التخطيط الإستراتيجي للمضمون الإعلامي

يغيب «التخطيط الإستراتيجي» عن عموم الثقافة العربية، ولا يتوقف عند حدود  العمل الإعلامي، وخاصة التلفزيوني منه!
.. ثمة «فكر يومي»؛ ارتجالي، يشيع في الكثير من مفاصل هذه الفضاء اللامتناهي، الذي لم يعد يفاجئنا بجديده، إذ لا يكاد يمر أسبوع دون أن تتناهى إلى أسماعنا أنباء عن ولادة فكرة إطلاق قناة تلفزيونية، هنا، وشبكة تلفزيونية، هناك.
ومع أن الكثير من مشاريع القنوات التلفزيونية، على الأقل تلك التي تابعنا خلال العام المنصرم 2010، قد انتهت إلى الإجهاض، قبل الولادة، وانطوت، مأسوفاً عليها!.. وعلى الرغم من أن الكثير من القنوات التلفزيونية التي انطلقت، خلال العقد الماضي من السنوات، قد انتهت بدورها، وباستثناءات محدودة جداً، إلى شبكة من الحوائط المسدودة، سواء بسبب الفقر المادي، ونضوب الموارد المالية، أو بسبب القناعة بافتقاد الدور والمبرر لوجودها.. إلا أنه منذ مطلع العام الحالي 2011، لم نكفّ عن تلقي أنباء متناثرة، عن مشاريع إطلاق قنوات تلفزيونية عربية قادمة، من غير حدب وصوب!..
لماذا انتهت قنوات ومحطات فضائية، سابقة، إلى الخيبة؟.. وما الذي يضمن للقنوات التلفزيونية القادمة، التي نسمع عن قرب إطلاقها، أن لا تنتهي إلى المآلات ذاتها؟.. سؤال يبدو على غاية من الدقة!.. ودون أدنى شك، فإن الإجابات التي يمكن اقتراحها، لا تتعلق بالرغبات الفردية، ولن تتوقف عند حدود توفر الموارد البشرية، والمادية، فقط!.. بل تحتاج إلى رؤية منهجية، علمية، أكاديمية، رصينة.
«فشل غالبية القنوات، وإقفال أبوابها، يعود لعدم وجود تخطيط استراتيجي».. يقول المستشار الإعلامي «محمود عبد الهادي»، وهو بهذا يضع يده على الجرح تماماً، ويلتقط مكمن الخلل الأساس. إذ أن غياب «التخطيط الإستراتيجي»، هو المؤسس الحقيقي لما نراه من «غلبة العشوائية والارتجال في الأداء، والعبثية في تقديم المضمون»، على ما يقول.
وإذ يولي محمود عبدالهادي أهمية قصوى لما يسميه «التخطيط الإستراتيجي للمضمون الإعلامي»، ويراه قاعدة ارتكاز حقيقية لنهوض العمل الإعلامي العربي، وخاصة التلفزيوني منه، وأساساً راسخاً لاستمراره ونجاحه، بناء على مقولة ذهبية له، مفادها: «التخطيط بلا تنفيذ، إهدار للوقت.. التنفيذ بلا تخطيط، عبث.. الجمع بين الاثنين، ضمانة الإنجاز»، فإنه بهذا يكاد يكون حالة استثنائية، متفردة، في وعيه لضوابط العمل الإعلامي في المجال التلفزيوني العربي، وتأسيسه الأصيل لمنهج ورؤية واستراتيجية، مازالت مفتقدة، إلى حدّ كبير في الثقافة العربية، وتطبيقاتها العملية في المدن الإعلامية العربية، طرّاً.
يستفيض المستشار الإعلامي «محمود عبدالهادي»، الرائد والمُؤسِّس في مجاله، في محاضرة قيّمة له، بالقول: «التخطيط الاستراتيجي لمضمون القنوات الإعلامية: هو ربط مضمون القناة بأهدافها الاستراتيجية المنبثقة عن رسالتها ورؤيتها، مع الإلتزام بالسياسات العامة والتحريرية للقناة، والمنضبطة بموازنتها وأنظمتها ولوائحها ومعايير الجودة المهنية، والملتزمة بالجداول الزمنية».
وبناء على ذلك، يرى «إن عملية تحويل رسالة القناة ورؤيتها إلى برامج تلفزيونية، لا يمكن أن يتحقق دون تخطيط استراتيجي كامل، يقوم على أسس وقواعد منهجية واضحة، تشكّل المعايير التي نقيس عليها مدى نجاح القناة، في الوصول إلى غاياتها، وتحقيق أهدافها».
هذا الذي يقوده، بالتالي، إلى القول «إن رسالة القناة، لا معنى لها على الإطلاق، إذا ظلت حبراً على ورق، ولم تتحوّل إلى قاعدة صلبة، تتفرع منها كافة المحددات، التي تجعل إنتاج المضمون، على الداوم، مرتبطاً بها».. وهو ما يجعلنا نؤمِّن على قوله، الذي ذكرنا قبل قليل: «فشل غالبية القنوات، وإقفال أبوابها، يعود لعدم وجود تخطيط استراتيجي»، وقد حقق نظرياته بالتطبيق العملي، عندما قاد عمليات التأسيس والتخطيط لقنوات تلفزيونية، ومراكز تدريب وتطوير إعلامي، ومواقع إلكترونية ذات صلة، نذكر منها: «مركز الجزيرة الإعلامي للتدريب والتطوير»، و«موقع الجزيرة نت»، و«قناة الرسالة»، و«قناة القدس»، و«قناة الشروق».. وغيرها طبعاً!..

الإعلامي “محمود عبد الهادي” رفقة الشيخ حمد بن ثامر
رئيس مجلس إدارة شبكة الجزيرة

وفي الوقت الذي تتناهى الأخبار إلى مسامعنا، كاشفة عن نية هذا الإعلامي، بإطلاق قناة فضائية، وبدء البث التجريبي لتلك القناة، من دبي أو بيروت أو القاهرة أو الدوحة، فإن من نافل القول إنه ليس بالنوايا الطيبة، وحدها، تقوم القنوات الفضائية، ولا بالرغبات، ولا حتى بمجرد الانتساب إلى هذا التيار الفكري، أو ذاك، أو هذا النهج السياسي، أو غيره.
 الأصل، كما يراه عبدالهادي، يكمن في الاجابة عن سؤال عملاني؛ جوهري، خلاصته: «كيف يمكن تحويل رسالة القناة ورؤيتها إلى خطة برامجية؟.. كيف يمكن استثمار المبالغ الضخمة التي تنفق على موازنات القنوات الفضائية لصالح أهداف بعينها تقصدها الجهات المالكة؟..»، وذلك انطلاقاً من قناعته التي «تعتبر البرامج التلفزيونية هي عقل القناة وقلبها النابض. هي الوسائل التي تحقق رسالة القناة ورؤيتها وأهدافها الاستراتيجية. وهي الأوعية التي تنقل للجمهور المضمون الذي تبثه القناة من معلومات، ومواقف، وأفكار، وآراء، وقيم، وسلوك».
 وبالتالي فإن «نجاح القناة مرهون بارتباط التفاصيل هذه، برسالة القناة ورؤيتها وأهدافها الإستراتيجية ووظائفها. وتحقيق التأثير في الجمهور، وكسب تفاعله».
وفي محاضرته القيمة، تلك يقدم المستشار الإعلامي «محمود عبدالهادي»، ما يبدو على هيئة «خارطة طريق»، يمكن الاهتداء بها، والاتكاء عليها، دون الوقوع في «المطبّ» العربي الأثير، وهي آفة تكرار البدايات، مرة تلو أخرى، من نقطة الصفر، بعيداً عن آلية التراكم، ومفهومه، بمعناه التاريخي والتجريبي، في آن، ذاك «المطب» الذي غالباً ما يتجلّى على نحو تكرار التجارب، بخيباتها، وأخطائها، وهفواتها، وحتى انطفاءاتها.
حقيقة أن الفضاء العربي يكتظ بالعشرات، إن لم نقل بالمئات، من القنوات الفضائية، ما بين رسمية، وغير رسمية، وما بين ربحية، وغير ربحية.. ولكن مما يؤسف له، أن هذه الكثرة في مجال تواجد القنوات التلفزيونية، لا تواكبها، بالقدر الكافي، عملية تنظير معرفي، أو تأسيس منهجي، علمي، أو دراسات بحث أكاديمي رصين، كهذا الذي نقف عليه، في طراز هذه المحاضرة، التي بين أيدينا.


إعلان