“الأنفال.. شظايا من الحياة والموت “..

توثيق للممارسات اللإنسانية ضد أكراد العراق
 

الأنفال هى السورة الثامنة من القرآن؛ والمقصود بها الغنائم من ممتلكات وأغنام مُنحت لنبي الإسلام “محمد” في حربه ضد غير المؤمنين والتي وجب تقسيمها بين أتباعه.
 في عام 1988 أصدر “صدام حسين” مرسوماً قضائياً يفوّض لابن عمه “على حسن المجيد” أن يخوض حرباً ضد الشعب الكردي
في كردستان العراق سُميت بحرب الأنفال.
 قُسمت حرب الأنفال التي خاضها
النظام البعثي العراقي ضد الشعب الكردي إلى ثمان عمليات عسكرية نُفذت الواحدة تلو الآخرى في أماكن متفرقة في كردستان العراق؛ قُتل خلالها 182 ألف كردي حيث صدت الأوامر بقتل أي إنسان أو حيوان، أكثر من 4000 قرية كردية تمّ دهسها وتحطيمها في كردستان، تمت سرقة ممتلكات الأكراد وقُسمت الغنائم بين رجال وأتباع النظام البعثي تماماً كما حدث في سورة الأنفال.  

حول تلك الجرائم البشعة ضد الإنسانية يدور الفيلم العراقي السويسري للمخرج السوري “مانو خليل” المعنون بـ”الأنفال.. شظايا من الحياة والموت” والحاصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة الأفلام الوثائقية في الدورة الرابعة لمهرجان الخليج السينمائي المنعقد في مدينة دبي من 14 إلى 20 أبريل الماضي.

جرائم ضد الإنسانية

يبدأ الفيلم من أحد أسواق العراق، بلقطات للناس البسطاء، بجمل قصيرة منها: “أتمنى أن دكتاتوريي العالم يلقوا مصيراً أسوأ من مصير صدام حسين”.. “نحن الآن أحرار ومستقلون، أحرار من كيماوي “علي” ومن “صدام حسين”، “كأننا في الجنة”، ثم بائع تبغ يقول: “الناس أيام صدام كانوا أسوأ من الآن لذلك كانوا يدخنون كثيراً.. لذا كانت أحوالي أحسن.. الآن هم أفضل فيدخنون أقل لذلك ساءت أعمالي.”

 من هنا يُمسك المخرج “مانو خليل” بطرف الخيط الرفيع ويبدأ في سحب الخيوط جميعها ليُعيد نسج قصة مأساوية في بشاعتها، فيُقدم نماذج متعددة من الرجال والنساء من مختلف الأعمال فقدوا ذويهم وأسرهم وأقاربهم على أيدي النظام العراقي.
 فهذا رجل مٌسن يقول: الأنفال كانت ضدنا لمدة 17 سنة، قتلوا أبنائي الست وكذلك بناتي وزوجتي، و253 من قريتي فقدوا، والفقد هنا ما هو إلا مرادف آخر للموت.
 ثم تنتقل الكاميرا إلى سيدة عجوز تقول: “سبعة من أبنائي قتلوا وفقدنا ممتلكاتنا، جئت إلى “كالارو” وعشت في الأكواخ مثل الدجاج.”  

يكشف الشريط الوثائقي بالأدلة والمستندات المُوثقة بالأختام والتوقيعات، باللقطات الفيلمية الأرشيفية وشهادات الأحياء ممن عاشوا المأساة أنه في عام 1988 تم القبض على العديد من السكان الأكراد فسجنوا ورحلوا إلى عدد آخر من السجون. هناك قُسموا مجموعات صغيرة حيث قتلوا الأطفال والرجال والنساء والشباب ولم يتركوا سوى العجائز والمرضى. تركوهم في الصحراء جنوب العراق ففرّ بعضهم إلى تركيا، وهناك عاشوا تحت ظروف مخزية ومخجلة.
أناس أبرياء اقتيدوا إلى الموت جوعاً وحرماناً، ومن بقي منهم على قيد الحياة لايزال يعيش في فقر وإهمال.

طوال لقطات ومشاهد الفيلم تتوالى حكايات الضحايا الذين فقدوا ذويهم وأفراد عائلاتهم. إحدى النساء تحكي كيف قدمت الرشوة للجنود ودخلت بين المساجين بحثاً عن أمها فوجدتها تعاني الجوع والحرمان والمرض، عظامها بارزة، حافية القدمين فتركت لها حذائها وخرجت هى من السجن حافية القدمين. لكن هذا النظام المستبد الفاشي لم تأخذه شفقة بالأم البالغة من العمر ثمانين عاماً وقتلها دون رحمة، ثلاثة من إخوتها بأبنائهم وزوجاتهم اختفوا أيضاً.. قتلهم “صدام حسين” جميعاً؛ وحتى الآن لا تعرف أين تمّ دفنهم؛ بعض الناس وجدوا أحباءهم في المقابر الجماعية، البعض الآخر لايزال يحيا المأساة مرتين. مأساة الفقد ومأساة  جهل أين ترقد الجثامين.

أكذوبة العفو العام

 تحكي امرأة أخرى عن تجربتها مع أكذوبة العفو العام الذي أصدره “صدام حسين”؛ تقول لم نثق به..27 من أسرتنا هربوا، بعضهم فرّ إلى إيران والبعض الآخر إلى تركيا؛ لكن القوات العسكرية العراقية دمرت الجسر الذي كان وسيلتنا في الهرب، في حين يستعيد رجل خمسيني تجربته في الهروب: “كانت الحدود مغلقة ففرّ مع آخرين إلى الجبال حتى جاء أحد أفراد أسرته وأبلغه أن صدام أصدر عفوا عامّا ولأنه يثق في القرآن فسلم نفسه مع الآخرين لكن الجنود قبضوا عليهم وحبسوهم في بستان للفاكهة، وهناك أخذوا كل أموالهم ومجوهراتهم وحتى خواتم الزواج والخطوبة وعندئذ أخبروا النساء والأطفال أن يذهبوا إلى الجانب الآخر ثم بدأوا في إطلاق النيران عليهم بجنون واحداً تلو الآخر.. هذا الرجل ورفيقه تم إنقاذهما لأن الرصاصات لم تكن قاتلة فتظاهرا بالموت ونجى كل منهما بأعجوبة لا يصدقها حتى اليوم.   

يستعيد أبطال الفيلم تجربتهم المروعة مع الكيماوي الذي قذفهم به “صدام” وأتباعه، كيف أصاب الناس الفزع وهروبوا متدافعين في الطرقات الضيقة. يتذكر أحدهم صورتين لامرأتين، صورتين مشبعتين بالألم والدلالة الرمزية الموجعة التي تُؤكد نبرات صوته أنه لن يستطيع أبداً نسيانهما مدى حياته؛ الأولى صورة امرأة تحمل ابنها وتبحث عن بعض المياه حتى لا يموت وهو يقول لها اتركيني أموت، وعندما تجد الماء وليس معها وعاء فتُعبيء به الحذاء لتروي ظمأ فلذة كبدها، الصورة الأخرى لامرأة قابلها في الطريق الضيق: امرأة راقدة ومن فوقها معطف يُغطي جسدها، والناس تمرّ عليها مسرعة بالفرار بينما لاتزال المرأة راقدة، يعود الشاب ليسألها ما الأمر؟ فتُخبره أن الطلق فاجأها وأنها تضع مولودها. لقطتين لامرأتين إحداهما تفقد طفلها والثانية تضع مولودها الجديد.

ثم ينتقل بنا المخرج إلى امرأة جالسة بجوار ابنها المتخلف عقلياً بسبب كيماوي “صدام حسين”، ذلك الشاب الذي يتصرف مثل حيوان لا يعقل، وينطق بكلام غير مفهوم ولا يُوجد علاجا لدائه، فتضحك الأم متألمة: “يا لله هذه إرادتك.. هذا ما فعله بنا صدام.. إنه شيطان وليس إنسان.”

على صعيد آخر تظل واحدة من أسوأ الممارسات المرعبة للنظام العراقي في حرب الأنفال – والتي أكد عليها عدد من أبطال الفيلم – هى تعاون حزب البعث العراقي مع السفارة المصرية في العراق حيث قام بترحيل عدد كبير من النساء الأكراد وبناتهم إلى الملاهي الليلة والمواخير رغبة منه في أن يسحق ويصم ويلوث فخر الإنسان الكردي بنسائه ليذلهم وأخيراً ليدمر روح المجتمع الكردي.

من أجمل مشاهد الفيلم لبلاغة لغته السينمائية رغم بشاعة موضوعه تلك اللقطات التي يتذكر فيها أحد الشباب تفاصيل تعذيبه في السجن، ويستعيد الأصوات المُرعبة المتبقية معه من هذا المكان القاسي الموحش المرعب.. صوت الطرق بالعصى على عمدان الزانزين الحديدية وصوت الباب يُغلق عليه.

الحياة في خوف دائم

المخرج “مانو خليل”

“مانو خليل” بإنسانية وإحساس مرهف، بمهارة صانع الدانتيل، يلتقط مادته الخام وحكايات أبطاله فيغزلها في خيط حريري رقيق ومتين، بكاميرته التي أدارها هو بنفسه ظل يلتقط أدق همساتهم، وتعبيرات وجوههم، نظرات الأعين، وتوترات الأصابع، وارتعاشات الشفاه والأوردة، ونبرات الصوت الحزين، ولحظات الصراخ والشكوى وبعض لحظات الفرح والغناء.

من ذلك الخيط الحريري المشدود نسج “مانو” قصة أكراد العراق المأسوية، منذ بذرة تكوينها وصولاً إلى ذلك المبنى المليء بالحمام الذي كان مقسما لإدارات عدة تختص بالتعذيب وإهانة المواطنين، تلك البناية المكتظة بالحمام لكنها لم تكن سوى سجنا في منتصف المدينة حتى يعيش الناس في خوف دائم، لكن عراقييو اليوم حوَّلوا ذلك السجن إلى متحف وأهدوه للمتمردين الأكراد وإلى كل ضحاياهم.

 

 


إعلان