عودة “عمر الرداد” إلى الشاشة

يعود “عمر الرداد” إلى الشاشة، عن طواعية هذه المرة، ليشغل وسائل الإعلام من جديد بمناسبة ظهور فيلم حول قضيته بعنوان “عمر قتلني… “!. فقد تم الاحتفاء به رسميا، في عرض خاص جدا بالمسرح الوطني محمد الخامس، وسط العاصمة المغربية الرباط، تحت إشراف الأميرة “اللا مريم” ( شقيقة العاهل المغربي).
 ولهذه الرعاية الرسمية رسالة ذات مضامين سياسية واضحة تُجاه “القضية” التي كانت شغلت الرأي العام المغربي من جهة ومن جهة أخرى تُجاه فنان من أصل مغربي شغل عليها سينمائيا. حصل الفيلم على دعم مادي ومعنوي من جهات مغربية عدة بعضها تم الإشارة إليها في الجنيريك كالمركز السينمائي المغربي والقناتين التلفزيونيتين العموميتين وأخرى عبْر تحيات خاصة يتم الإشارة إليها في الحوارات والكلمات التي تُلقى في العروض الأولى كما هو الشأن في العرض الذي تم الاحتفاء به في المغرب.  
وكان الفيلم قد عُرض في عرض مغلق قبل أسبوعين، بجنوب فرنسا كتحية للمنطقة التي صُورت فيه معظم مشاهده، خاصة بمدينتي “تولون” و”مونبوليي” الفرنسيتين.
ومن المقرر أن يُعرض الفيلم في القاعات السينمائية الفرنسية ابتداء من 22 يونيو الجاري حيث بدأت الحملة الإعلامية الترويجية له في المنابر الفرنسية المختلفة المتخصصة في السينما بينما يبدأ عرضه في المغرب مع فاتح تموز/ يوليو القادم.

• عناصر القضية

قبل الحديث عن الفيلم في ذاته نفضل أولا أن نضع القارئ في صورة مقتضبة لقضية “عمر الرداد” حتى يعلم بخلفياتها التاريخية.
تم العثور في شهر يونيو العام 1991 على السيدة “غزلان مارْشال”، وهي إمرأة مسنة أرملة وغنية تقطن وحدها، مقتولة في قبو منزلها غارقة في دمائها والباب مسدودا عليها من الداخل حيث كتبت فوقه بدمائها “عمر قتلني… !”.
 اعتمادا على وجود هذا الإسم كان كاف لاتهام البستاني المهاجر المغربي الذي يحمل إسم “عمر” فتم اعتقاله وتوجيه التهمة له.
 ولم يكن البوليس الفرنسي يرغب في شيء ما سوى اعتراف رسمي من لدن “عمر الرداد” بينما هذا الأخير ينفي جملة وتفصيلا التهمة ويؤكد باستحالة قيامه بالجريمة التي أودت بحياة السيدة غزلان مارْشال حيث قدم أدلة لم يقتنع بها البوليس ولا القضاء.

احتلت حينها قضيته الصفحات الأولى للجرائد ونشرات الأخبار في التلفزيونات والإذاعات؛ كما شغلت أيضا دور النشر لتصدر كتبا بين من يعتبره مجرما ومن يعتقد ببراءته بل هناك من وصف محاكمته بالعنصرية وهو ما أشار إليه أيضا محاميه “جاك فيرجيس” بصريح العبارة في أحد الاستجوابات، ومن بين الكتب المهمة التي تناولت القضية نذكر على سبيل المثال لا الحصر: “عمر قتلني: قصة جريمة” للمحامي/ جاك فيرجيس الذي تابع القضية منذ البداية قبل أن يتخلى عنه “عمر الرداد”، وكتاب: “عمر الرداد – تحقيق مضاد لإعادة النظر في محاكمة مزورة” للكاتبين “كريستوف دولوار” و”روجي مارك مورو”.
وبعد المحاكمات الماراطونية، التي تابعها الرأي العام الفرنسي عن كثب، تم في النهاية الحكم على عمر بـ 18 سنة نافذة تؤكد التهمة رغم الاستناف والأدلة التي تبرز الشك فيها؛ وفي شهر مايو من سنة 1996 أُصدر في حقه عفوا من لدن الرئيس الفرنسي آنذاك “جاك شيراك” بتخفيض الحكم إلى 4 سنوات ليُطلق سرحا مقيدا في 4 أيلول/ سبتمبر 1998 مع إثبات حسن السيرة بالعمل والانضباط.
 والمثير أن المحكمة هي التي ينبغي أن تقبل بالعمل الذي سيمارسه وبالتالي رفضت مرارا أن يشتغل في العمل الذي يتقنه ويرتاح فيه كبستاني بل رفضت المحكمة حتى العمل عند أحد المحامين كشاوش والذي اعتبرته مجرد تعاطف معه، ليعمل في نهاية المطاف خادما في مجزرة تحت الحراسة المستمرة.
لم تكن “قضية عمر الرداد” تدور أطوارها في الخريطة الفرنسية وحدها بل في كثير من الأقطار الأوروبية نظرا لما كانت تعاني منه مختلف الجاليات المهاجرة وصعود موجة العنصرية تجاهها. وطبعا انتقلت القضية إلى المغرب بحكم أن “عمر” مواطن مغربي فتابع المغاربة تفاصيلها وتدخلت لصالحه أطراف رسمية مغربية من مستويات عليا فأصبحت قضيته قضية وطنية ساهم كل طرف بما لديه من تعبير للإفراج عليه وإثبات براءته.
كانت هذه نبذة مختصرة لفحوى قضية “عمر الرداد” البستاني المغربي الذي كان قد أصبح أشهر شخصية في عقد التسعينات من القرن الماضي بسبب حكم جائر نتيجة غياب بحث قضائي معمق لأن “المتهم” مهاجر مغاربي.
 ولا بد من الإشارة أن “عمر” إلتحق بوالده في فرنسا أين كان يعمل بستانيا هوالآخر منذ ستينات من القرن الماضي، ولم يكن عمر يعرف القراءة والكتابة بالعربية فبالأحرى بالفرنسية إذ لم تطأ قدميه باب المدرسة على الإطلاق وهو ما احتاج لمترجم خلال محاكمته.
 فهل كان  لهذه الاعتبارات الطبقية “فريسة سهلة” في يد البوليس الفرنسي لإخفاء جريمة أخرى؟؟؟

فيلم القضية

 هذه العناصر والمعطيات السالفة الذكر هي التي اعتمدها بحذافيرها فيلم “عمر قتلني… !” بعرضها على  الشاشة والتي قام المخرج “رشدي زُم” على اقتباسها بأمانة من الكتاب الذي نشره “عمر الرداد” نفسه سنة 2002 بالفرنسية يحمل عنوان “لماذا أنا؟” (صدر ضمن منشورات دار النشر الفرنسية الشهيرة “سُويْ”) يؤكد فيه “عمر” على براءته وأنه ليس القاتل ولا يستطيع ذلك مع عرض ما تعرض له طيلة سنوات التحقيق والسجن.
 وكان المخرج قد اشترى سنة 2007 حقوق اقتباسه للسينما ليبدأ تصويره في السنة الماضية (2010).

“رشدي زُم” هو ممثل ومخرج وُلد بفرنسا من أبوين مغربيين والذي نجح في أقل من 20 سنة أن يكون أحد نجوم السينما الفرنسية داخليا وخارجيا حيث اشتغل مع أهم المخرجين بأدائه للشخصية العربية كانت ومازالت مطلوبة في السينما؛ دخل إلى عالم الإخراج لأول مرة سنة 2006 بفيلم “نية سيئة”، ليكون فيلم “عمر قتلني… !” ثاني عمل له والأقرب إليه.
شكل رفقة مجموعة من الممثلين والممثلات والمخرجين المغاربيين (المغرب والجزائر وتونس) المقيمين في فرنسا أو الذين ولدوا هناك والذين تجمعهم الأصول والسحنة والمهنة وغيرها حيث أُقيم في ما بينهم شبه إتفاق للتعاون والتآزر والعمل المشترك، نذكر منهم “رشيد بوشارب” و”كريم دريدي” و”عبد اللطيف كشيش” و”إسماعيل الفاروخي” و”حسن لغزولي” و”سامي بوعجيلة” و”سامي ناصري” و”جمال دبوز” و”سناء العلوي” وطبعا “رشدي زُم” وآخرين كُثُر.
وعليه، فإن كثير من تلك الأسماء وغيرها ساهمت في فيلم “عمر قتلني.. !” وعلى رأسهم “رشيد بوشارب” الذي هو المنتج الأساسي للفيلم.
لم يعتمد المخرج “رشدي زُم” في عنوان فيلمه على عنوان الكتاب المُشار إليه أعلاه لـ”عمر الرداد” بل على الجملة الشهيرة التي كانت “وثيقة” اتهام الوحيدة ومحور المحاكمة وهي “عمر قتلني… !” المكتوبة باللغة الفرنسية والتي كُتبت خطأ في النحو الفرنسي “omar m’a tuer ” وقد تناقلتها وسائل الإعلام.
إن ما أثارته الجملة هو أنه ليس من الممكن أن تكون الضحية السيدة “غزلان مارْشال” الفرنسية هي التي كتبتها لأنه ليس من المقبول أن ترتكب مثل هذا الخطأ الفادح من جهة ومن جهة أخرى فإن الوضع الذي كانت عليه تبين أنها تعرضت لاعتداء شنيع لن يترك لها قوة ما حتى تكتب جملة بالكامل؛ كما أن الدفاع على “المتهم” يقدم تبريرا منطقيا وهو باستحالة أن يكتب من ارتكب الجريمة اسمه في مكان الواقعة بهذه السذاجة المفرطة، فقد حاول القضاء الفرنسي تبرير ذلك بكون “عمر” لا يتقن الفرنسية ولا يتحدث بها إلا بصعوبة كبيرة جدا لذا من المحتمل أن يرتكب الخطأ.
فالعنوان كان قد أصبح أشهر من نار على علم وإحالة واضحة لقضية “عمر الرداد” إلا أنه فَقَدَ دراميته في اللغة العربية والحفاظ به، بالفرنسية، يثير العين والفضول من ناحية التسويق –marketing-  ويذكر بالحدث.
علما أن الفيلم لم يأت بجديد، سواء في الأدلة أو المعطيات، بقدر ما حمل ما هو معروف إلى الشاشة بشكل خطي/ مُتسلسل دون اجتهاد فني أيضا في الإخراج لنجد أنفسنا – أثناء مشاهدته – أمام فيلم تلفزيوني يشبه الروبورتاج حول القضية التي شاهدنا أفضل منه من روبورتاجات تلفزيونية فأثارت لدينا حينا عطفا مع “عمر”، فيلم سلس لا يتطلب التعمق فيه أكثر مما يظهر على الشاشة.
لكن تفوق الفيلم، الذي يستغرق ساعة ونصف من الزمن، في اختيار الممثلين بحيث كان الممثل “سامي بوعجيلة” (ذو أصل تونسي) في مستوى التشخيص، حاملا ملامح “عمر” في الشكل حين كان شابا ومقنعا في إحساسه بالظلم ومتشبعا بمعاناته التي توغل فيها إلى حد التماهي.
 والأمر ذاته بالنسبة للممثل “موريس بينيشو” في دور المحامي/ جاك فيرجيس.
 وكذا الممثل “دونيس بوداليد”، وهم الشخصيات الرئيسية التي ينبني عليها الفيلم،وحتى الشخصيات الأخرى المُدعمة أو الثانوية كانت جيدة في أدائها.

ملصق فيلم “عمر قتلني”

ثلاثة خطوط يسير عليها الفيلم: إثنان متوازيان، يلتقيان أحيانا ثم يفترقان ليلتقيا من جديد ثم يتقاطعان فيتداخلان في بعضها ضمن تناقضات القضية نفسها ويتعلق الأمر بالمتهم نفسه “عمر” في مواجهة التحقيق البوليسي ثم عالم السجن كخط أول في علاقة بالمحامي جاك فيرجيس وأطوار المحكمة والإعلام كخط ثان.
 أما الخط الثالث فهو يسير على هامشهما باحثا عن الحقيقة بنفسه بعيدا على الخطين الأولين وهو الذي يجره الكاتب الذي يبحث في القضية مبرزا للمشاهد – أو القارئ الذي سيطلع على الكتاب بعد صدوره – بتأكيده على براءة “عمر” وأن التحقيق البوليسي يتعمد إتلاف الحقائق الحقيقية للتستر على “مجرم ما له علاقة وطيدة بالضحية”، ويشكل الكاتب في الفيلم الضمير الفرنسي الإنساني المثقف والواعي الذي لا يتقبل بسهولة الأطروحة الرسمية، لكنه – أي الكاتب – كان على هامش “القضية” ولم يفعل فيها إلا من بعيد جدا.
خرج “عمر” من السجن واستعاد حياته العادية أو جزءا منها لكنه هو لم يخرج من “قضيته” كما قال، لأنه يريد البراءة المطلقة التي  تؤكد رسميا بأنه غير مجرم وأن “حريته” لم يستعدها بفضل تدخلات من داخل فرنسا أو من المغرب وإنما لكونه لم يقترف جريمة في حق سيدة كان يعتبرها – كما قال مرارا لأبيه وللمحامين وللقضاة – بأنها بمثابة أمه في فرنسا نظرا للمساعدات الكثيرة التي قدمتها له خلال عمله معها.
فقد أكد “عمر” في نهاية الفيلم عزمه على الاستمرار في البحث عن الحقيقة لإثبات براءته، وبما أن الفيلم قد بدأ به كمعتقل/متهم، واختتم به أيضا في النهاية يقول ما ذكرته قبل قليل على لسان الممثل “سامي بوعجيلة” بينما ظهر “عمر الحقيقي” في آخر لقطة كبيرة لوجهه في الفيلم ينظر إلى المشاهدين (في آخر صورة له في سنه الحالي) دون أن ينبس بكلمة إذ بقي صامتا وكأنه ينتظر رد فعل من الجمهور الذي يتابع قضيته ولم يكن هذا الرد سوى التصفيق. فهل صفق الجمهور عن صموده وتحديه؟ أم عن ظهوره الشخصي؟ أم احتراما له؟ أو للحرية التي يعيشها بعد أن كان مقررا أن يبقى في السجن لمدة 18 سنة؟ فهل خرج من السجن حقا؟ هل سيحصل على البراءة المطلقة ويتمكن من إثبات عدم توّرطه بالقتل؟ وهل سيتم إعادة الاعتبار له؟
لم يخرج “عمر الرداد” من “قضيته” بعد وهو ما شكله الفيلم رمزيا من تشكيل الدائرة المغلقة التي بقي فيها “عمر” محاصرا من خلال البدء به في اللقطة الأولى وانتهاء به أيضا.

 جديد القضية

فآخر الأخبار تقول بأن النيابة العامة الفرنسية قد طلبت في الشهر الماضي، وتحديدا يوم 9 مايو 2011، من الخبراء في الطب الفرنسي بإجراء تحليل جديد لدم تم العثور عليه سنة 1991. وهذا بعد أن تم تصوير الفيلم وحصوله على رخصة التوزيع.
 فهل سيفتح الفيلم “قضية عمر الرداد” من جديد؟ مثل ما حصل مع فيلم “الأهالي” لـ “رشيد بوشارب” عن الجنود المغاربيين الذين ساهموا في الحروب التي خاضتها فرنسا لتحصل على استقلالها من النازية ثم رمتهم وتخلت عنهم؟


إعلان