الثورة التونسية في كان بفيلم”لا خوف بعد اليوم”
كانت الثورة التونسية التي ألهمت غيرها من الثورات في العالم العربي محل اهتمام كبير في مهرجان كان السينمائي في دورته الرابعة والستين.
فقد خصص المهرجان يوما احتفاليا بتونس وثورتها وبالسينما التونسية بوجه خاص، حيث شارك وفد تونسي كبير من السينمائيين، وعرضت بعض الأفلام التي تقدم صورة رمزية عن السينما في تونس.
إلا أن الحدث الأهم كان عرض الفيلم الوثائقي الجديد “لا خوف بعد اليوم” للمخرج مراد بن الشيخ، ضمن قائمة العروض الخاصة في المهرجان، خارج المسابقات.
ويعد هذا الفيلم الوثائقي الطويل (74 دقيقة) العمل السينمائي الأول الذي يخرج من تونس بعد الثورة. وكان العمل فيه قد استكمل قبل يومين من افتتاح المهرجان، وأدرج ضمن البرنامج الرسمي في اللحظة الأخيرة. وهو من إنتاج حبيب عطية ضمن إنتاج مشترك بين وزارة الثقافة التونسية والجزيرة الوثائقية.
يقول مراد بن الشيخ إن أساس موضوع فيلمه هو فكرة قهر الخوف، كيف تمكن الشعب التونسي، والمواطن العادي البسيط تحديدا، من التغلب على طبقات متراكمة عبر سنوات طويلة، بل وعبر أجيال، من الخوف، ذلك الخوف الذي كان دائما يؤدي إلى عجز الإرادة، بل ويفضي إلى الشلل الاجتماعي والسياسي.
وأخيرا استطاع الشعب التونسي قهر حاجز الخوف والنزول إلى الشارع والحصول على الحرية دون خوف من الموت أو من السلطة أو من آلة القمع الرهيبة التي كانت قائمة والتي ثبت أن إرادة الشباب يمكن أن تقهرها كما يوضح هذا الفيلم تحديدا، من خلال تركيزه على ثلاث شخصيات هي في الحقيقة تبرز أولا دور المرأة بشكل واضح، بينما تجعل الرجل، الأب/ الزوج، الذي يتقدم الصورة عادة باعتباره الحامي، المسؤول، يصبح في خلفية الصورة. وثانيا هي شخصيات تعبر عن ثلاثة أجيال من التونسيين: الشباب والجيل الوسط وجيل الكبار. فهناك بعد ذلك الرجل الذي يمثل نموذجا للمواطنين العاديين الذين تمكنوا من المشاركة في أهم تجربة شعبية في الحياة السياسية العربية الحديثة أي تجربة إدارة شؤون المجتمع وحماية النفس والدفاع عن الأسرة، وتأمين الشارع، بعد انهيار جهاز الشرطة وانتشار اللصوص وأعمال النهب والسلب في كل مكان في غياب الدولة.
لدينا أولا الفتاة الشابة “لينا بن مهني” التي تشجعت وخرجت عن الدور التقليدي الصامت أو المراقب وبدأت تمارس الصحافة الالكترونية الحديثة من حلال “التدوين” اليومي على الصفحة التي أنشأتها على الانترنت، ومن خلال الموقع الاجتماعي الشهير “فسيبوك” الذي لعبت من خلاله مع غيرها من الشباب التونسي، دورا كبيرا في إشعال الثورة، ونقل الأخبار، وتبادل المعلومات، ومثلت بذلك تحديا هائلا أقلق مضاجع رجال الأمن، فحاولوا إرهابها بشتى الطرق، لكنها واصلت بل ونزلت بنفسها إلى الشارع تشارك في الحركة السياسية المباشرة التي لا تزال مستمرة.
وهناك الناشطة السياسية والمحامية المعروفة المناضلة من أجل حقوق الإنسان راضية نصراوي. وهي هنا ترمز لجيل آخر، أكبر من جيل الشباب، لكنه يكمل الصورة، فدوره كان أيضا فاعلا.
المرأتان تتحدثان تفصيلا عن تاريخ علاقتهما بالحركة الشعبية التي بدأت في سيدي بوزيد. ولكن في حين يعود نشاط راضية نصراوي الى زمن طويل من قبل اندلاع الثورة التونسية في يناير/ كانون الثاني 2011، ترفض لينا أصلا فكرة أن تكون “ناشطة سياسية” أو “مناضلة” بالمعنى السائد لهذه الكلمة بل تعتبر نفسها “مدونة” تنشد كشف الحقائق للناس، والقيام بدور ولو بسيط، في حركة المطالبة باسترداد الكرامة والتخلص من الخوف.

وراء راضية نصراوي يقف زوجها المناضل السياسي اليساري الذي اعتقل عدة مرات، والذي يروي أيضا تجربته مع السلطة ورجال الأمن، ووراء لينا يقف والدها، الذي لا يطرح نفسه أيضا باعتباره مناضلا بل مثقف يشعر بالحاجة إلى التغيير والى التخلص من عقدة الخوف.
وهناك أخيرا كريم شريف الصحفي الذي وجد نفسه يتسلح بعصا غليظة ويشارك مع الآخرين في محيط المنطقة التي يقيم فيها، في حماية أسرته من اللصوص والمعتدين من فلول النظام الذين انتشروا لترويع الناس عقب فرار الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي خارج البلاد.
يجعل مراد بن الشيخ موضوع فيلمه وتفاصيل ما جرى قبل وبعد سقوط بن علي، يروي ويوثق على لسان الشخصيات الرئيسية التي تتحدث في فيلمه، وليس من خلال التعليق الصوتي “الموضوعي” الذي يأتي من خارج الصورة.
وهو يجعل شخصياته أيضا إما تستعيد ما جرى من وقائع يدعمها باللقطات الوثائقية المدهشة للكثير من الأحداث التي اتخذت طابعا عنيفا دون أن تتردد الكاميرا في الاندماج وسط الكتل الجماهيرية وتسجيل اللحظة التاريخية، أو من خلال التصوير المباشر للشخصية في إطار الحدث كما نرى مثلا عندما تقود راضية نصراوي سيارتها فتجد نفسها وسط مظاهرة لرجال القضاء الذين يشيرون لها أن تلحق بهم وتشير هي بيدها من خارج السيارة إشارات التأييد فيما تستمر في الحديث إلينا، أمام الكاميرا.
إنها تعلق وتسخر وتناقش وتروي وتحلل وتضحك، وتبدو وقد تخلصت تماما من أي خوف، بل لاشك أن الخوف غادرها من قبل الثورة بزمن.
يقول بن الشيخ “اليوم ينتصب العلم التونسي في غرفة المعيشة في بيتي، وقد أصبح للنشيد الوطني عندي معنى مختلفا تماما، فقد أصبح يعني الحرية. لقد أصبحت أخيرا مواطنا وأصبح باستطاعتي التعبير عن نفسي وعن انتمائي الوطني بحرية. إنني مخرج سينمائي مسؤول بالكامل عما أفعله. إن الخوف الذي أصوره في فيلمي كان أيضا يسيطر علي، كما كان يسيطر على التونسيين جميعا. واليوم أصبحت الشجاعة التي تظهر في هذا الفيلم عند التونسيين جميعا”.