الفيلم الوثائقي ابن من ؟ المخرج أم المونتير؟
“طفل العراق” أنموذجا
أمـل الجمل
لمن يُنسب الفيلم؟ لكاتب السيناريو، للمونتير، للمصور، أم للمخرج؟ سؤال قد لا يبدو وارداً للطرح من الأساس عند الحديث عن الأعمال السينمائية الروائية التي تُنسب بوضوح وحسم لمخرجيها. لكن ذلك التساؤل يبدو مؤرقاً لبعض العاملين في مجال النقد السينمائي على الأخص عندما يتعلق الأمر بالأفلام الوثائقية والتسجيلية؟ في تقديري الشخصي الأمر هنا أيضاً محسوم إذا تأملنا بروية أهمية وسطوع كل عناصر العمل الفني من سيناريو وتصوير وإخراج ومونتاج. وإن كان هذا لا ينفي أهمية تضافر هذه العناصر جميعاً وانصهارها في بوتقة واحدة.
التساؤل السابق المشكك في نسبة الفيلم الوثائقي للمخرج، والمؤكد على ضرورة إعادة النظر في دور المونتير أُثير مجدداً عقب عرض فيلم “طفل العراق” للمخرج الشاب “علاء محسن” والذي يحكي قصته ومشاعره الخاصة التي تتعلق بجذوره العربية العراقية وهويته الدانماركية.

هو شاب عمره الآن 21 سنة. أجبرته الحرب والقلاقل السياسية على الهرب وترك موطنه الأصلي “العراق” عندما كان في السادسة من عمره ليعيش في الدنمارك. أصبح الشاب يشعر في قرارة نفسه بأنه دانماركي خصوصاً أنه لا يتذكر أشياء واضحة عن سنوات طفولته. لكن اسمه وهيئته يقولان عكس ذلك. ظلت والدته تدفع به للذهاب إلى العراق لتربطه بجذوره لدرجة أنها تركت له تذكرة السفر بعدما غادرت لتضعه أمام الأمر الواقع. يضطر “علاء” إلى السفر ويقرر توثيق عودته إلى العراق بعد غيبته الطويلة. يعترف الشاب أن الفكرة لم تكن واضحة تماماً لإنجاز فيلم لكن الظروف والتجربة التي مر بها أثناء رحلته كانت وحدها فيلماً وثائقياً. بكاميرا غير عالية المستوى، وبتصوير مهتز مرتبك، وكادرات مشوشة أحياناً أخذ “علاء” يختبر مشاعره، ويستعيد ذكريات الطفولة عبر حكايات الآخرين المتمثلة في الجدة، والخالة وزوجها، وابن الخالة، وفي بعض حكايات الأم القادرة على إطلاق ضحكات صافية رقراقة.
في الفيلم تفاصيل يرصدها المخرج، وتساؤلات ساخرة يطرحها بين حين وآخر تكشف المعاناة التي يحياها أهل العراق وخصوصاً الشباب الذين لا يجدون عملاً مناسباً. في الفيلم حكي واضح الصدق في التعبير عن المشاعر الحائرة، ترتبط داخله علاقة حميمة بين الناس والكاميرا، بين مخرج الفيلم الذي هو بطله الرئيسي وبين ابن خالته الشاب المراهق بملامحه البريئة وحكيه الساخر الساذج أحياناً. هناك في “الديوانية” بأرض العراق وبينما يسعى الشاب الدانماركي “علاء محسن” لاكتشاف جذوره العراقية تموت والدته فجأة، فهل تموت معها صلته بالعراق؟
أثار الفيلم كثيراً من الجدل والاختلاف في الرأي منذ عرضه الأول في حفل إفتتاح مهرجان الخليج السينمائي الرابع المنعقد في الفترة من 14- 20 أبريل الماضي. البعض أُعجب به وامتدحه طويلاً مشيداً بلغته البسيطة، والبعض الآخر هاجمه بعنف – في كواليس المهرجان – مندداً بأسلوب وتكنيك استخدام الكاميرا المهتزة والكادرات المائلة المتحركة بعشوائية واعتبروا مخرجه الهاوي غير المحترف الذي لم يدرس أصول الفن السينمائي وقواعد الإخراج كارثة على الوسط السينمائي. وذلك رغم أن “علاء محسن” تخرّج حديثاً من كلية الأفلام الوثائقية والقصيرة في الدانمارك ويعني بقضايا اللاجئين والهوية والدنماركيين العراقيين، وقد أنهى في سنة 2009 فيلماً وثائقياً قصيراً عن شاب دانماركي يتحول إلى الديانة الإسلامية.
الحقيقية أن نتيجة النقاش حول “طفل العراق” – الذي لم يتوقف منذ يوم الإفتتاح وطوال أيام وليالي المهرجان كلما جاءت سيرة الفيلم – شهد إحتداماً بين وجهة نظر كاتبة هذه السطور وبين رأي الناقد عصام زكريا عندما نسب الفيلم إلى المونتير معتبراً أن كُثر من المخرجين هذه الأيام يقومون بتصوير أي مشاهد وأي لقطات ويذهبون بها إلى المونتير الذي يجلس لساعات طويلة فيبدع منها عملاً من المفترض أنه لا يُنسب للمخرج بقدر ما يُنسب للمونتير.
الرأي السابق الذي طرحه “عصام” في تقديري يتضمن جزءاً صحيحاً من بعض النواحي لكنه من ناحية أخرى بكل تأكيد لا ينطبق على فيلم “طفل العراق”، ليس هذا فحسب لكنه أيضاً يظلم الفيلم وصانعه ويتجني عليهما. شخصياً لا أنكر أهمية دور المونتير والمونتاج في العمل السينمائي والوثائقي. فإعادة ترتيب المشاهد أو تقصير بعضها وتطويل البعض الآخر، ليس فقط في السينما الوثائقية ولكن أيضاً في الروائية، قد يخلق حالة موجعة، حالة من الصدق الإنساني لا مثيل لها. وإن كان هذا لا ينفي إمكانية وجود عمل فني رائع بعيداً عن المونتاج فهيتشكوك مثلاً في فيلم “الحبل” حطم تلك النظرية التي كرسها “إيزنشتين” وعدد من المخرجين الروس بأن المونتاج هو أساس العمل الفني. كما أن المخرج الروسي الراحل البارز “أندريه تاركوفسكي” نظَّر لهذه الإشكالية الفنية مؤكداً على أن المونتاج ليس هو السمة المميزة للسينما، لأن المونتاج موجود تقريباً في كل شيء في الحياة.

المونتاج في اعتقادي لا يستطيع أن يصنع شيئاً أمام لقطات ومشاهد لا تحتوي على الزمن النفسي الواقعي، المونتاج قطعاً سيقف عاجزاً عن فعل شيء أمام لقطات مشوشة لا يربط بينها خيط رفيع غير مرئي أحياناً. في فيلم “طفل العراق” صحيح أن الكاميرا المهتزة كانت مزعجة لي في بعض اللقطات خصوصاً في اللقطة التي كانت الكاميرا تستقر فيها على ساقي علاء لتصوره بينما هو جالس فوق الأرجوحة، مع ذلك كان الإحساس المتفجر لدي في تلك اللحظة أن المخرج كان يُجرب أن يعبر أو يرمز بتلك الإهتزازة والتأرجح عن حالته النفسية المتأزمة. كون أن استخدام الكاميرا كان مزعجاً أو غير موفق لن يكون محور النقاش إذا تأملنا وضوح الرؤية التي يمتلكها هذا الشاب البالغ الحادية والعشرين من العمر، فتعلم التكنيك وقواعد الإخراج يُمكن اكتسابه في فترة وجيزة ومع التجربة والخطأ، لكن الأصعب هو امتلاك الإحساس الفني العالي، هو امتلاك القدرة على التعبير عن مشاعر إنسانية شديدة الحساسية بهذا النقاء.
لذلك في يقيني أنه لو لم يكن هناك مخرجاً واعياً اسمه “علاء محسن” مفعم بالمشاعر والتساؤلات المحرجة، مخرجاً يمتلك الرهافة والحساسية والجرأة التي تمكنه من أن يبوح بمشاعره المتضاربة والمتناقضة، من أن يكشف أفكاره المضطربة بتلك القوة والوضوح والصدق لما نجح أي مونتير في توليف الفيلم بصورته الحالية وبتأثيره العاطفي المليء بالشجن وبلاغة المشاعر.