بجاية: في انتظار دورة العقد الأول…

في مثل هذا الشهر من السنة القادمة (2012)، ستحتفل الملتقيات السينمائية في بجاية (الجزائر) بعقد كامل على تأسيسها حيث بدأت الجمعية المُنظمة لها “بروجيكت هورت” بالتفكير، منذ الآن، في أن تحوله إلى حدث سينمائي متميز، وهي التي ما فتئت تجتهد في استقلاليتها وفي ذات الوقت في تطوير أنشطتها مواكبة للتطور الجديد الذي تعرفه السينما الجزائرية بفضل جيلها الجديد من الشباب الذين لا يتجاوز معدل عمر أغلبهم 30 سنة، والذين يجدون في الجمعية المذكورة متنفسهم للتعبير السينمائي والنقاش المفتوح في ما بينهم.
واستكمالا لما ذكرناه في نص سابق (قبل أسبوع) في موقع الجزيرة الوثائقية عن الجمعية وأشغال الدورة التاسعة التي اختتمت أشغالها في نهاية الأسبوع بنوع من النقد والنقد الذاتي الصريح والجريء، نتوقف عند أهم النقط وإستراتجية العمل في الموسم القادم اعتمادا على ما دار من نقاش بين مختلف الفعاليات التي واكبته سواء من داخل الجزائر أو المدعوين من خارجها.

ساحة “غيدون” فضاء للنقاش المفتوح الحر

كان المسرح الجهوي عبد المالك بوكرموح ببجاية النقطة المركزية للملتقى حيث يلتقي فيه الجميع بحكم احتضانه للعروض والنقاشات التي تليها أو في إطار المقهى السينمائي كل صباح. إن جمالية الهندسة للمسرح وحسن استقبال موظفيه لم يمنع من الإجماع أنه فضاء غير متوفر على شروط العرض السينمائية الجيدة، وغير مؤهل لها، مما أخل بجزء من جمالية الأفلام خاصة وأن البرمجة جيدة بأفلام مختارة بعناية، ووجَدَ فيها الجمهور المحلي فرجة ممتعة. وهذا الفضاء الجميل والممتع للعين الذي شهد بتاريخه تلك النقاشات الجادة في فنون السينما لم يكن بعيدا إلا أمتار قليلة – مشيا على الأقدام – عن فضاء آخر مفتوح شهد بدوره استمرار نفس النقاشات واتفاقات لأعمال مشتركة مستقبلية أو للتوزيع أيضا. وهذه الساحة التي تحمل الإسم الرسمي “ساحة فاتح نوفمبر 1954” فيما هي معروفة عند العامة في المدينة بساحة “غيدون” (Guidon) توجد فوق هضبة تطل على الميناء. وتشاء الصدفة أن تكون فوق بناية بها الخزانة السينمائية وتحتها الإذاعة المحلية الجهوية، وعليه فإن الساحة هي في الواقع سطح الخزانة السينمائية. ساحة تحتوي على مقاه وأريكة للاستراحة، هي بمثابة قلب المدينة نفسها. هذا الفضاء المفتوح فعليا ورمزيا بالنقاش الحر بين السينمائيين الذين يجلسون أمام مدخل الخزانة السينمائية، التي تم ترميمها وتنتظر الجمعية فتح أبوابها لتستفيد منها بتنظيم ملتقاها بها وكذا أنشطتها التي تنظمها طيلة السنة. وعليه، فالجمعية تتمنى أن يكون احتفالها بعشر سنوات على تظاهرتها بالخزانة السينمائية للمدينة والتي ستحترم شروط العرض الجيدة بدون شك فضلا على وجودها بساحة “غيدون”. فالمتتبع للتظاهرة سيسجل أنها – اي ساحة “غيدون” هي امتداد للمسرح في حيوية الملتقى وتنشيط المدينة ثقافيا وفنيا.
ومن التعديلات الجديدة في تركيبة فريق الملتقى ببجاية هو تخلي مديرها عبد النور حوشيش على الإدارة الفنية لصالح شاب آخر هو الناقد السينمائي سمير أرجوم المقيم في باريس ليكتفي عبد النور حوشيش بالإدارة فقط في إطار توسيع شبكة الإدارة وإغنائها بعد أن كبرت الملتقيات ونضجت سياستها السينمائية.
إلتزمت الإدارة المسؤولة ببرنامجها كاملا دون خلل سواء بالعروض السينمائية أو اللقاءات والندوات وهذا في حد ذاته من النجاحات التي تُحسب لصالحها.

مجموعة من المخرجين في نقاش بساحة غيدون

الحديث عن الملصق واللغات

ومن النقط التي ناقشناها مع المسيرين لملتقيات بجاية السينمائية ننقل بعضها أو أهمها للقارئ من خلال ما يلي:
كانت النقطة الأولى تتعلق بالملصق حيث لاحظنا هيمنة اللغة الفرنسية فيه بغياب اللغتين الرئيسيتين للبلد وهما العربية والأمازيغية فسألنا الفنان نور الدين سعيدي الذي قام بتصميم الملصق وإنجازه عن فحواه باختيار تلك الصورة وسبب غياب اللغتين العربية والأمازيغية؟ فكان جوابه أن الصورة هي فوتوغرافية التي اختارها لكونها تعبر عن حال الجزائر اليوم حيث السور يعاني من شقوق كشقوق البلد نفسه، وفي أسفله عشبا طفيليا أو يمكن اعتبار ذلك العشب من جهة أخرى بتشبث بالحياة في سور به شروخ بادية للعين المجردة. أما عن غياب العربية والأمازيغية فقد أجاب الفنان نور الدين سعيدي بكونه وضع اللغة العربية دون الأمازيغية إلا أن مدير المهرجان نزعها. فسألته إن كان يقبل مثل هذا التصرف في عمل إبداعي له فأجاب بأنه أنجز الملصق تحت الطلب وبالتالي لصاحب البضاعة الحق التصرف فيها حسب ما يراه مناسبا له لأنها بضاعة وليست عملا فنيا. فلو تعلق الأمر بإحدى لوحاته التي ينجزها كفنان – يضيف نور الدين سعيدي -سيرفض طبعا المس بمحتواها بل حتى في شكل طبعها. حملنا بدورنا نفس الأسئلة والتساؤلات إلى مدير المهرجان عبد النور حوشيش ليقول بأنه لم يفعل ذلك بخلفية ما أو بسوء النية بل وجد الكتابة كثيرة في الملصق فأخفت عمق الصورة ودلالتها فاكتفى بالفرنسية لكنه أكد على صحة الملاحظة وضرورة أخذها بعين الاعتبار مستقبلا لأن منطق التاريخ يفرض ذلك. وفي نفس السياق سألت مدير المهرجان بأن اللغة الفرنسية كانت مُهيمنة حتى في كلمات الترحيب الأولى والكلمات الرسمية عند انطلاق فعاليات الملتقى فأكد على ضرورة إعادة النظر فيها لأن الجمعية صغيرة جدا وليست لها إمكانيات كبيرة لاستحضار وسائل الترجمة خاصة وأن الملتقى يحضره أجانب كثُر لا يتحدثون العربية أو الأمازيغية بينما جميع الجزائريين يتحدثون الفرنسية أو يفهمونها مما يسهل التواصل ولا يريد أن تتعدد الكلمات في الترجمة التي قد تضيع السهرة وتطول بسبب الترجمة للغات.
يعدنا مدير ملتقيات بجاية السيد عبد النور حوشيش بتجاوز أغلب النقائص في الدورة المقبلة التي ستكون استثنائية بمناسبة عشر سنوات على تأسيس الملتقيات. وهو سعيد بالنقد الذي يوجهه الأصدقاء للملتقيات ويتحمله ويرحب به وهو ما ساعد الملتقيات السابقة – يقول مديرها – في تطويرها وتجاوز النقط السلبية منذ تأسيسها سنة 2003 حيث عرفت نقلة نوعية في سنة 2005 وما تلتها من دورات.
كما يؤكد السيد عبد النور حوشيش، وهو إسم مشهور حاليا في الفضاء السينمائي الجزائري، بأن أهم ما يميز ملتقيات بجاية هو الإضافات الإنسانية الصادقة لأن العروض السينمائية تخلق علاقات جديدة بين الحضور خلال مناقشتها وطيلة أيام الملتقى وتمتد إلى مناطق أخرى من حوض المتوسط فضلا عن كونها تفتح أفاقا جديدة أمامها في ذات الحوض الأبيض. وأكد طبعا أن قوة الجمعية تكمن في نسيجها المدني الذي يجد عمقه في المدينة نفسها حيث الدعم المعنوي أساس نجاحها وهذا ما ذكرناه في نصنا السابق المذكور في موقع الجزيرة الوثائقية.

سلهب وسوريا والسينما

المخرج غسان سلهب

إن الرغبة في مشاهدة الأفلام على الشاشة الكبيرة واكتشافها ومناقشتها وفهمها من لدن الجمهور المحلي بمدينة بجاية هو الذي ساهم في إنجاح التظاهرة طيلة الأسبوع.
إذا كانت السينما هي نجمة الملتقى فقد رافقها في النجومية المخرج اللبناني غسان سلهب بأفلامه ومداخلاته ومشاركاته الفعالة بحيث كل مساهمة منه كانت بمثابة درس سينمائي للشباب نظرا لوعيه بفنون السينما وطريقته البيداغوجية في شرح أرائه وقدرته على إقناع المشاهد بدون تشنج أو عصبية، واستعداده للإجابة على كل الأسئلة مهما كانت بسيطة أو معقدة، ساذجة أو واعية. كان المخرج غسان سلهب هو ملح الملتقى وروحه وهذا ما كنت قد اكتشفته فيه لأول مرة حين تابعته في مهرجان السينما الوثائقية بمرسيليا قبل ثلاث سنوات حين شارك في مسابقته الرسمية، وهو مازال على وعيه متشبثا ودفاعه على الفن السابع عازما فخلق حوله حلقة من النقاش المثمر.
تساءلت الدورة التاسعة لملتقيات بجاية في الجزائر، بمناسبة انعقادها في الأسبوع الماضي، عن مصير السينما تحت عنوان “أين تسير السينما؟” وذلك في الندوة الرئيسية للتظاهرة شارك فيها جميع المدعوين الأجانب (أجانب عن الجزائر) والفنانين الجزائريين من المخرجين والمنتجين والممثلين والتقنيين والجمهور المحلي ليجيب معظمهم عن السؤال من وجهة نظره وحدود فهمه للسينما وتجربته فيها وبممارستها فتعددت الأجوبة بتعدد المداخلات، أصاب البعض وأخطأ البعض الآخر، ركزت أراء على التقنيات وتطورها التي دَمَقْرَطَتْ الفن السينمائي فيما رأى آخرون مشاكل عدة تسود أقطار الجنوب بغياب الإنتاج واحتراف التوزيع، وأعاد آخرون أسئلة كثيرة بصيغ مختلفة دون جواب لها. لكن الأهم والأساسي – في هذه الندوة – هو النقاش الذي دار في تلك الأمسية وهو الذي سيفعل فعله- بالتأكيد – في التفكير العام وخلخلة المسلمات الفنية.
كما كرم الملتقى السينما السورية المناضلة بعرض مجموعة من الأفلام للمخرجين المتميزين منهم أسامة محمد ومحمد ملص والراحل عمر أميرلاي حيث نشط هذه الفقرة السيد مارسيل سيغوني رئيس جمعية “أفلام” بمرسيليا التي تعنى بالسينما العربية. وقد ألقى السيد نور الدين حوشيش كلمة بالمناسبة في اليوم المخصص لهذه السينما بقوله بصريح العبارة أن هذه الفقرة تدخل في إطار دعم الحركة الاحتجاجية للشعب السوري والتضامن معه.
انتهت الدورة التاسعة وجمعية “بروجيكت هورت” كلها أمل في أن تنعقد دورتها العاشرة المقبلة في ثوب جديد وتدشين مرحلة جديدة في مسار الملتقيات التي تنظمها سنويا، وأن تتمتع بدعم أكثر لتوسيع دائرة برامجها وظروفها.


إعلان