رحيل صلاح مرعي : الاصغاء للصوت في المناظر الحيّة
رحل في القاهرة مؤخرا بعد صراع مع مرض السرطان فنان الديكور السينمائي المصري الكبير صلاح مرعي عن 69 عاما. ربما يكمن تأخير الكتابة عنه، لأن صلاحا نفسه لم يكن مستعجلا في مغادرة الحياة ذاتها، فطبيعته على بساطتها كانت اشكالية دائما وتنبع من حبه لها، أو من حبه لمعاندتها بالشكل الذي يريده ويريد أن يكون عليه، وكأنها أمست قطعة ديكور في يديه. بهذا المعنى، فإن مرعي لم يكن متعجلا في رمي هذه القطعة والبحث عن بدائل لها في أمكنة أخرى، يمكن فيها تصيد المزيد من الزوايا الصالحة لصناعة فضاء يعج بأمكنة وشخوص تتجدد على الدوام. لهذا يمكن القول إن الراحل الكبير فاجأ جميع معارفه وصحبه بهذه الخطوة حين تنازل طائعا ومستكينا – للحياة.
ولد الراحل الكبير حين اكتشف مصاهرة المتعة والجاذبية الفنية في فيلم ( المومياء ) للمخرج الراحل شادي عبد السلام. ليس بوسع أحد انكار هذه الواقعة في حياة ( كبير كهنة آمون )، فهي واقعة لا يمكن

القفز عنها أو المرور عليها لتسجيل لحظات مجاملة في القيد الرسمي تبدأ بتسجيل لحظة الولادة الحقيقية، أي عام 1942 في مدينة المحلة الكبرى ( تبعد حوالي 120 كيلومترا عن القاهرة )، فصلاح كان قد انجذب نحو ديكورات مسرحية أوديب مع شقيقه الممثل الراحل أحمد مرعي بعد سبعة عشر عاما من هذا التاريخ، ووجد نفسه يدرس في المعهد العالي للسينما، قسم تصميم المناظر السينمائية بنوع من السحر المغناطيسي الذي أحدثه في داخله انقلاب الفن السابع المضيء، ليتخرج عام 1963، ويلتحق بالعمل في المؤسسة المصرية العامة للسينما، ويقوم بتنفيذ عدة ديكورات لأفلام أنتجها القطاع العام السينمائي المصري في تلك الفترة، ثم يلتحق بمركز الفيلم التجريبي منذ تأسيسه عام 1969 على يد الراحل شادي عبد السلام.
يمكن القول إن انعطافة كبرى جرت في حياة صلاح مرعي منذ أن ارتبط بصداقة فنية وانسانية مع مخرج فيلم (المومياء)، فهو من الأوائل الذين آمنوا بموهبته الكبيرة في ايقاظ الجمال المصري حين يكون نائما، أو اكتواه السهاد لطول مخاض وعسر ولادة. مع لقب كبير كهنة آمون الذي أسبغه عليه عبد السلام، حين أدرك أن صلاح مرعي يمكنه أن يعيد تشييد وهندسة إرث الفراعنة، كما بيوتات الفلاحين المصريين بصمت وقدرة على المحاججة والاقناع لم تتوفر ربما لسواه في عالم المناظر السينمائية في العالم العربي، ومن المفارقة أنه نفس العالم الذي هجره شادي نحو الاخراج السينمائي بعد أن عيل صبره، وهو يدخل في متاهة، رغم تفوقه في صناعة خيوطها، وتمرسه في المناورة داخل جسومها الغامضة والملغزة، لأنه كان يثق أن صلاح ربما، كان يمكنه عن طريق بصيرة داخلية عليا تمرير الدوافع الفنية والنفسية الخالصة الذي يفتقده عالم المناظر في السينما المصرية، وهذا ما دفعه لأن يشرك صلاح في ديكورات أعظم فيلم مصري، فصلاح لم يعد فنان ديكور عادي، بل صاحب رؤية وبصيرة حرة يمكن التعويل عليها حين لايراد ذلك.
لم تتوقف عينه هنا، فقد ساعد ببصيرته المتوقدة في تصميمات أخرى خاصة بعبد السلام مثل فيلمه (بين القصرين) و(الفلاح

الفصيح) وفي فيلم تسجيلي للمخرج الايطالي روبرتو روسيليني عام 1967 بعنوان (صراع من أجل البقاء)، وقام في أوقات لاحقة بعمل تصميمات خاصة بفيلم (اخناتون) الذي لم يقدر للمخرج الراحل انجازه في حياته القصيرة.ويعتقد صلاح الذي أمعن النظر في اخناتون إن مجرد التفكير في اخراج هذا الفيلم كان سيعد مجازفة خطيرة لا يمكن التسامح معها، ولهذا لم يقدم عليها رغم أنها ساورته في أزمنة عدّة ومكان واحد، كان هو مكتب الراحل عبد السلام الذي ظل صلاح مرعي حتى اللحظات الأخيرة من حياته مؤمنا بامكانية تحويله إلى متحف يحفظ لبعض كنوز السينما المصرية حجبها المفقودة، وقد جرى تضييع بعضها، ووأد بعضها الآخر من خلال التصاقها بمسميات شتى، بعضها نشأ عن تخريب داخلي وبعضها الآخر بفعل عوامل خارجية مختلفة.
ربما اكتفى صلاح مرعي بتصميم مناظر حوالي ثلاثين فيلما، مثل (الحياة حلوة لحلمي حليم -الجوع لعلي بدرخان – عفاريت الاسفلت لأسامة فوزي – وراء الشمس لمحمد راضي – بحب السيما لأسامة فوزي – أيام الغضب و زيارة السيد الرئيس لمنير راضي – سمك… لبن…تمر هندي لرأفت الميهي – الظلال على الجانب الآخر لغالب شعث – الحاجز لمحمد راضي – أغنية على الممر لعلي عبد الخالق – المدينة ليسري نصرالله – مبروك وبلبل لساندرا نشأت – البطل لمجدي أحمد علي)، وربما لم يكتف صلاح مرعي بذلك، وظل معلقا بفكرة إيقاظ كل جمال مصري نائم، أو على أهبة النوم والتثاؤب في الأمكنة المعدة للسينما عن طريق المصالحة مع عناصر الطبيعة الملهمة التي أجاد هو تعريفها من خلال قطع الديكور التي كان يجيد حملها والتلويح بها أمام كل معضلة فنية تفرضها هذه المصالحة الفذة. لهذا لا يمكن الجزم بأن صلاح توقف مرغما في مرحلة من مراحل حياته، فهو صاحب رؤيا متمكنة لا يمكنها تفويت فكرة ضارية من هذا النوع، وهي فكرة تقوم على مجاذبة العناصر الملهمة وتعشيقها مع تلك العناصر النائمة التي كان يقوم على ايقاظها بعد أن يقنع من هم حواليه بوجودها المتنمر حتى حين تكون مستغرقة في سبات بهي.
رحل صلاح مرعي وفي جعبته أفكار عن معاني الحياة حين يعيشها متوحدا فيها. ترك تلامذة كثر وراءه، بعضهم مايزال على مقاعد الدرس، وبعضهم غادرها نحو الحياة العملية، فهو كان أستاذ مادة تصميم المناظر وتاريخ العمارة ومشرفا على مشروعات البكالوريوس بقسم تصميم المناظر في المعهد العالي للسينما في القاهرة. سيذكره من بقي ومن غادر باتجاه الحياة العملية، فظلاله لايمكن نكرانها، كما لايمكن نسيانها أو القفز عنها، وبصماته ستكون أشد وضوحا، حين يقرر في نومته الأبدية نوع الخشب أو الاكسسوار أو الصوت الانساني الواحد حين يجلجل في أمكنة عدة وزمن استثنائي عاشه صلاح بملء جوارحه، وبذلك الشغف الذي لايستعاد حين يغادر صاحبه. صلاح مرعي كان مدرسة حياة، لاتعوزها قطع الديكور حين تنعشها أصابعه الحية. كان مدرسة ديكور متحركة وملهمة في الحياة، يرقص حين يجب أن يرقص، ويضع لمساته على الجوانب الغامضة في كل منظر وأحجية سينمائية. يكفي أن يكون هناك ليتورد النسغ، ويتكرر صدى الصوت والصورة حين تصبح في منتهى اللحظة المطلوبة.
نصف قرن وظل حتى اللحظة الأخيرة مشغولا بالبحث الدائم عن مصدر الصوت في كل تلك الأجسام النائمة. لم يتوقف عن تجريب الاستماع إليها حين لاتند عنها نأمة، ولكنه كان يدرك ببصيرته أن كل قطعة منومة ومسترخية لايند عنها صوت، لاتصلح لتكون ركنا من أركان مدرسته في صناعة المناظر الحيّة. ربما يكون صلاح مرعي فقط من يمكنه اعداد كمين أو نصب فخ في طريق هذا الصوت، وربما لايعدو أن يكون ذلك الفلاح الفصيح الذي استغرق بصناعة صوت لكل جماد يقع بين يديه، على أن يصبح الصوت المصدر الرئيس في العملية الفنية والجمالية، وهذا مالم يحدث من قبل، وربما يتأخر في الحدوث من بعد رحيل الفنان الذي أجاد في نزع الفواصل بين ماهو واقعي ومتخيل في هذه الكتل الجامدة. لم تعد شكلا واحدا، بل صوتا نافذا يمكنه الاصغاء لكل مكونات هذه المناظر الحيّة.