ملاحظات حول السينما التجريبية في فرنسا
بدأت الممارسات التجريبية لما نُطلق عليه الطليعة السينمائية الأولى، أو التاريخية في بلدين تحديداً، ألمانيا، مع السينمائيين الذين أنجزوا أفلاماً تجريدية مثل : والتر روتمان، هانز ريشتر، أوسكار فيشينجر، وفي فرنسا عندما ظهرت تيارات مختلفة :
ـ الانطباعيون : دولوك، لوهربييه، آبستاين….
ـ الدادائيون : مان ري، بيكابيا…
ـ السورياليون : بونويل، دالي….

وبعض الذين يصعب تصنيفهم، مثل: فرناند ليجيه، وآخرٌ لا مفرّ من الإشارة إليه، الشاعر السينمائي “جان كوكتو” الذي تأثرت به كلّ الحركة التجريبية الأمريكية ما بعد الحرب.
بينما كانت مساهمة إيطاليا بشكلٍ خاصّ من خلال النصوص حول السينما المُستقبلية، وساهمت بالقليل جداً من الأفلام.
ومنذ الخمسينيّات، بدأت السينما التجريبية المعاصرة في فرنسا مع “أفلام حروفية” لموريس لوميتر(الفيلم قد بدأ بالفعل)، وإيزودور إيسو(معاهدة لعابٍ، وأبدية)، ولم تحظَ وقتذاك على اهتمام أحد، ولكنها حصلت اليوم على إعجابٍ عام، ويشمل ذلك شخصياتٍ معتبرة في سينما الأندرغراوند الأمريكية مثل “جوناس ميكاس”.
في عام 1971 تأسّست “جماعة السينما الشابة”، وكانت أولى التعاونيات المُستقلة التي تخصصت بعرض، وتوزيع السينما التجريبية، تلاها “Paris Film Coop ” في عام 1974، و” Light Cone” في عام 1982، ومنذ ظهورها، أثرت على الحياة الثقافية في تلك الفترة إلى درجة أنّ متحفاً جديداً في ذلك الوقت “مركز جورج بومبيدو” خصص قسماً دائماً للسينما التجريبية (يديره اليوم “جان ميشيل بوروس”)، وفيما بعد ظهر عدد من الهياكل المؤسّساتية التي واصلت المسيرة التجريبية.
من المفيد الإشارة أيضاً إلى أطروحتين جامعيتين حول هذه التعاونيات قدمهما طالبان إيطاليان، “ميركو سانتي” عام 2001، و”سارا داكوستينو” عام 2002 إلى كلية الآداب، والفلسفة في جامعة بولونيا.
سنة بعد أخرى تضاعفت العروض، والبرامج، والتظاهرات في عددٍ كبير من المؤسّسات الكبرى التي تبرمج الفيلم كفنّ، وتعرض بانتظام أفلاماً تجريبية :
السينماتيك الفرنسية، مركز جورج بومبيدو، ملتقى الصور، متحف اللوفر، متحف Jeu de Paume، جماعة السينما الشابة، ومهرجانها الأشهر “سينمات مختلفة”، جمعية Scratch، جمعية Braquage، ناهيك عن عددٍ لا يُحصى من العروض في المناطق الفرنسية الأخرى، وكلّها مجدولة في “يوميات السينما التجريبية” نشرة ورقية، وإلكترونية تصدرها فصلياً جمعية Braquage .
منذ بداية السبعينيّات دخلت السينما التجريبية كمادةٍ دراسية، نظرية، وعملية إلى الجامعات الفرنسية عن طريق الرواد : دومنيك نوغيز، كلودين أيزمان، غي فيهمان، ..
ويواصل الدرب حالياً : كاتارينا توماداكي، نيكول برينز، ستيفان مارتي، فريدريك دوفو، آلان ألسيدي سودريه،…
وحتى بداية الألفية الثالثة، كانت فرنسا البلد الوحيد الذي توجد فيها مؤسسة توزيع فيديو مكرسة تماماً للسينما التجريبية، Re:voir التي يديرها الأمريكي المقيم في باريس “بيبب شودروف”، ويصدر كلاسيكيات الطليعة، وأعمال المعاصرين.
وينطبق الحال أيضاً على الثقافة السينمائية، حيث تعتبر فرنسا من أوائل البلدان التي تأسّست فيها دار نشر متخصصة بالسينما التجريبية، Paris Expérimental ، ويديرها “كريستيان لوبرا”.
وفي فرنسا أيضاً تطورت، ولأول مرة، حركة مختبراتٍ تسمح للفنانين بالسيطرة من الألف إلى الياء على سياقات إنجاز أفلامهم، ومنها: MTK, L’Abominable ، L’Etna
ومنذ عام 1998 بدأت نيكول برينز، مع زميلها “كريستيان لوبرا”، ولأول مرة في العالم، بتوثيق 100 عام من السينما التجريبية الفرنسية، وهكذا تعتبر فرنسا البلد الوحيد التي أرخت لسينماها التجريبية، وفي عام 2000 أخذت طابعاً رسمياً عن طريق تنظيم تظاهرة كبرى في السينماتيك الفرنسية تحت عنوان “شابة، صلبة، ونقية”، تبعها كتاب ضخم بنفس العنوان.
هناك نقاد، وباحثون متخصصون بالكتابة عن السينما التجريبية، يكتبون منذ سنوات طويلة في كلّ الوسائل الإعلامية، ومنهم : دومنيك نوغيز، جيرار كوران، آلان ألسيدي سودريه، ريمون بيللور، رافائيل باسان، نيكول برينز…تبعهم جيل آخر من النقاد التفوا حول المجلة المتخصصة “Exploding”.

كان عام 2006 تجريبيّ بامتياز، في نفس الوقت الذي كانت تنعقد الدورة الثامنة لمهرجان السينمات المختلفة في باريس، كان “مركز جورج بومبيدو” يقدم حلقةً مخصصة للأفلام التجريبية المُنجزة بأشرطةٍ من مقاس 8 مللي سوبر، وذلك بعد فترة قصيرة من برنامج إستعاديّ لأفلام السينمائي الكندي “نورمان ماكلارين”، ولكن السينما التجريبية لم تعد، أو لم تكن أبداً أكثر من سينما، وفيما إذا كان ضرورياً مشاهدة الأفلام في الصالات، فإنّ مسألة مكان التجريبي لم يكن أبداً واضحاً، ويشهد على ذلك من جهة ازدهار إصدارات الأقراص المدمجة عن طريق جماعة السينما الشابة، وجماعة Lowave، ومن جهة أخرى حضور الأفلام بمناسبة المعارض، وبالتالي، اقترح “مركز جورج بومبيدو” في عام 2007 تظاهرة بعنوان “حركة الصور” كي يمنح الاعتبار لمقتنياته من الأفلام التجريبية.
إذا كان بعض السينمائيين يطالبون بمكانٍ لهم في ساحة الفنّ المعاصر كحال “ماتياس موللر”، وأفلامه المُنجزة من أشرطةٍ مهملة “found-footage”، هناك آخرون يناضلون بشراسةٍ للاحتفاظ بمكانة الفيلم كفن قائم بذاته، ومابين هذين الاتجاهين، أسّس “بيب شودروف” في صيف عام 2005 “غاليري الفيلم” يهدف خصيصاً لهذا التوجه (بالتعاون مع ماري سوشور، كلير سالفي، وجاكي رينال).
ويقول في حوار مع “سباستيان رونسيرايّ” :
ـ “معرض الفيلم” هو مكان عرضٍ مختلف، تأسّس انطلاقاً من رغبة الاهتمام بتقديم السينما التجريبية في أماكن مخصصة للفنّ المعاصر.
بدورها، تصدر “جماعة السينما الشابة”، وبانتظام، سلسلة من الإصدارات الفيديوية تحت عنوان “سينما مختلفة” تجمع أفلاماً عرضت بمناسبة الدورات المُتعاقبة لمهرجان السينمات المختلفة.
كتبت “ناديا مفلح” يوماً حول كتاب “احتفاء بالسينما التجريبية” :
ـ “دومنيك نوغيز، مرشدٌ لم يتوقف منذ الستينيّات عن تدريب الجمهور الفرنسي على السينما التي يُقال عنها تجريبية، أكان ذلك عن طريق محاضراته في جامعة السوربون، أو إصداراته المتعددة : تجربة حول السينما في كيبك، السينما بطريقةٍ أخرى، السينما الأمريكية السرية، ثلاثون عاماً من السينما التجريبية في فرنسا،….