“كولومبو” يوّدع الفنّ السابع

بورتريه عن الكوميدي الأمريكي “بيتر فولك”

مسار فنيّ زاخر بالأعمال السينمائيّة والمسرحيّة التي أضفت الكثير للسينما العالميّة..وانبثق منها الكثير أيضا، أعظمها صناعة جمهور مشاهدين يفوق عدده الملياري مشاهد؛ جمهور أحبّ وجها سينمائيّا صادقا تقمصّ أدوارًا عدّة إلا أنّ الجميع يذكر دوره الفريد والمميّز في المسلسل التلفزيوني “كولومبو”، إلى حدّ أنه تقلّد اللقب ذاته.
اختار أن يلج عالم الفنّ السابع من باب ضيّق بدور ثانويّ في إحدى المسرحيّات؛ ولم يكن ينوي الاستمرار في هذا المجال أبدا..إلا أنّه خفي عليه وجود لعنة الخشبة وعدسة الكاميرا.. تسكن المسرح والسينما..  فتمسك بروح الشخصيات المبدعة وتأبى أن تطلق سراحها، بعد أن ترتوي من حبّات عرقها، وأبجديّات الحروف التي تنساب من أصوات تلك الشخصيات..هو سرّ الفنون جميعها التي تتسمّ بالإمتداد من أب الفنون إلى الفنّ السابع..

“أب الفنون” نقطة البداية..تلتقي في مسارها بالفنّ السابع

ولد “بيتر فولك” ذات السادس عشر أيلول/ سبتمبر من العام 1927 بمدينة “نيويورك”؛ بدأ مسيرته الفنيّة في سنّ مبكرّة جدّا  قبل بلوغه السابعة عشرة إلا أنّه لم يكن ينوي الإستمرار في تلك التجربة نظرا لإقامته  بأحد أحياء مدينة “نيويورك” الشعبيّة المعروف بـ “برونكس”، أين يُكنّ الناس نظرة سلبيّة للفنّ وممارسيه، الأمر الذي دفعه للإنقطاع  فترة من الزمن، ليتفرّغ لمواصلة  دراسته الثانويّة، ولاحقا الجامعيّة إلى أن تحصل على شهادة في العلوم السياسيّة والإدارات العامّة من جامعة “سيراكوس” العام 1953.
وعند بلوغه سنّ التاسعة والعشرين، قرّر التخليّ عن عمله ليلتحق بالتلفزيون، أين أصبح ممثلا ابتداء من العام 1957 ؛ وهو تاريخ أوّل ظهور له أمام الكاميرا في سلسلة “روبرت مونتيغرومي” على قناة الـ “أن. بي. سي” الأمريكيّة، سبقه ظهوره في العديد من البرامج التلفزيونيّة بالقناة ذاتها من أبرزها: “استوديو واحد” و” تلفزيون مسرح كرافت “.
وهكذا استهلّ “بيتر فولك” أولى خطواته في عالم السينما، بإدارة “نيكولا راي” في السلسلة الدراميّة “الغابة المحظورة” سنة 1958، وسرعان ما تحصّل على أدوار تمثيليّة أكثر أهميّة في الدراما البوليسيّة نذكر منها:  “سرّ  الشراع البنفسجي” لـ / ويليام ويتني؛ وأدوار رئيسيّة أخرى من مثل:  “الجريمة”، “المجتمع المجهول”، و”الطفل المتطوّر” على التوالي في العام 1960؛ وفي العام المقبل أي 1961 تألق مع “ألفريد هيتشكوك” في مسلسل “البعد الرابع”، وفي السنة ذاتها  أبدع في العمل الفنيّ  الكوميدي لـ/ فرانكا كابرا بعنوان “ملياردير ليوم واحد”؛ ليتميّز في الأداء في أحد أروع الأفلام الهزليّة المعروف بـ “السباق العظيم” العام 1965.
وما لبث أن لبّى نداءات المسرح التي تصيح بداخله، ليؤدي دورا في إحدى أشهر مسرحيّات “جان جانييه” المعروفة بـ “الشرفة” سنة 1963.

كولومبو”..سماء بزغ فيها “بيتر فولك” نجما

“كولومبو” مسلسل تلفزيوني أمريكيّ انطلقت أولى حلقاته في العام 1968؛ بدءا من ذلك العام  ارتدى “بيتر فولك” ثوب الشهرة بدور البطولة في سلسلة “كولومبو” ذات التسعة والستين جزءا استمرّ في تمثيله على مدار سنوات طويلة، وكان عمره حينها أربعين عامًا.. جسّد “بيتر” دور البطولة الذي سرعان ما أطلق عليه معجبيه اسم “كولمبو” نسبة لمفتش التحقيق الذي تقمّص دوره،  وأصبح لقبه الذي يشتهر به حتى خارج الأوساط الفنيّة؛ وهكذا اقترنت الشخصيّة التلفزيونيّة بشخصيته الواقعيّة، وأضحت جزءا منه؛ إذ صرّح في مذكراته التي خطّها العام 2006 بعنوان “شيئ آخر” أن تلك الشخصية الممثلة في “كولومبو” تتطابق مع شخصيّته الحقيقيّة؛ ولأنّها كذلك واصل تجسيد الدور ذاته طيلة خمسة وثلاثين عامًا، بحيث مثّل في تسع وستين حلقة، و قام بإنتاج إحدى عشر منها  في الفترة الممتدة من 1989 إلى 1991، كما أعاد إنتاج ثلاث عشرة حلقة أخرى منذ 1991 وإلى غاية العام  2003؛ شخصية “كولومبو” ذات الملامح والطقوس الخاصّة بها، تتعدّى شخصية المفتش المحقق بأبعادها الكلاسيكيّة، ليُضفي عليها “فولك” لمساته: عينه المغمضة، معطفه المميّز، شارد الذهن، حادّ الذكاء، والذي تُداعب أنامله دوما سيجارة..ليتبّرع بعدها بذلك المعطف الفريد  لأحد المتاحف، يُذكر أنه كان يعدّه من الأشياء التي تعني له الكثير على الصعيد الشخصيّ والمهنيّ؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ الثياب التي مثلّ بها أولى أجزاء مسلسل “كولومبو” كانت ثياب خزانته الخاصّة.
 
يُذكر أنّ “بيتر فولك” كان من أكثر الممثلين شهرة في سبعينيّات القرن الماضي، وأعلاهم أجرا أيضا، بحيث كان يتقاضى ما قدره خمسة مائة ألف دولار على الحلقة الواحدة؛ من هواياته المفضلّة: ممارسة رياضة “الغولف”، والإبداع بريشة الألوان في فنّ الرسم.

من أهمّ أعماله: الفيلم الروائي الطويل الشهير بـ”الأزواج” والذي كان بمثابة عربون صداقة مع رفيق دربه ” جون كزافيت”، إلى جانب فيلم “إمرأة تحت التأثير” سنة 1974، و”المأزق الكبير” عام 1985، مواصلا تألقه هذه المرّة في دور الجدّ الراوي “الأميرة العروس” سنة 1987، و”أعداء الضحك” ” لـ / جوي ترافولتا، و”نكست” العام 2007..وغيرها من الأعمال السينمائيّة التي تميّز في أداء أدوارها؛ مما أهله لنيل العديد من الجوائز أشهرها:
جائزة “الإيمي الدوليّة”، وجائزة “غولدن غلوبز” عن دوره في مسلسل “كولومبو” التلفزيوني؛ كما رشح مرتين لجائزة الأوسكار.

الموت يُغيّب “بيتر فولك” الشهير بـ”كولومبو”

بزغ النجم ذات أيلول من العام 1927.. وأفل النجم في 23 حزيران / يونيو 2011..عن عمر يُناهز الثلاثة والثمانين عامًا،  ببيته الواقع في “بيفرلي هيز” ضواحي “لوس أنجلوس”، وذلك بعد إصابته بمرض عضال غيّب عن ذاكرته أشهر أدواره وأهمّها على الإطلاق “كولومبو”؛ إلا أنّه لم يُغيّبه من ذاكرة محبيه ومعجبيه في العالم أجمع..بل يبقى على مرّ الزمن قامة سينمائيّة عالميّة، اجتمع فيها ثالوث الموهبة، الشهرة، والصدق، فجادت بعطاءاتها مضفية مزيدا من الزخم والثراء في سجلّ السينما العالميّة.
 


إعلان