سينما نوري بيلغ شيلان: الرموز وما يدور تحت السطح
عرف فيلم نوري بيلغ شيلانالجديد «ذات مرّة في أناضوليا» إعجاباً كبيراً بين النقاد حال مشاهدته في الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي الدولي. إلى جانب خروجه بجائزة لجنة التحكيم الكبرى، تلك التي قادها المخرج روبرت دي نيرو، شهد كتابات مؤيّدة من قبل معظم من شاهدوه.. هذا ليس غريباً على الإطلاق بل يندرج ضمن ما عرفته أفلام المخرج السابقة. فمعالم هذا الفيلم الفنية هي استمرار لما حفره المخرج في أعماله السابقة جميعاً. نظرة راصدة وتأمّلية للحياة في داخل شخصياته وحولها. والداخل والخارج ممتزجان بمناطق رمادية عديدة تجعل البحث الإنساني أكثر إثارة وقوّة.

ولد المخرج في 1959/1/26 في اسطنبول لكنه ترعرع في بلدة أبيه محمد أمين شيلان في مقاطعة كاناكال، شمالي تركيا. عاد إلى اسطنبول وعمره عشر سنوات. بدأ دراسة الكيمياء سنة 1976 بعد تخرّجه من الكليّة ثم درس الهندسة الكهربائية لكن ميوله السينمائية كانت كافية لتحويله عن هذه الدراسة أيضاً. لكن شيلان شغل نفسه بالسفر المتواصل كرحّالة إلى شرق آسيا كما إلى غرب أوروبا قبل أن يلتحق بدراسة التصوير السينمائي وهو في الثلاثين من عمره. مثّل في بعض أفلام صديقه المخرج محمد إريليماز في الوقت الذي يدرس على نحو تطبيقي منفصل عن العمل السينمائي من بداية الفيلم حتى نهايته. تلك الدراسة أدّت به سنة 1993 إلى إخراج فيلمه القصير الأول “شرنقة”.
إلى حد بعيد، وباعترافه، فإن أفلامه الثلاث الروائية الطويلة، مستوحاة مما ورد في “شرنقة” مع تعذّر مشاهدة ذلك الفيلم، فإن المؤكد أن الأجواء الاجتماعية والعاطفية الخاصّة التي توفّرت في موضوعه نسجت خيوطاً من حكاياته اللاحقة. القصّة في “شرنقة” تدور حول رجل وزوجته يحاولان العودة إلى بعضهما البعض بعد انفصال طويل. ويكتشفان أنهما لا يستطيعان نسيان ما حدث في الماضي. قام المخرج بإسناد الدورين الرئيسيين لوالديه.
واعتمد المخرج مرّة أخرى على ما استخلصه من معايشات وذكريات في فيلمه الروائي الطويل الأول “البلدة الصغيرة” (1997) حيث حكى من وجهة نظر طفلين قصّة في أربعة فصول (تبعاً لفصول السنة) تتناول العلاقات بين أربعة أفراد من عائلة تركية واحدة. هذه المرّة استخلاص الحكايات الذاتية مؤكد تبعاً لحقيقة مفادها أن الفيلم مبني على ذكريات شقيقة المخرج أمينة ومن وضع الأحداث في تلك القرية الشمالية التي عاش نوري وشقيقته فيها نحو عشر سنوات.
العلاقات الاجتماعية بقيت سائدة في أعماله اللاحقة . في كنفها يجد المخرج ما يحتاجه من قدرة على تشريح العلاقات الداخلية والإنسانية بين أناسه. لبنة قريبة من اهتمامات السويدي أنغمار برغمن لكن بأسلوب تعبيري يختلف كثيراً ويخرج عن نطاق الداخل الممسرح إلى تصوير أكثر تعبيراً عن جماليات المحيط رغم دكانتها. بدا هذا واضحاً في فيلم “غيوم شهر مايو” 1999 الذي نهج فيه حكاية رجل اسمه مظفّر يعود إلى بلدته ليجمع أقاربه ومعارفه لتصوير فيلم روائي. يجد أن والده يحاول إنقاذ أرضه من وضع اليد وذلك ضمن مسائل تثير ملاحظة المخرج. على الرغم من المعالجة ذات الطبيعة الساخرة، إلا أن “غيوم شهر مايو” فيلم جاد ومثل سوابقه يستوحي من الذات أصوله وشروحاته وجمالياته.
“عن بعد” 3002 هو الجزء الأول بين ثلاثية لا تختلف في منحاها كثيراً عما كان المخرج بدأه سابقاً من الحديث في أموره الذاتية، لكنها تتجاوزها في المعطيات الفنية. في أسلوب عمل مبهر يحيي فيه المخرج أندريه تاركوسكي دون أن يسعى لتقليده بالضرورة، ويتحدّث فيه عن رجلين: يوسف (محمد أمين طبرق) يترك القرية إلى المدينة في عز شتائها بحثاً عن عمل وابن عمّه محمد (مظفّر أوزدمير الذي ظهر تحت إدارة المخرج في “البلدة الصغيرة”) المستقر في اسطنبول منذ سنوات، غارق في وضع عاطفي ميؤوس منه مع مطلّقته التي ستترك البلاد إلى كندا. العلاقة بين القريبين ليست، من مطلعها سهلة، وتنتهي مشحونة بخلاف. ما سيكتشفه النازح هو أن المدينة ليست قاسية عليه وحده، بل على ابن عمّه الذي اختلف عما كان عليه حين كان لا يزال قروياً أناضولياً كحال يوسف. إلى جانب أنه فيلم عن رصد متحوّلات و”مسافات” تبعد الشخص عن مكان عيشه والمكان الذي وُلد فيه على حد سواء، هو رصد لحياة تمر ببطء وإسهاب جميلين. لقطات المخرج للحياة على الشواطئ (السفينة المقلوبة على جانبها)، للسحب الشتوية، لمعالم البيئة وأجوائها مندمجة تلقائياً بمشاعر بطله يوسف وحياته التي لا يعبأ بها أحد.
فيلم شيلان التالي، “أجواء” ( كلمةClimate عني أيضاً طقوس) يختلف لجهة أن قرار المخرج تمثيل دوره الأول يوحي بأنه ذهب بعيدا في استعادة الحدث الذاتي. هذا من دون أن يكون ما يسرده سيرة فعلية. إنه حول رجل أستاذ جامعي عيسى (المخرج) وزوجته بحر (إبرو شيلان) يقومان برحلة بين الآثار التي تتحوّل إلى شواهد رمزية تشي بالتباعد بينهما. حين يحاول الزوج الحياة من دونها يجد نفسه وقد فقد توازنه. سيحاول العودة إليها وسوف تأتيه في موعد لاحق في مكان منعزل لكن لا أمل لهما في مستقبل مشترك. فيلم مشاعر حادّة يوحي بأن المخرج انتقل من محاولة فهم شخصيات أبطاله إلى إدراك أنه بحاجه لإدانتهم في تصرّفاتهم كاشفاً عن نزعة ساديّة يمارسونها حين يفقدون القدرة على السيطرة على ذواتهم الحائرة. اختيارات المخرج من اللقطات دائماً ما تتبع رغباته في دمج الحالة الإنسانية ما يماثلها من رموز الطبيعة. الطقس (في مختلف أجوائه) هو أحد هذه الرموز الدائمة هنا.

“ثلاثة قردة” 2008 فيه ذهاب أبعد في خطأ الرجل ودورانه في ذاته دون نجاة. كيف يؤثر المرء على وضعه الخاص ومستقبل حياته حين يجد نفسه ملتصقاً بالتزماته بتقاليده. يبدأ الفيلم بمشهد يصدم فيه رجل ذي منصب بسيّارته شخصاً ويرديه قتيلا. يتّفق مع سائقه أيوب (يافوز بنغُل) بادعاء أيوب بأنه هو الذي صدم الضحية ليلاً وعن دون قصد ليدخل السجن بدلاً عنه في مقابل قيام الرجل بالإنفاق على زوجته وابنه. لكن الأمور ليست في نصابها الصحيح حال خروج أيوب من السجن. الشك والغيرة والنوازع النفسية تطغى عليه وتقوده إلى جريمة فعلية. الفيلم يحمل معاني عميقة عن النفس الواحدة كما عن محيطها الاجتماعي المتعدد، لكنه أيضاً فيلم يحمل معالجة مختلفة عن معالجات شيلان السابقة في أنه أقرب إلى القصّة المروية منه إلى سينما التأمّلات التي صاغها من قبل. على ذلك، تحليل تلك الحياة العائلية المحصورة في شقّة صغيرة تصطدم ببعضها البعض كيفما اتجهت وهي لا يمكن أن تسير بالتوازي بين شخصيات المخرج كما عهدناها في أفلامه السابقة. هنا تصطدم أكثر وبهدوء تحت سطح الحدث وصولاً لنهاية معادية للرجل الذي سيطلب من ابنه تحمّل تبعاته ودخول السجن عوضاً عنه.