج السينمائي والتي اختتمت مؤخرا، تقدمت ثمان أفلام قصصا عن العراق والعراقيين. اثنان من هذه الأفلام الثمانية هي لمخرجين غير عراقيين، هما: “مدرسة بغداد للسينما” للمخرجة الهولندية شوشين تان، وفيلم “الأنفال- شظايا من الحياة والموت” للمخرج الكردي السوري مانو خليل، في عودته الثانية لأكراد العراق، وبعد فيلمه “زنزانتي بيتي”، والذي اشترك به في الدورة الثانية لمهرجان الخليج السينمائي. فيما اخرج عراقيون، معظمهم من الشباب، الأفلام التسجيلية الست الباقية.
واصلت مجموعة الأفلام التسجيلية المذكورة متابعتها للشأن العراقي الداخلي، والنتائج المستمرة لحرب الخليج الأخيرة، والتي أطاحت بالنظام العراقي السابق. فاهتمت ثلاث من الأفلام المشاركة بحال الفنون الجادة في البلد.

ففيلم “قبل رحيل الذكريات إلى الأبد” للمخرجين مناف شاكر و فلاح حسن عن وضع التعليم السينمائي الأكاديمي في العراق، فيما يكشف فيلم “موت معلن” للمخرج والشاعر العراقي رعد مشتت عن الإهمال الذي لحق المسرح العراقي بعد الحرب أيضا. وترافق المخرجة الهولندية شوشين تان مجموعة من طلبة كلية بغداد للسينما الخاصة والتي أسسها المخرجين العراقيين قاسم عبد و ميسون الباجه جي في عام 2004، وتنظم دورات تقنية مجانية للعراقيين في السينما والتلفزيون.
فيما ركزت أربعة من الأفلام العراقية التسجيلية المشاركة، على موضوعات شخصية. وعن نتائج الحرب والسنين التي أعقبتها على عراقيين عاديين. ففيلم “وداعا بابل” للمخرج عامر علوان عن علاقة صداقة تربط بين جندي أمريكي ومترجم عراقي. وفيلم “كولا” للمخرج يحيى حسن العلاق عن مشاق الواقع العراقي على طفلة عراقية فقيرة، فيما يسجل المخرج العراقي الشاب علاء محسن المقيم في الدنمرك رحلته الأولى للعراق، ومنذ هروب عائلته قبل 16 عاما. ويقدم الشاب العراقي المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية فادي هديد في فيلمه “أينما نعيش”، بعضا من يوميات عائلة عراقية لجأت إلى هناك، بعد سنوات العنف العراقية الأخيرة، والجروح الغائرة التي خلفتها على أرواح تلك العائلة، وصعوبة البدايات في البلد الجديد.
تعكس الأفلام المشتركة، وخلفيات المخرجين الذين يقفون وراءها، واقع صناعة الأفلام “العراقية ” الموضوع في سنوات ما بعد الحرب. والتي تنقسم ما بين أفلام تنتج في العراق وعن طريق مخرجين عراقيين يعيشون هناك. وأفلام يقف وراءها مخرجون عراقيون يعيشون خارج العراق منذ سنوات عديدة. مع حضور سنوي تقريبا لأفلام الجيل الثاني من المغتربين العراقيين، بما تحمله أفلامهم من نفس ومقاربات مختلفة عن جيل الآباء. وهناك أيضا الأفلام التي يقف وراءها مخرجون عرب وأجانب، بموضوعاتها العراقية. سواء تلك التي صورت في العراق أو خارجه.
عرض هذه الأفلام في أيام معدودة، وكما يحدث بشكل سنوي في مهرجان الخليج السينمائي، تحول إلى ما يشبه النافذة المتفحصة على المشهد الاجتماعي، الفني، الإنساني العراقي. مختلفة أحيانا، بمعالجاتها الموضوعية والفنية، عما تعرضه شاشات التلفزيون من تغطيات تلفزيونية مكثفة للشأن العراقي، وأيضا بجرأتها في تكسير النموذج التلفزيوني المحافظ والسائد كثيرا، وقربها المؤثر أحيانا من شخصياتها الهامشية، أو الاجتهاد للبحث عن الذاتي عند آخرين خبروا الأضواء.
تبدو الكثير من الأفلام المعروضة، عدا فيلم الكردي مانو خليل، وكأنها استجابات لأحداث وقضايا عراقية بعضها طارئ. الأمر الذي يفسر بساطة، تقليدية، ركاكة السيناريوهات التي قدمت في تلك الأفلام. كذلك صعوبة ظروف العمل في العراق، والتي مازالت تعتبر خطرة كثيرا، من تطوير مشاهد واتجاهات أثناء التصوير الفعلي لتلك الأفلام، الأمر الذي  كان سيجعل معالجة بنيوية مختلفة متأخرة، هدفا كان يمكن إدراكه.
حتى فيلم المخرج الكردي مانو خليل والذي حصل على جائزة التحكيم الخاصة، ويقدم موضوع حملات الأنفال التي نفذها النظام العراقي السابق في نهاية عقد الثمانيات، لم ينتفع من الأمان الذي تتمتع به المناطق الكردية منذ سنوات عديدة والمادة الأرشيفية عن الحملات والتي أصبحت متوفرة الآن، في تقديم فيلم محكم يفسر ضرورة إنتاجه الملحة الآن. فيلم قادر على تجاوز قوة بعض المواد الصورية  الأرشيفية المتوفرة عن المجازر، ومنها الصورة الشهيرة لأب وابنه الرضيع، المقتولين على أعتاب منزلهم في مدينة حلبجة الكردية، والتي منحت الفيلم  التسجيلي أكثر مشاهد قسوة!
واللافت أن أكثر أفلام المهرجان التسجيلية ذاتية لم تحصل على جوائز هذا العام، لأسباب يُسأل عنها أعضاء لجنة التحكيم الخاصة بالمسابقة. ففيلم “طفل العراق” للمخرج علاء محسن والذي أثار اللغط الأكبر في المهرجان، لم يحصل على أي جائزة. رغم الأهمية الكبيرة للأسئلة الجدلية التي أثارها الفيلم، عن جيل جدد من العراقيين الذين يعيشون خارج العراق منذ سنوات طويلة، وعلاقتهم ببلد ولادتهم. يحافظ المخرج في الفيلم على مسار مفرط في صدقه، رغم الفاجعة الشخصية التي واجهها المخرج أثناء رحلته إلى العراق، وبعد ستة عشر عاما من الغياب. يصل الفيلم أيضا إلى سقف الجودة، المنتظر من مثل هذا النوع من الأفلام، تكون معتمدة كثيرا على تمكن المخرج من إيجاد الدينامكية الخاصة المحفزة،  المنطلقة من ذاتية الرحلة التي يقطعها هو نفسه أو يقطعها أبطاله، وتقاطعاته مع الشخوص الذين يقابلهم.
كذلك لم يحصل فيلم “مدرسة بغداد للسينما” للمخرجة الهولندية شوشين تان على أي جائزة أو تنويه. رغم أن المخرجة التي عملت في ظروف استثنائية تماما، وفقت و بشكل مرضي كثيرا، بالانطلاق من تجربة المدرسة التعليمية، إلى كشف قسوة ما يعانيه الراغبون في الاشتغال بالعمل الفني في العراق. وقدمت مقابلات غير تقليدية أبدا مع بعض طلاب المدرسة. والذين وجدوا الحرية الكبيرة للحديث عن مخاوفهم من الحاضر والمستقبل. كما أن الفيلم، يمر سريعا لكن بتأثير كبير على مصاعب العمل في بغداد، لفريق العمل من النساء الهولنديات في واحدة من أكثر مدن العالم خطورة.

صرخات ضد الديمقراطية !
يقارن المخرجان مناف شاكر و فلاح حسن بين وضع التعليم السينمائي العراقي في زمن الأنظمة الدكتاتورية العراقية السابقة، وحاله في سنوات الديمقراطية العراقية. فيقدم مثلا فيلما قصيرا من عقد السبعينات لطالبات وطلاب عراقيين وهم يعملون معا في تنظيف الأكاديمية التي يدرسون بها. من هذا المشهد “الحالم”، ينتقل المخرجان إلى مشاهد لافتتاح معرض للوحات الدينية في أكاديمية الفنون نفسها.

مشهد تنظيف الأكاديمية

حيث يغطي اللون الأسود، السيدة الوحيدة التي ظهرت في الفيلم، والتي كانت تشرح عن “المرجعيات الدينية” في لوحاتها لمسؤول من الحكومة العراقية كان يفتتح المعرض. بالطبع لا يحن الفيلم لزمن ماضي، وكان ظهور امرأة مطلقة عراقية في الأفلام أو المسلسلات فيه يعد من الممنوعات. لكن المخرجان واللذان يعملان في مؤسسات تعليمية لم يجدا غير هذه المقارنة، لنقل غضبهما مما يجري في مدراسهما التي تعلموا بها، والتي يضر بها الإهمال المريع منذ سنوات.
يقوم المخرجان بنقل الأفلام التي كانت متروكة للضياع بأساليب بدائية إلى نسخ رقمية. ليست الأهمية التي يقدمها الفيلم، هي فقط بالمحافظة على بعض ذلك التراث، والذي يعود بعضه لسينمائيين عراقيين، يعملون إلى اليوم. عملية الإنقاذ نفسها هي من كانت تستحق الانتباه الأكبر في الفيلم. لكن الفيلم يتجه في معظم وقته إلى تسجيل مقابلات طويلة مع أستاذة وطلاب، للحديث عن سنوات دراستهم في بداية السبعينات. غلبة النفس “الأرشيفي” في الفيلم، وتراجع “الذاتي” في تجربة الضيوف أو المخرجين أنفسهم، قرب الفيلم من الوثيقة التلفزيونية، التي تمتلك بلا شك أهميتها التحريضية الخاصة.
مخرج عراقي هو رعد مشتت يقدم صرخة أخرى تخص المسرح العراقي، وبالتحديد مسرح بغداد الصغير، الموجود في شارع عادي في العاصمة العراقية بغداد، وقدمت على خشبته أفضل تجارب المسرح العراقي الطليعية في السبعينات والثمانيات من القرن الماضي. يتوفر للمخرج الإمكانية للقاء مجموعة من ابرز المسرحين العراقيين، فتتجول معهم الكاميرا في المسرح المهجور. وتنقل ردود أفعالهم، والتي غلب على بعضها الافتعال. ينجح المخرج أيضا في الحصول على نسخ لمسرحيات عراقية جادة قديمة، ليقدمها على شاشة متخيلة على خشبة المسرح المهجور. ومرة أخرى، مقارنة الماضي الفني العراقي مع الحاضر المتردي، تميل لصالح نظام صدام حسين مقارنة بالحكومات الديمقراطية التي تحكم العراق منذ 2003. لكن الوضع ليس بهذا التبسيط. وليس من مهمة الفيلم أن يخوض في تعقيدات السنوات الأخيرة في العراق.
يتجه الفيلم  مثل الفيلم السابق إلى معالجة تقيلدية، بدت مرتبطة كثيرا بجودة اللقاءات التي أنجزها المخرج، دون محاولات للذهاب أبعد بالفيلم أو الضيوف إلى مكاشفات، تجعل الخسارة التي مثلها نهاية المسرح، حسية موجعة، تقترب  أحيانا من القتل المعنوي للكثيرين.

وداعا بابل
هناك صداقة غير شائعة يقدمها فيلم “وداعا بابل” للمخرج العراقي عامر علوان، بين جندي أمريكي ومترجم عراقي، عملا سويا أثناء خدمة الأول في منطقة بابل الأثرية. هناك ما يميز الجندي الأمريكي أيضا. هو أحد سكان مدينة نيويورك المعروفة بليبراليتها. أربعيني هادئ، من الذين تتوقع أن يخرجوا إلى الشوارع في تظاهرات ضد الحروب، عوض الاشتراك بها. لكن يوم الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، الذي ضرب مدينته، زلزل مفاهيم الرجل السلمية. فتوجه إلى الجيش الأمريكي، ورغب في الخدمة في العراق.

وداعا بابل لعامر علوان

رغم أن الصداقة تلك، هي التي يتأسس عليها بناء الفيلم، لكننا لن نعرف الكثير عن ظروف  تلك العلاقة. فبالكاد يتم الحديث عنها. والمراسلات القليلة جدا التي يتبادلها العراقي مع صديقه الأمريكي،  لا تفصح بالكثير. ولن يتسنى لنا أن نعرف أبدا القصة كاملة من المترجم العراقي، فهو قتل ضمن عمليات الانتقام التي طالت الكثير من  العراقيين الذين عملوا مع القوات الأمريكية، قبل سنوات عديدة من تاريخ تصوير الفيلم!

يعيد الفيلم التسجيلي، وبدون أي إشارات بأنها ما نراه هو إعادة إنتاج جديدة، تقديم حياة الأمريكي الذي عاد إلى مدينته بعد انقضاء خدمته. كل ما نراه على الشاشة في الفيلم تم تسجيليه في وقت لاحق على زمن الأحداث الفعلية. ضاربة بألف حائط روح الوثيقة التاريخية. حتى تلك المشاهد للمترجم، التي تعاطف الجمهور مع خوف الرجل، الذي كان يخفي وجه، صورها ممثل أو متطوع.
عندما يصل الفيلم إلى هذا الحد من التساهل مع ثوابت السينما التسجيلية والتوثيقية، يصبح من العسير، أخذ مشاهد عديدة بالفيلم بجدية. بل أن بعض المشاهد الأخرى أصبحت تثير الضحك، مثل المشهد: الذي صور الجندي الأمريكي مع زوجته في غرفة نومهم، عندما تستدير الزوجة وتقبل زوجها قبل أن تذهب إلى النوم، رغم أن فريق التصوير مازال في الغرفة. بالمناسبة، هذا الفيلم خطف الجائزة الثالثة في  مسابقة الأفلام التسجيلية في المهرجان!


إعلان