رباعية وثائقية عراقية..توّثق البؤس
منذ تأسيسها، في العام 2004، على أيدي المخرج قاسم عبد، والمخرجة ميسون الباججي، حضرت «كلية السينما والتلفزيون المستقلة»، في بغداد، بإعتبارها إضافة هامة للمشهد العراقي بداية، والمشهد العربي تالياً.
قرابة عشرين فيلماً، هي المنجز التراكمي على صعيد إنتاج الأفلام، الوثائقية والقصيرة، ولكن الأهم في هذا السياق، هو المُنجز الذي تحقق على صعيد خلق صنّاع أفلام عراقيين، من مخرجين ومخرجات، كانت لهم الفرصة في التعلم، والتدريب، والعمل الميداني.
وما بين «مهرجان الفيلم الوثائقي» الأول، الذي جرت المبادرة لتنظيمه مؤخراً (نيسان/ أبريل 2011)، والذي تجوَّل وسيتجوَّل على عدد من المدن العراقية من جهة، والمشاركة الفاعلة في غير مهرجان سينمائي في العالم العربي وخارجه، منذ بضع سنوات (على الأقل من عام 2005)، من جهة أخرى، تبدو الصورة تتقدم نحو وضوح أكثر جلاء، يؤكد أن المبادرة الفردية ممكنة، خاصة في غياب المؤسسات الحكومية، بل إن للمبادرة الفردية دورها الأساسي والضروري في مثل هذه الأحوال.
حزمة من الأفلام التي قدمتها «كلية السينما والتلفزيون المستقلة» في بغداد، كان لها نصيب من جوائز عدّة، على مستوى الطلبة، والهواة، والمحترفين، وفي مجال الإخراج أو التصوير أو السيناريو.. وهي في كل حال، وحتى مع غياب الجوائز، أفلام كان لها شرف المشاركة بإسم العراق ممثلة له، ومقدمة أطيافاً من صور مختلفة ومتنوعة، تقارب واقع العراق في مفصل زمني حاسم.
ولعلنا هنا، في وقفة من أحدث نتاجات هذه الكلية من أفلام وثائقية وقصيرة، نستطلع جوانباً من هذه التجربة، التي تكاد تكون استثنائية، على مستوى الوطن العربي.
فحم ورماد

«فحم ورماد»، للمخرج حسين محسن، فيلم وثائقي قصير (مدته 7 دقائق)، نال مؤخراً الجائزة الأولى في «المسابقة الخليجية للطلبة/ الأفلام الوثائقية»، وهو حسب ما ورد في تعريفه فيلم يتعرض «لمسألة تدمير البيئة في العراق، جرّاء قطع الأشجار، وتحويلها إلى فحم. يكشف الفيلم عن تردي الأحوال المعيشية في العراق، وكيف يلجأ الناس إلى قطع الأشجار، هرباً من الجوع والفقر».
في المشاهدة، سوف نجد أن الفيلم يقوم على مبدأ المراقبة، دون أي تعليق، أو حوار فقط الصورة المتنقلة، بسلاسة في عالم صنّاع الفحم، هذه الصناعة التي تقوم على أشلاء الأشجار الخضراء، فنرى شفرات المناشير تُمعن في قصّ جذوع الأشجار، وفروعها، محوّلة إيّاها من عالم الخضرة، وما تحمله من دلالات الحياة، إلى عالم الفحم الأسود، ودلالات الموت.
يستنبط هؤلاء الفحّامون لقمة عيشهم من صناعة الفحم، وهم من حيث يدرون أو لا يدرون، يُمعنون في تخريب البيئة العراقية، ووضعها على بوابة التصحر واليباب. إنهم يخالفون القوانين الطبيعية، والأخلاقية، دون أدنى مراعاة. بل إن الفيلم يهتمّ بإظهار الأيدي الصغيرة، التي تعمل في مثل هذا المجال المؤذي للصحة؛ أطفال في عمر الورود، تليق بهم المدارس، ورياض الأطفال، وحدائق اللعب، ويستحقون كل ما هو جميل في هذا العالم، يجدون أنفسهم، على النقيض من كل ذلك، في عالم البؤس، يغوصون في حفر الفحم الأسود.
مراقبة تفصيلية لوقائع يوم من العمل، ينجزها الفيلم، يعمد من خلالها إلى البساطة، على صعيد الصورة والمونتاج، لا يستفيد الفيلم مما يمكن أن نسميه جماليات النار والدخان والفحم.. على الأقل، كما رأينا في فيلم «عطش» للمخرج توفيق أبو وائل، الذي تمكن من توظيف قبح هذا العمل، وحوله إلى تشكيلات بصرية غنية.
لا يعتمد الفيلم منهج التتالي، في العملية: قطع الأشجار.. تحطيبها.. ترميدها.. تفحيمها.. وبالتالي لا يخلق سياقاً روائياً، يحتاجه الفيلم الوثائقي.. إنه ينتقل بين المكانين (مكان قطع الأشجار، ومكان تفحيمها)، والعملين (القطع، والتفحيم)، دونما سياق واضح، بل بتداخل غير مبرر.. إلى أن ينتهي الفيلم بمشهد العمال، وهم يتناولون الطعام، والشاحنة محملة بأكياس الفحم، وتغادر المكان، في دلالة واضحة، تقايض لقمة الطعام، الفقيرة، بالكارثة البيئة الحاصلة.
تكلم بما تفكر
«تكلم بما تفكر»، للمخرج عماد علي، فيلم وثائقي قصير (مدته 12 دقيقة)، يتناول وقائع من تجارب صحفيين عراقيين، الذين تشير بطاقة الفيلم إنهم دفعوا «ثمناً باهظاً للدفاع عن حرية التعبير والتفكير، حيث يُقدَّر عدد من قتل منهم، منذ عام 2003، ولحد الآن بـ 253 صحفياً، من أصل عراقي. وهذا يعكس حجم المأساة التي يعيشها الصحفيون العراقيون، في ظل الأوضاع الأمنية المتردية. يستعرض هذا الفيلم ثلاث تجارب لثلاثة صحفيين: الأول هو «إبراهيم جسام»، الذي تعرض للاعتقال من قبل القوات الأمريكية، وقضى سنة ونصف السنة، في سجونها، بدون ذنب. والثاني هو «إبراهيم الكاتب»، الذي أصيب بشظية في رأسه، إثر انفجار سيارة مفخخة، أدت إلى شلله التام. والثالثة هي «كوثر»، التي تعرضت للاختطاف، والتهديدات المستمرة، مما أجبرها على ترك العراق في تشرين الثاني 2010».
يبدأ الفيلم مع الصحفية «كوثر»، التي تتنقل ما بين إجراء لقاءات صحفية، والحديث إلى الكاميرا التي ترافقها، هنا وهناك، في أمكنة عملها الصحفي، أو في البيت. تتحدث «كوثر» عن إشكالية حرية التعبير التي تضيق بالصحفي، على النقيض من حرية العمل السياسي التي شهدت اتساعاً، بتعدد الأحزاب. ولكن الجميع يضيّق على الصحفي، مما جعل أفق العمل الصحفي، خاصة للصحفية، ضبابياً، بلا ضمانات مادية أو معنوية.
وبالإنتقال إلى الصحفي «إبراهيم الكاتب»، قعيد الكرسي المتحرك؛ إنه يتحدث عن الخطر الكبير الذي يتعرض له الصحفي العراقي، ليس فقط من قبل الجماعات الإرهابية، بل أيضاً من قبل قوى الأمن ذاتها. ولعلّ حالته ستبدو مثالاً عيانياً لهذا الخطر، الذي نال منه غداة قيامه بتغطية صحفية لمؤتمر مصالحة عشائري انعقد في منطقة «أبوغريب»، عام 2009، وبسبب مرافقته لجنرال أمريكي، استهدفته عملية تفجير، أدّت إلى إصابته بالشلل تام.
أمّا الصحفي «إبراهيم جسام»، والذي يعمل مصوراً فوتوغرافياً، فقد جرى اختطافه من قبل القوات الأمريكية، فأمضى سنة ونصف السنة، قيد الاحتجاز، على الرغم من أن قاضياً عراقياً وجده بريئاً، وأمر بإطلاق سراحه، دون جدوى!..
يتنقل الفيلم بمونتاج متوازٍ بين شخصياته، في غاية تتبدى على نحو أنه يريد رسم الصورة الصعبة التي يعيشها الصحفي العراقي، في واقع يعاني من اختلال شديد من فقدان الأمن، وضيق مساحات التعبير، وافتقاد الضمانات المادية والمعنوية. وإذ يبقى الصحفي «إبراهيم الكاتب» رهين الكرسي المتحرك مكبلاً بالشلل، وقلة الحيلة لعدم مقدرته المالية على العلاج، وإذ يعود الصحفي «إبراهيم جسام»، للعمل مصوراً فوتوغرافياً، فضلاً عن عمله في مخبز، ويمارس هوايته في كرة القدم، فإنّ الصحفية «كوثر»، سوف تغادر العراق، على الرغم من أنها كانت ترفض فكرة الهجرة من قبل.
الأرملة

«الأرملة»، للمخرج حسنين الهاني، فيلم وثائقي قصير (مدته 11 دقيقة)، يقدم نفسه بالقول: «العراق بلد الأرامل والأيتام بامتياز، إذ يوجد فيه ما يقارب ثلاثة ملايين أرملة، يعيش معظمهن تحت خط الفقر، لأنهن لا يعرفن كيفية الحصول على المعونة الاجتماعية من الدولة. يوثق هذا الفيلم حالة امرأة فقيرة من مدينة كربلاء، فقدت زوجها نتيجة للعنف الطائفي، وبقيت تواجه مشاكل الحياة وحدها مع أطفالها».
وبالانتقال للمشاهدة، سوف نتعرف إلى الأرملة «منتهى كزار»، المرأة الأربعينية، من أبناء مدينة كربلاء، والتي كانت متزوجة من رجل يعمل «سائق نقل»، يتنقل بين مدن ومناطق العراق، إلى أن وجدوه ذات يوم مقتولاً، تاركاً إياها مع طفل، وجنين في الأحشاء.
كأنما لم يكن للفقر وحده أن يكون كافياً، ليأتي القتل والترمّل، عامل قهر مضافاً، فيرمي هذه المرأة الفقيرة، وطفيلها، في مهاوي بؤس، يبدو أن لا نهاية لها..لا البيت لها، ولا للعائلة أن تتحملها، في عالم فقر مكثف. تستفيض المرأة بالحديث عن واقعها المرّ.. لا فلوس.. لا نفط.. لا غاز.. وهي لا تريد، من هذه الدنيا، سوى غرفة تعيش فيها، وحمام تتطهّر فيه!.. ولكن من أين لـ «رفاهية»، من هذا الطراز، لكي تحلم بها؟!.. ليس أكثر من خمسين متراً مربعاً، يمكنها الاستقرار مع طفليها!..
يعتمد الفيلم أسلوباً واقعياً، في البناء، يقوم بشكل أساس على إجراء مقابلة طويلة، مع الأرملة، تتحدث باستفاضة، ودونما الكثير من الشكوى، عن واقعها، وحياتها، وتجربتها.. فيما ترافقها الكاميرا، في حلّها وترحالها، سواء في البيت، أو الشوارع والحارات الفقيرة، أو باحثة على أبواب المؤسسات والجمعيات الخيرية، لعلها تجد من يعينها. يحاول الفيلم إثراء شريط الصورة، حتى لو مال نحو إعادة تصوير بعض اللقطات، أو إضافة لقطات تفسيرية، يمكن لها خدمة البنية البصرية للفيلم، مع اعتماد عدم التلازم بين شرطيّ الصوت والصورة.
غنِّ أغنيتك
«غنِّ أغنيتك»، للمخرج عمر فلاح، فيلم وثائقي قصير (مدته 15 دقيقة). «يسلط الفيلم الضوء على مطرب الأغاني الشعبية العراقية الشاب «ماجد حسين»، والتحديات التي يواجهها مع فرقته في جنوب العراق».
يبدأ الفيلم، في مدينة الناصرية، من اللحظة الراهنة، حيث نحن في محل تأجير أجهزة صوت، قبل أن ينقلنا صاحب المحل مباشرة إلى بداية الثمانينيات في القرن العشرين، عنما اكتشف أن لديه صوتاً جميلاً، ويملك قدرة على الغناء، فأسس فرقة «الصياد»، التي كانت لها مشاركات عديدة في حفلات غنائية، ومهرجانات فنية..
صدمة الواقع، جاءت بعد عام 2003، حيث برزت جهات متشددة، ترفض فكرة الغناء والموسيقى، زاد من ألمها أن بعض الجهات الرسمية، كانت تأخذ الموقف ذاته، رفضاً للفن والغناء، فما كان من «ماجد حسين»، إلا أن تحوِّل إلى صاحب محل لتأجير أجهزة الصوت، والكاميرات، وتزيين سيارات الأعراس..
في الناصرية؛ المدينة العراقية، التي طالما اشتهرت بالغناء، والمبدعين من كبار المطربين العراقيين.. بات الفن ممنوعاً. ولقد تعرض الشاب «ماجد» للضرب، بسبب الغناء.. وذات حفل جرى تكسير الأجهزة، من قبل مسلحين بلباس أسود.. ضربوا الموجودين.. وكسروا الأجهزة.
وحتى محل تصليح الآلات الموسيقية، بات يتخفى صاحبه وراء مهنة «الخط».. الوضع العام لا يسمح بالتصليح أو العزف.. يقول الخطاط. وبات يمارس تصليح الآلات الموسيقية خفية.. وقت الظهيرة، أو بالليل..
لا يستطيع العزف في وضح النهار.. ينتظر الليل.. من أجل التستر بأهداب الظلام.. وفي النهاية سوف يهرب «ماجد حسين»، مع مجموعة من أصدقائه، إلى البرية، للغناء، والأكل والشراب، وممارسة القليل من الحرية.
كل ما في الصورة يشي بالسواد. رفض إقامة «مهرجان بابل الدولي»، والحذر من التلفظ يعبارة «بيت الغناء االريفي»، والتحايل عليها بعبارة «بيت التراث».. ومسؤول ما يرى أن إقامة «معهد فنون جميلة»، حرام!.. ومع ذلك فإن الشاب «ماجد»، سوف يبقى متفائلاً بالمستقبل.. مؤمناً بأن الفن في الناصرية لن يموت.. وهو سيبقى على دربه، حتى لو كان يتعرض لضغوطات.. أو سيتعرض للقتل.. معلناً ببساطة: «هذه هي حياتي»!..
خاتمة
رباعية فيلمية وثائقية، تقدمها «كلية السينما والتلفزيون المستقلة»، في بغداد، تتجول على جوانب غنية ومتعددة من الواقع العراقي، بدءاً من العاملين في صناعة الفحم، إلى الصحفيين، وصولاً إلى الفنانين، مروراً بوقائع اجتماعية.. تتظل حواف الصورة بالكثير من السواد.. ولكنها مع ذلك تحتفظ بأشياء من أمل لا بد أن يأتي ذات يوم.. فالعراق يليق به مستقبل أفضل. وهو لابد أن يأتي على أيدي مبدعيه، وما الذي بين أيدينا الآن، إلا نماذج منه.