القضية المركزية في السينما الوثائقية السورية

أفلام القطاع العام نموذجاً
بموازاة الحضور الكبير الذي سجلته القضية الفلسطينية، في الإنتاج السينمائي السوري الروائي الطويل؛ سينما القطاع العام، سنجد أن حضوراً مشابهاً، أو ربما متفوقاً، وجد لنفسه مكاناً في السينما الوثائقية السورية والروائية القصيرة، سواء بالتوازي التاريخي، أي منذ نهاية ستينيات القرن العشرين، أو على صعيد التواتر والاستمرار، طيلة السنوات اللاحقة.
 فيمكن أن يبدأ رصد الشأن المتعلق بالقضية الفلسطينية فيها، اعتباراً من فيلم «البناء والدفاع»، الذي أنجزه المخرج “مروان حداد” عام 1969.
والفيلم على ما تذكر المصادر، لأننا لم نتمكن من رؤيته، يتناول دور الجيش السوري في عمليتي البناء والتصدي للعدوان الصهيوني.
ولقد أكد المخرج “قيس الزبيدي” لنا ذلك، خاصة وأنه شارك بتنفيذ هذا الفيلم، على مستوى التصوير والمونتاج.
وربما كان فيلم «البناء والدفاع» محاولة أولية، إذ سرعان ما سيقدم المخرج العراقي “قيس الزبيدي” فيلمه المتميز «بعيداً عن الوطن» في العام ذاته؛ عام 1969 وهو فيلم يعتمد فيه على أحاديث الأطفال الفلسطينيين في أحد مخيمات الشتات بعيداً عن الوطن، هو مخيم (سبينه) الواقع جنوب دمشق، مترافقة (تلك الأحاديث) مع صور من حياتهم اليومية في هذا المخيم، وقد عمد المخرج في صياغة هذا الفيلم إلى تركيب شريط الصوت الذي سجله في الأستوديو لمجموعات من الأطفال ممن جلبهم المخرج إلى الأستوديو، وتركهم يعلقون على شريط الصور الذي سبق أن سجله في مخيمهم، وفي ذلك تتجلى مصداقية الأحاديث، وتبيّن قيمة الفيلم، وقد نال تكريماً دولياً.
وفي العام 1969، سيقدم المخرج العراقي “فيصل الياسري” فيلم «نحن بخير»، ويقصد من خلاله تبيان المفارقة بين الرسائل الإذاعية للعرب، التي كانوا يوجهونها إلى ذويهم خارج الأرض المحتلة، من جهة، وحقيقة الممارسات الهمجية للمحتل الصهيوني في الواقع، من جهة أخرى، وذلك استناداً إلى البرنامج الإذاعي «رسائل العرب إلى ذويهم»، الذي كان يبثه راديو العدو، في تلك الأيام وعلى مدى قرابة ثلاثين سنة أعقبت النكبة.
يعتمد “الياسري” في هذا الفيلم، الذي لا تتجاوز مدته 10 دقائق، على التداخل فيما بين الوثيقة الصوتية، والصورة البصرية، لخلق حالة التناقض، التي تفضح الممارسات الاحتلالية، كما يميل في بعض المشاهد إلى الرمز والدلالة، خاصة مشهد «الميكروفون الإذاعي المحاط بالأسلاك الشائكة» ودلالته على العسف الذي يلحق بالحقيقة، وحرية الرأي، وصدق التعبير. وكان من نصيب الفيلم أن لقي حفاوة وتكريماً دولياً.
وبعد فيلمي «نعم عربية» لخالد حماده الذي يؤكد على عروبة فلسطين، رغم الاحتلال الصهيوني، وممارساته، وفيلم «عيد سعيد» لمروان مؤذن، الذي نتبين فيه المفارقة المريرة بين أفراح كافة أطفال العالم بحلول العيد، من جهة، وواقع الأطفال الفلسطينيين البائس، من جهة أخرى، وذلك حين نرى المعاناة المريرة عند الأطفال المشردين من ديارهم، بسبب العدوان الصهيوني، يجيء فيلم «نابالم» الهام للمخرج نبيل المالح عام 1970، فخلال دقيقة ونصف، فقط، يعرض المخرج نبيل المالح لوحشية وهمجية العدوان، وذلك بأسلوب الدعاية الساخر عن اكتشاف عدواني جديد هو النابالم، المبيد الفعال للشعوب، الاختراع الأمريكي الفعال.. وقد حاز الفيلم على عدد من الجوائز فضلاً عن التقدير والحفاوة..
وفي العام ذاته، ينجز المصور أحمد أبو سعدة فيلماً بعنوان «أنا الفدائي»، وفيه يصور أغنية للمطرب مصطفى فؤاد، عن الفدائيين. وسيعتمد محمد الرواس أيضاً على اسكتش غنائي ليقدم فيلمه «عرس المجد» عام1971، ويقدم أحمد أبو سعدة مرة أخرى أغنية «أنا صامد» الشهيرة في فيلمه «أبطال العودة».. وهذه الأفلام الثلاثة من إنتاج التلفزيون العربي السوري.
 وسيعود المخرج قيس الزبيدي لتقديم «شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب» عام 1972 وهذه المرة من خلال رسومات أطفال فلسطينيين في المخيمات، متداخلة مع مشاهد وثائقية حيّة، وبطبيعة الحال فإن رسومات الأطفال، تعبّر عن مشاعرهم وأحاسيسهم ومواقفهم، مما هو حولهم، بينما إن المشاهد الوثائقية الحية تقدم صوراً عن الواقع في أقسى تفاصيله..
وتتعدد الأفلام السينمائية التسجيلية السورية منذ العام 1973، أي بعيد حرب تشرين/ أوكتوبر، فبداية نجد محمد الرفاعي يقدم أشبال المقاومة في فيلمه «الجيل الثائر»، ويتناول المخرج هيثم حقي في فيلمه «التحويل» مجمل الشروط التاريخية والوقائع التي امتدت فيما بين بين العام 1967 حتى 1973.
وفي العام 1973، يقدم فيصل الياسري «لعب أطفالنا الجديدة» حيث تحولت أشلاء طائرات العدو إلى لعب للأطفال، وفيلم «أهداف استراتيجية» له أيضاً حيث يبين أن الأهداف الاستراتيجية التي استهدفتها الاعتداءات الصهيونية، ما هي إلا مواقع مدنية ذات طابع اجتماعي وصحي وتربوي.. بما يفضح حقيقة العدو الهمجية.
ويبين المخرج وديع يوسف انكسار عنجهية العدو، وأسطورة الجيش الذي لا يقهر، في فيلمه «وجاء تشرين»، كما يفضح همجية هذا العدو في «القتلة» من خلال لقاء مع طيار إسرائيلي وقع أسيراً بعد أن تمَّ إسقاط طائرته التي كانت تقصف أهدافاً مدنية. ويبين صوراً من تلاحم الشعب وصموده في المواجهة، وفي الأوقات الصعبة في فيلمه «الصمود»..

المخرج “مروان حداد”

وهذه الأفلام من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، التي قدمت أيضاً في العام 1974 فيلم «العودة» لمروان حداد، الذي يكشف من خلال حوارات مع بعض العائدين إلى ديارهم في مدينة القنيطرة المحررة، ما عانوه من قبل، وأحلامهم وآمالهم التي لم تنطفئ، طيلة ست سنوات من الاحتلال، وطبيعة أحاسيسهم وهم يعيشون التحرير، ولنرى في نفس الوقت حجم التدمير الوحشي، المقصود، والمبيت النية، بكل الحقد والهمجية، الذي لحق بمدينة القنيطرة المحررة.
وفي العام 1974 سيقدم التلفزيون السوري والمؤسسة العامة عدداً من الأفلام الوثائقية المتميزة، منها «دروس في الحضارة» إخراج أمين البني، وفيه فضح لأكاذيب الصهيونية وزيف ووحشية ما تقوم عليه، كما نجد «القنيطرة حبيبتي» له أيضاً، و«تحية من القنيطرة» لوديع يوسف، و«صفحات من أوراق الجولان» لبشار عقاد، و«التحرير» لغسان باخوس، وفيلم «مهمة خاصة» لهيثم حقي، الذي يقوم المخرج من خلاله بالتوغل في الخلفيات الإنسانية، والشروط الاجتماعية التي أنتجت أبطال عملية جبل الشيخ، ويبين أن الناس العاديين هم من يقومون بأبدع البطولات، بل هم يشعرون أنهم فقط كانوا يؤدون واجبهم.
ويقدم محمد الرفاعي في العام ذاته فيلمه «جنود فلسطين»، الذي يتحدث فيه عن الدور المميز والبطولات الفذة لجيش التحرير الفلسطيني، ونجد فيلم «النازية الجديدة» لغسان باخوس 1975، و«زهرة الجولان» لصلاح دهني، ثم «المعركة والبترول» لأحمد فاروق عبيسي و«دمشق ترحب بكم» لممدوح عدوان، وفيلم «لن ننسى»، و«اللحن الحزين» إخراج لطفي لطفي، وفيلم «حصاد تشرين» لمنير جباوي، و«الدرع الحصين» لبشير صافية، الذي يتناول دور الجيش العربي السوري في المواجهة..
وكما وجدنا فيلم «الشهود»، كذاك يأتي فيلم «نداء الأرض» لقيس الزبيدي 1976، الذي يتحدث فيه عن مقاومة المحتل الصهيوني، وفيلم «الذاكرة» لمحمد ملص 1976، حيث يتوغل المخرج في ذاكرة عجوز، بقيت في الجولان ولم تغادر بيتها، وشهدت بعينيها كل شيء، والملفت أن هذه العجوز (وداد ناصيف) متثقفة على نحو خاص، وتمتلك المقدرة على التحدث بعدة لغات. ويرصد فيلم «اليوم الطويل» لأمين البني فصولاً من مقاومة الاحتلال، من جهة، وممارسات المحتل الصهيوني ضد الناس العزل والأبرياء، من جهة ثانية.

المخرج “نبيل المالح”

ويهتم نبيل المالح في «النافذة» 1978 بملاحقة محاولات الصهيونية لتغيير الواقع الفلسطيني، وفرض وقائع جديدة، بينما يتناول «السلام» لعبد المعين عيون السود 1980 اتفاقيات كامب ديفيد، من خلال الرسوم المتحركة.
ويعتبر فيلم «فلسطين الجذور» لأمين البني المنتج عام 1982 من أهم الأفلام التي حاولت أن تتناول تاريخ فلسطين منذ أقدم العصور، حتى الربع الأخير من القرن العشرين، وتحليل الأسباب والمقدمات التاريخية للنكبة. ويتحدث فيلم «سلامة الجليل» لوديع يوسف 1984 عن الاجتياح الصهيوني للبنان في صيف العام 1982 والذي امتد اجتياحاً وحصاراً لبيروت قرابة الثلاثة أشهر، وكانت العملية الصهيونية الشرسة بعنوان «سلامة الجليل».
 من الملفت أن الكثير من الأفلام الوثائقية، وحتى الروائية القصيرة، التي تناولت أحداث حرب تشرين التحريرية، وما سبقها أو رافقها من اعتداءات وحشية صهيونية ضد أماكن وأهداف مدنية، وما تلاها من تحرير القنيطرة وعودتها إلى الوطن الأم، وصور التدمير والخراب المتعمد، والخراب المقصود الذي أوقعه العدو الصهيوني فيها، لم تكن بعيدة عن متعلقات القضية الفلسطينية، سواء أكان ذلك مباشراً، أو على نحو غير مباشر، فالصراع مع العدو الصهيوني، ينتمي إلى بعديه الوطني والقومي، في أفق استراتيجي يمسّ كل الجوانب الواقع، ولكن من الأفلام الوثائقية، التي أُنجزت في تلك المرحلة، شاهدنا فيلم «صهيونية عادية»، وهو مبادرة من المخرج ريمون بطرس عام 1974، خلال دراسته السينما في كييف، وكان حينها ما يزال طالباً، ورغم ذلك فإن الفيلم فيه القدر الكبير من بصمات مخرج متمكّن، بدءاً من التعليق المرافق للمشاهد التسجيلية النادرة، في قسط كبير منها، والتي استطاع المخرج الحصول عليها من أرشيف كييف، إلى البنية الفنية والمقولة الفكرية للفيلم، فنسج منها نصاً سينمائياً متماسكاً.
ريمون بطرس في هذا الفيلم الذي لا تتجاوز مدته عشرة دقائق، يرصد خطوات جند «شعب الله المختار»؛ جند يهوه، فينثرون الموت والدمار، هرتزل، غولدا مائير، موشي دايان.. ومسيرة طويلة من المجازر والدماء، والهدم والنسف والإبادة. فيبدو الفيلم بارعاً في فضح مقولاتهم الزائفة، من طراز أرض الميعاد، ورسل الحضارة..  وبذكاء يمازج الفيلم بين نظرات أبي الهول، شاهد تاريخنا وحضارتنا، مع نظرات الفدائي المقاتل العربي والفلسطيني، وإذ كانت نظرات أبي الهول تترصد تاريخاً عريقاً، فإن نظرات المقاوم العربي والفلسطيني، تتطلع إلى أفق عابق بالأمل.. وعلى إيقاع متصاعد لأغنية نشيد «أنا صامد» الشهير، يمتلك العرب قصب المبادرة في حرب تشرين، والثورة المستمرة.
وبدأ المخرج الفلسطيني باسل الخطيب، نشاطه السينمائي في سورية منذ منتصف الثمانينات، إذ كان من قبل قد أنجز بعض الأفلام السينمائية خلال دراسته السينما في الاتحاد السوفييتي، منها فيلم يحمل عنوان «أمينة.. حكاية فلسطينية» 1984 كذلك فيلماً بعنوان «لعنة» قبل أن يقدم من إنتاج المؤسسة العامة للسينما في سوريا، فيلمه «قيامة مدينة» 1986 عن مدينة القدس، وهو فيلم من طراز «دوكيودراما» إذ يتمازج الخط الروائي بالوثائقي، لتكتمل الحكاية التي يتهم بها. «أمينة» المرأة الفلسطينية تروي (باللغة الروسية) حكايتها الفلسطينية، ومأساتها، والأسرة الفلسطينية، التي تلوب بحثاً عن حلّ للمأساة التي حلّت بها، هي المقدمات لحكاية فلسطينية، حول افتقاد القدس، واحتلالها، واستلابها، وتوق العودة الفلسطيني إليها.
بانوراما متعددة الاتجاهات الفكرية، متنوعة الأشكال الفنية، قدمتها السينما الوثائقية السورية، من إنتاج القطاع العام متمثلاً بالمؤسسة العامة للسينما، والتلفزيون العربي السوري.. وهي في عمومها تبقى وثائق بصرية لن تمحى تعيد لنا أنفاس تلك المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية، والصراع العربي الصهيوني، منظوراً إليه من خلال عين الكاميرا السورية، حتى ولو جاءت، في كثير من الأحيان، على أيدي مخرجين عرب، كان لهم نصيب العمل في السينما السورية.


إعلان