بجاية” تشعل “شمعتها” التاسعة
“يطلق الجزائريون على مدينة “بجاية” وصف اللؤلؤة؛ الواقعة شرقي الجزائر، والتي تطل على شاطئ المتوسط شمالا كما تلفها من كل جانب، غابة كثيفة وجميلة ومريحة وغنية؛ وكلمة “بجاية” هو تحوير لـ “بوجي” بمعنى Bougie (الشمعة باللغة الفرنسية). فقد عُرفت المدينة تاريخيّا بإنتاجها للشمع وتصدير مادته المستخلصة من شمع النحل.
مرت عبر هذه المدينة أُمَمًا كثيرة كالفينيقيين، والرومان، والوندال، والإسبان، والفرنسيين لكن كانت ومازالت مدينة أمازيغية بالروح والدم والحضارة والهوية. سيلتقي مجموعة من شباب المدينة قبل عقد في جمعية أطلقوا عليها إسم “بروجكت هورت” تهتم بالسينما حيث بدأوا بعرض أفلام بمناسبات مختلفة على شكل ناد سينمائي خاصة وأن المدينة فقدت فضاءاتها الثقافية منها القاعات السينمائية وهي التي كانت تحوي واحدة من أجمل الخزانات السينمائية بالجزائر التي تم ترميمها مؤخرا في انتظار تفعيلها من جديد.
رفض الخمول الثقافي

لم يقبل شباب مدينة بجاية الخمول الثقافي والفني الذي مس مدينتهم فعزموا على تنظيم لقاءات حول المسرح ثم السينما ومنهم من يكتب الشعر والقصة أو يمارس الفن التشكيلي.
دفعتهم هوايتهم للالتفاف حول بعضهم في إطار الجمعية المذكورة أعلاه لتكثيف مجهوداتهم وتعاونهم حيث طوروا اشتغالهم فخرجوا من الهواية نحو الاحتراف معلنين تأسيس ملتقى سينمائي سنوي يهتم أساسا بالفيلم القصير الذي لم يكن له جمهورا حينها ثم تطور برنامجهم بإدراج أفلام طويلة في ملتقاهم هذا، والتي يتمّ استقدامها من مختلف الأجناس السينمائية: روائية كانت أووثائقية، قصيرة أو متوسطة أوطويلة.
وأعلنوا منذ البداية، في أول خطوة لهم، أن هدفهم الأساسي هو نشر الثقافة السينمائية والرقي بها من خلال التعريف بأفلام يجهلها الجمهور المحلي أو التي لا تُوزع في الجزائر.
لهذا فإن تظاهرتهم لا تتضمن مسابقة بين الأفلام المعروضة ولا تُسلم الجوائز مؤكدين على ضرورة أن تكون التظاهرة ملتقى وليس مهرجان للبهرجة.
وعليه، فإن السينما هي سيدة الملتقى بفضل أعمال السينمائيين والنقاد والصحفيين والجمهور طبعا التواق لهذا الموعد السنوي.
تتشكل الجمعية من شباب متطوع يشتغل بلا مقابل من أجل إضاءة “شمعة” عوض أن يلعنوا الظلام (كما تقول الحكمة الصينية) خاصة وأن مدينتهم منبع الشمع المضيء، بل يوظفون إمكانياتهم الخاصة وممتلكاتهم من السيارات والمنازل وغيرهما مما يملكون في خدمة الملتقى.
يتحولون إلى خلية نحل في انسجام تام وبتنظيم محكم وهو ما يجعل كثير من الضيوف يعودون إلى الملتقى بدون تردد؛ أنا واحد منهم.
تطور الملتقى في عروضه بعد النجاحات التي عرفها في دوراته الأولى بفضل إقبال الجمهور عليه فخلق فقرات جديدة كتكريم السينمائيين المحليين والعرب وغيرهم أو لإحدى السينمات العريقة أوالمجهولة.
ومع الشرعية التي حظي بها الملتقى من لدن سكان المدينة وجمهورها ففرض وجوده كنقطة مضيئة في الثقافة الجزائرية أصبحت الجمعية، وبالتالي الملتقى، يتلقى دعما مباشرا من بعض المؤسسات وعلى رئسها وزارة الثقافة الجزائريّة، وفي ذات الوقت محتفظا باستقلاليته التي امتلكها خلال السنوات الماضية.
يشهد الجميع، سواء من الجزائريين أو الضيوف الأجانب من العرب والأوروبيين، بأن دينامو هذا الحدث الثقافي السنوي وكذا باقي الأنشطة التي تمتد طيلة السنة هو بدون منازع “عبد النور حوشيش” الذي ساهم في تأسيس الجمعية والنضال من أجل أن تستمر في وضع مليء بالألغام وحتى تنجح في إشعال شموع الملتقى لتنير بها المدينة وهو الذي يحتل منصب مديره الفني بحكمة.
تكريم سوريا ولبنان
في السنة الحالية 2011، تنعقد الدورة التاسعة (9) من 11 إلى 17 يونيو/حزيران الجاري.. جميع الأنشطة يحتضنها المسرح الجهوي بمدينة بجاية الذي يحمل إسم “عبد المالك بوغرموح”؛ بكل ما له من دلالات ثقافية محلية.
فقرات برنامج الملتقى تتوزع بين العروض السينمائية ومناقشتها فضلا عن الورشات التكوينية، ففي كل صباح – لمدة تتراوح بين ساعة وأكثر بقليل حسب الحضور والموضوع – ضمن فقرة “المقهى السينمائي”، يجتمع بعض السينمائيين والمؤطرين مع الجمهور والصحافة والنقاد للمناقشة الحرة لكنها مُنظمة حول الأفلام المعروضة أو موضوع يهم فنون السينما، ثم تبدأ مباشرة عروض الأفلام ومناقشتها مع أصحابها في نهاية عرضها داخل القاعة نفسها حيث يكون النقاش مثمر لأنه لا يتم تحت ضغط المسابقة كما هو الحال في مهرجانات عدة مما يسمح بالتفاعل الأخوي.
وتستأنف الأنشطة في الظهيرة بالعروض والمناقشة أيضا وكذا في المساء وفي ساعة متأخرة من الليل..وهكذا دواليك طيلة أيام الملتقى.
لكن مستوى النقاشات ومحتواها لا يتكرر على الإطلاق بقدر ما يغتني في كل يوم جديد.
ويكرم الملتقى السينما السورية في يوم خاص بها والذي يمتد طيلة يوم الثلاثاء 14 يونيو/حزيران بعرض أفلام سورية قديمة وحديثة (روائية ووثائقية) بحضور المخرجين السوريين “أسامة محمد” و”جود سعيد” ومن تنشيط “مارسيل سيغوني”
( رئيس جمعية “أفلام” بمرسيليا التي تُعنى بالأفلام العربية والتي سبق لنا أن عرفنا بها وبأنشطتها في موقع الجزيرة الوثائقية).
أما ضيف الملتقى فهو المخرج اللبناني “غسان سحلب” الذي سيحظى بعروض خاصة لأفلامه كلها تقريبا موزعة على أسبوع كامل لاستعادة مشاهدتها كاملة كمناسبة استثنائية، وتتضاعف قيمتها بحضوره الشخصي.

أفلام جزائرية مهمة سيتم عرضها منها فيلم وثائقي حول “النفس الجديد في السينما الجزائرية” وفيلم آخر يتحدث عن “الجزائر الغد” وكذا الفيلم الذي سيتم به الافتتاح الرسمي لفعاليات الملتقى وهو بعنوان: ” في الصمت، أحس بالأرض تسير”.
ومن خارج الجزائر سيشاهد الجمهور فيلم “مفروزة” عن مصر العميقة التي كان يخفيها النظام المصري السابق وهي ملحمة تمتد ساعتين ونصف من إخراج الفرنسية “إيمانويل دوموريس”، وأيضا الفيلم المغربي “الجامع” لـ/داوود أولاد السيد.
جل أعضاء ومسيري جمعية “بروجكت هورت” المنظمة للملتقى هم من الشباب بدء برئيسهم “عبد النور حوشيش” وبالتالي من الطبيعي والمنطقي أن تفسح مجالا واسعا للسينمائيين الشباب والشابات، خاصة في المنطقة المغاربية، إذ أن البرنامج يتضمن مجموعة من الأفلام القصيرة التي نالت الإعجاب ونزعت جوائز مهمة في مختلف المهرجانات لتحظى هنا أيضا – في مدينة بجاية – بنفس التقدير والاعتراف والمكانة الفنية حيث تُعرض في توقيت مناسب للساكنة لمتابعتها ومناقشتها وتشجيع شبابها وشباب الأقطار الأخرى. ومنهم من سبق له المشاركة ويعود من جديد؛ ومنهم من كان في السابق هاوي لفن السينما ليرجع إلى الملتقى وقد تلقى تعليما أكاديميا في فنون السينما؛ منهم المخرج والممثل وكاتب السيناريو والتقني..
تتحول مدينة بجاية إلى فضاء سينمائي بامتياز خلال أسبوع كامل خاصة وأن المدينة نفسها مُغرية بالزيارة.
تطوير الورشات
وفي الوقت الذي يتابع فيه الجمهور العروض السينمائية ويناقشها مع أصحابها المخرجين، يوجد في ذات الحين، على المقابل مجموعة من الشباب والشابات يتلقون، منذ اليوم الأول من الملتقى وطيلة اليوم تقريبا، دروسا مكثفة في كتابة السيناريو وأخرى في النقد السينمائي ضمن ورشات يؤطرها أساتذة مختصين في مجالهم السينمائي.
وهي الورشات التي تعرف إقبالا كبيرا مما حدا بإدارة الملتقى إجراء اختبارات مسبقة لتحديد العدد من أجل استفادة أفضل للمشاركين.
ورشة كتابة السيناريو تُقام هذه السنة تحت عنوان “الكتابة لكي تُشاهد” والتي تم تخصيص لها دعم مادي للمتفوقين أقلها 50.000 دينار جزائري على الأقل – ما يُعادل 5000 يورو – إذ تقرر قبول 4 مشاريع سيناريوهات بعد مناقشتها وتصحيحها وإعادة كتابتها بشكل احترافي في الورشة.
إن هذه الورشة موجهة للجزائريين الشباب والشابات من كتاب السيناريو أو المخرجين، والمخرجات الذين/اللواتي لهم/لهن مشاريع مكتوبة يرغبون في تطويرها.
والمشاريع الحاصلة على الدعم ينبغي أن تُنجز بعد سنتين في أقصى تقدير.
ستُتوج هذه الورشة بجلسة تأطيرية من لدن الأستاذ “أحمد بجاوي”، الأب الروحي للثقافة السينمائية بالجزائر منذ الستينات من العقد الماضي حيث كوَّن أجيال من السينمائيين واشتهر ببرنامجه السينمائي النقدي في التلفزيون الجزائري، وهو الآن مستشار لدى وزيرة الثقافة السيدة خليدة تومي في الشؤون السينمائية ورئيس لجنة دعم الإنتاج السينمائي بالجزائر وأستاذ جامعي في التواصل بعد عودته من فرنسا.
أين تسير السينما؟
أما الندوة المركزية للملتقى والتي ستجمع جميع السينمائيين الحاضرين من الجزائر وخارجها ستُقام يوم الأربعاء 15 يونيو/حزيران من الساعة الخامسة مساء إلى غاية السابعة مساء تحت عنوان “أين تسير السينما؟” وهو السؤال الذي ينتظر أجوبة متعددة ومختلفة التي ستكون بدون شك غنية لأن مستويات الإنتاج والتوزيع والاستغلال وتطور التقنيات والتكنولوجية مختلفة بين الأقطار المدعوة للنقاش ويوجد بينها أحيانا بندا واسعا لا مجال للمقارنة بينها.