دوفو وميشيل أمارجيه يكشفان عن سينماتٍ مختصرة

(Cinémas de traverse) عنوان الفيلم التسجيليّ الأحدث للثنائيّ الفرنسيّ ”

فريدريك دوفو وميشيل أمارجيه

” (تمّ إنجازه خلال الفترة 2007- 2009) يمكن أن يحظى على أكثر من ترجمةٍ مُحتملة، وكلها تُحيل إلى السينما التجريبية (موضوع الفيلم)، واتساعها على أشكالٍ جانبية، ومُوازية للسينما السائدة.
(سينماتٌ مُختصرة) إذاً واحدٌ من الأفلام التسجيلية النادرة التي تقدم، تشرح، وتُفسّر جوانب من السينما التجريبية عن طريق بعض مُبدعيها، وهو ثمرة سلسلة أفلام أقدما على إنجازها في بداية الألفية الثالثة، ومنحاها عنواناً مُركباً (Cinexperimentaux)، ويعني (سينمات تجريبية) كلّ واحدٍ منها يقدم التجربة الإبداعية لسينمائيٍّ تجريبيّ، وقد أنجزا منها حتى اليوم ثماني بورتريهات :
بيب شودروف، روز لاودر ، مارسيل هانون، ستيفان مارتي، مارتين روسيه، نيكولا ري، فيفيان أوستروفسكي، وتعاونية لايت كون (LIGHT CONE).
وتهدف جميعها إلى تقريب السينما التجريبية من الجمهور العاديّ الذي لا يعرفها، إلا قليلاً، ومن المُحتمل بأن تمنحه الرغبة في التعرّف عليها أكثر، أو الغوص في تفاصيلها، وأعتقد بأنّ الوسط السينمائي العربي (قبل الجمهور) بحاجةٍ إلى مشاهدتها كي يُصحح مفاهيم مُشوّشة عنها.
(Cinémas de traverse) ـ الفيلم الأطول في مسيرتهما السينمائية (166 دقيقة) ـ يجمع بورتريهاتٍ متقاطعة، ومتشابكة، ويتكوّن من أربع حركاتٍ، رُبما لأنه يُسلط الأضواء على سينمائييّن تجريبيين من أربع قاراتٍ، أو انطلاقاً من صبغةٍ موسيقيّة تطبع الكثير من الأفلام التجريبية، وخاصةً الأعمال الأولى لـ”فريدريك دوفو” المُتأثرة إلى حدٍ بعيدٍ بالحركة الحروفية في الفنّ التشكيلي (Le lettrisme)، وكانت تستخدم بقايا أشرطة مُهملة، وتحوّلها إلى أفلامٍ تجريدية على قدرٍ عالٍ من الجمال البصريّ.
يتخيّر (سينمات مختصرة) مساراً ذاتياً طوعياً في عوالم السينما التجريبية، يتوافق مع جوهرها البعيد تماماً عن الحياد، أو الموضوعية، وهو قدر السينما بشكلٍ عام، وأيّ حديثٍ عن حيادها، وموضوعيتها (حتى في الأفلام التسجيلية) يكشف عن قصورٍ معرفيّ في فهم طبيعة الصورة السينمائية نفسها.
وعلى الرغم من كراهية السينما التجريبية للسردّ، يكشف الفيلم عن ملامح بناءٍ سرديّ يرتكز على يوميات رحلة سينمائية، يجعل “فريدريك دوفو” ـ بالتحديد ـ حاضرةً بدون أن نشاهدها في الصورة، تربط ملاحظاتها المكتوبة على الشاشة باللقاءات المُتباعدة، وهي، باعتقادي، لا تطمح، ولا تدّعي “الاكتشاف”، لأنها، وهي الخبيرة، تعرف مُسبقاً، وعن ظهر قلبٍ، كلّ هؤلاء السينمائيين الذين “يكشفون” بأنفسهم، ورُبما للمرة الأولى، عن وجهات نظرهم، طريقة عملهم، وآليات إنجاز أفلامهم.  
وكما يوحي الفيلم بأنه “مذكرات فيلميّة” عن سينمائيين مختلفين، يمكن اعتباره أيضاً “فيلم طريق” بالمعنى الجغرافيّ، والذهنيّ، بدون بداية، أو نهاية، ولا يؤدي إلى وجهةٍ محددة، ولكنه يسلك طرقاً، ودروباً متفرعة، ومتعرجة، وحتى دائرية.
أما لماذا اختار الثنائيّ (دوفو ـ أمارجيه) هؤلاء السينمائييّن دون غيرهم، فهما وحدهما الأقدر على الإجابة، رُبما تتقاطع ممارسات الأمريكيّ “جوناس ميكاس”، مع الفرنسيّ “جوزيف موردر”، والبلجيكيّ “بوريس ليهمان” في كتابة مذكراتهم الفيلمية، بينما تتباين اهتمامات الآخرين فيما بينها، ولكنهم، يشتركون جميعاً في اختلافهم عن السينما السائدة، وعنادهم في إنجاز أفلام شخصية جداً، وتمرّسهم في بحثٍ متواصل عن أشكالٍ مغايرة تستوحيها السينما السائدة، تستعيرها، وتستفيد منها، وهي المفارقة التي تُفسّر خصوبتها الدائمة، والمُتجددة. 
(سينمات مختصرة) يقدم بطريقةٍ حرّة، ومتحررة بعض تنويعات السينما التجريبية عن طريق لقاءاتٍ مع سينمائيين معروفين مثل الأمريكي “جوناس ميكاس”، النمساوي “بيتر كوبيلكا”، البلجيكي “بوريس ليهمان”، الجزائري “أحمد زير”، الفرنسي “جوزيف موردر”، النمساوي “بيتر تشيركاسكي”، والبريطاني “غي شيروين”، وآخرين أقلّ شهرةً، ولكنهم، ليسوا أقلّ إبداعاً، سينمائيين اختاروا وحدتهم، وعزلتهم الإبداعية كحال أعضاء (مجموعة Š).
في نهاية الرحلة، تتكوّن في ذهن المتفرج لوحةً تُحفزه ـ رُبما ـ على اكتشاف سينمات رديفة (Cinémas de traverse) ملامحها، وأشكالها لا تُعرقلها الحدود.
تظهر اللقطات الأولى لقاءاتٍ عشوائية مع أشخاصٍ يترددون في تعريف السينما التجريبية، بدون أن يقع الفيلم في فخّ سهولة التقرير التلفزيونيّ، ويقدم كلّ واحدٍ منهم إجابةً تقترب، أو تبتعد عن المعنى الحقيقي، وهو أمرٌ يزيد من صعوبة ترويض هذا النوع من السينما.
وهي فرصة للإشارة بأنّ السينما التجريبية تتخلى طوعاً عن مفرداتها الجمالية السابقة بهدف اكتشاف أخرى أقلّ، أو أكثر جماليةً، أو قبحاً، يمكن أن تتوافق، أو تتعارض مع حركاتنا، طريقة أحاديثنا، ترددنا، تلعثمنا، وحتى اضطرابنا الروحي، الذهني، والفكري، أفلامٌ لا تهتمّ بصورةٍ متوازنة تشكيلياً، ولا تأبه بإيقاعٍ مونتاجيّ مريح، أو مزعج، ولا يعنيها توافق الألوان مع الجوّ العام، أو الخاصّ، هي باختصار، قريبة الشبه من أحلامنا.

جوزيف موردر

في الفيلم، يلخص الفرنسيّ “جوزيف موردر” جانباً من معنى السينما التجريبية عندما نشاهده يصور بتلفونٍ محمول، ويكتشف لأول مرة إمكانياته الجمالية الجديدة، ويعترف بتواضع بأنّ الأرشفة هي الهدف الرئيسيّ من “يومياته الفيلمية”، هكذا، بدون إدعاءاتٍ جمالية، وأسلوبية، إنه “يؤفلم” منذ أربعين عاماً حياته الخاصة، المحيطين حوله، التظاهرات الاجتماعية، عطلات أعياد الميلاد، والمظاهرات،.. ببساطة، يُسجل، ويحفظ الذكريات.
ولكنه، كما غيره من السينمائيين التجريبيين، يتحفظ على وصفه بسينمائيّ تجريبيّ، لأنّ فكرة التجريب، بالنسبة له، تناسب أكثر التجارب في المُختبرات، وهو لا يفعل هذا، إنه يصور فقط، وحتى لا يعتبر نفسه طليعياً، ولكن، في الصفوف الخلفية (L’Arrière-garde)، وبدوره، يعترف البلجيكيّ “بوريس ليهمان” بأنه لا يصنع أفلاماً، بل “منتجاتٍ ثقافية، فنية”.
في معظم الأحيان، يلجأ السينمائيون التجريبيون إلى طرقٍ “حِرَفية” في إنجاز أفلامهم، ورُبما حان الوقت، أو سوف يحين في قراءة قادمة، للحديث بإسهابٍ عن السينما الواسعة/المُتسّعة/الشاملة (Cinéma élargi)، سينما في الزمن الحاضر، وفيها يمتلك المتفرج أهميةً مماثلة للمخرج.
في الفيلم، يؤكد الجزائريّ “أحمد زير” بأنّ ممارساته الفيلمية تعتمد على أهمّ الجوانب المميزة للسينما التجريبية : الاقتصاد، والتكثيف، تلك التي تحدث عنها الباحث الفرنسي “دومنيك نوغيز” في كتابه العظيم “احتفاء بالسينما التجريبية”.
في (سينمات مختصرة)، يكفي بأن نشاهد أحد السينمائيين يُلوّن أوراق تنشيفٍ، ويصورها صورةً، صورة، وآخرٌ يصور بدون عدسة كاميرا، وثالثٌ يلتقط صوراً وُفق أرقامٍ، وحسابات،.. كي يزداد فضولنا للتعرّف أكثر على السينما التجريبية .

هامش :

العنوان”Cinémas de traverse” مُستوحى من التعبير الفرنسي “chemins de traverse”، ويعني “دروبٌ مُختصرة)، ويشير إلى أماكن غير مستخدمة عادة، لأنها بعيدة عن الطرق، واستطراداً، يثير هذا الأمر سبلاً مختلفة، ويبدو لنا بأنه يتوافق مع روح السينما التجريبية التي تسلك طرقاً أخرى في التعبير مختلفة عن  الأشكال التقليدية، أتمنى بأن يضيء لك هذا التوضيح معنى العنوان، ويساعدك على ترجمته بشكل دقيق. (فريدريك دوفو ـ ميشيل أمارجيه)


إعلان