تتويج فيلم “سارق الضوء”
حصل فيلم “سارق الضوء” على الجائزة الكبرى في مهرجان الرباط لما يُسمى بـ “سينما المؤلف” سلمتها له في الأسبوع الماضي لجنة تحكيم ترأسها المخرج التونسي رضا الباهي.
ويُعرض الفيلم منذ الربيع الأخير من السنة الجارية في الأقطار الأوروبية بعد مشاركته في فقرة “أسبوعي المخرجين” بمهرجان “كان” الفرنسي في السنة الماضية ثم في عدد من المهرجانات التي حصل منها على جوائز مثل مهرجان “أميان” ومهرجان “البيئة” بباريس وغيرهما.
يحمل الفيلم جنسية “كيرخيزستان” حيث ينتمي روحا وفكرا وشكلا لذلك البلد الواقع في آسيا الوسطى والذي كان يخضع لمنظومة الاتحاد السوفياتي سابقا.
تمكن هذا الفيلم من رؤية “الضوء” بفضل دعم مادي فرنسي وألماني وهولندي إذ أن السيناريو استغرق في كتابته المخرج نفسه طيلة تسع سنوات وهي المدة التي تطلبت من صاحبه أن يجد له تمويلا من هنا وهناك ويجمعها بصعوبة كبيرة.
وكان الكاتب السيناريست/ المخرج/ المنتج/ الممثل يستغلّ الزمن الضائع أثناء بحثه عن التمويل بإدخال تعديلات وإضافات في السيناريو والتدقيق فيه، وفي ذات الوقت البحث عن أمكان التصوير والتفكير في الديكور والحوار والموسيقى وكل تفاصيل الفيلم، بحيث كتب له الإخراج أيضا، إلى حد أنه حفظه عن ظهر قلب كما صرح لبعض وسائل الإعلام في مهرجان “كان” عند عرض فيلمه.
وهذه السنوات التسع من الكتابة والإعداد، على جميع المستويات، أهلته لكي يصوره في شهر واحد فقط (نعم خلال شهر واحد فقط) حسب ما جاء في ذكر كلامه حين حصل على الدعم.
مدة الفيلم ساعة و16 دقيقة يؤدي فيه المخرج نفسه الدور الرئيسي لأنه يعلم أدق تفاصيل السيناريو الذي قضى 9 سنوات في كتابته كما سبق القول حتى لا يضيع الوقت أكثر.
“سارق الضوء” هو ثالث فيلم للمخرج، وهو أول فيلم يوقعه باسمه الجديد “أكتان أريم كوبات” بعد أن وقع فيلْميْه السابقين باسم “أكتان أبديكاليكوف”؛ فقد احتفظ باسمه الشخصي “أكتان” وأضاف إليه إسمين لأبويه تكريما لهما فـ “أريم” هو إسم لوالده البيولوجي و”كوبات” هو إسم لأبيه بالتبني، وبذلك جعلهما معه في إسم واحد تقديرا لهما واعتزازا بهما.
يتمتع الفيلم بالشاعرية الفنية وبالحكمة في مضمونه حيث نجح في الجمع في آن واحد بين التفاصيل والاختزال الذي يتيحه فن المونتاج.
فلم يكن غارقا في التفاصيل المحلية إلا إذا أراد التأكيد على هويتها التي تندثر حاليا ويلتجئ للاختزال في المشاهد/ المواقف المعروفة دراماتوجيتها في السينما والتي سنشير إليها تباعا في هذا العرض.
يضعنا الفيلم منذ البداية – من خلال عنوانه – أمام “تهمة” بيِّنة وهي “السرقة” لشيء غير ملموس وهو “الضوء”وبهذه تَفْتَتِحُ “التهمة الوهمية” المشاهد الأولى في الفيلم.

لكن قبل أن نشاهدها، يُسمعنا المخرج هزيع الريح على شاشة سوداء مظلمة خلال الجنريك الأول.
وهذين المعطيين هما بمثابة عمودين اللذين يرتكز عليهما سيناريو الفيلم ويتداول في شأنهما الحوار بشكل مباشر أحيانا أو بلقطات ومشاهد أحيانا كثيرة، وهما: “الريح” و”الضوء”، وسينمائيا: “الصوت” و”الصورة”.
إسم الشخصية الرئيسية التي “تسرق الضوء” هو “السيد النور”، لم يطلعنا الفيلم إطلاقا هل هو إسمه الحقيقي أو مجرد نعت أطلقه عليه سكان القرية إلا أن إسمه اقترن بالضوء والسلوك الحسن المنير، وهذه الشخصية هادئة ومسالمة وتحب الخير للجميع وتتعاطف مع الأطفال. وبالتالي فهو “نور” القرية وسكانها، فهو إسم على مسمى؛ إن المرة الوحيدة التي انتفض فيها “السيد النور”، وخرج عن سيطرة نفسه، حين أراد الدفاع عن الفتاة خلال الحفلة التي تحولت فيها إلى بضاعة لجلب الاستثمار الصيني لكن صدمته الكبرى كانت هي أن الفتاة نفسها هي التي تصدت له وطالبته بالمغادرة.
مباشرة بعد جنيريك البداية الذي نسمع خلاله الريح على السواد نشاهد أول لقطة لطاحونة الهواء و”السيد النور” يمرّر “الضوء” إلى بيت أحد العجزة، ثم هوائي للتلفزيون الذي يتحرك على الشاشة ليتبين لنا إمرأة مسنة تنتقل به، وتجيب المرأة رجال شركة الكهرباء، الذين يتابعون عبر الراديو الأخبار المتوترة في العاصمة، وهؤلاء المستخدمين يتهمونها بـ “سرقة الضوء” فأجابتهم بأنها لا تضع “ضوءهم” في جيبها.
وعليه فـ “الضوء” بقدر ما هو محسوس وملموس بالرؤية غير موجود كمادة في نظر الناس مثل الريح تماما الذي يحسون به دون أن يقبضوا عليه إذ هو في متناول الجميع.
وهذا التناول الذكي للملكية الجماعية التي تمّ الاحتواء عليها لإعادة بيعها والاتجار فيها يصبح لها بعدا سياسيّا واقتصاديّا في النظام الجديد حول توزيع الثروات دون أن يلجئ المخرج إلى الخطاب المباشر بل اعتمد على تجسيدها بالصورة السينمائية.
وبما أن الفيلم يدور حول الضوء، فإن المخرج اشتغل جيدا في إضاءة فيلمه خاصة في مشاهده الداخلية مع مراعاة الديكورات والإكسسوارات واللباس.
يتوزع التشكيل الضوئي في إطار الصورة نفسها وهو ما أعطاه تلك الجمالية البصرية إذ كانت بعض المشاهد بمثابة لوحات تشكيلية تتكون من تعدد سُلَّم الإضاءة ودورها الدرامي في تحديد نفسية الشخصية ومحيطها كجواب على عُمق معاناته لتحقيق أمنيته بتوزيع الكهرباء على الجميع مجانا مادامت القرية توجد في موقع استراتيجي تهبّ عليها الرياح القوية طيلة السنة وهو ما سيسمح لها بإنتاج الكهرباء والاكتفاء الذاتي.
مشاهد كثيرة في واجهة اللقطة أو في عمقها تبين لنا – طيلة الفيلم – بوجود الأرياح (تحرك الأشجار والأغصان والغسيل وبالونات الأطفال وطاحونة الهواء…) تقنعنا بنظرية “السيد النور” لصنع éoliennes محركات الريح لتوليد الكهرباء إلا أن الشركة لا ترغب في استغلال الريح الطبيعي الموجود بكثرة ومجانا حتى تحتكر إنتاج الكهرباء وبيعه للمواطن وكثيرون منهم لا يقدرون على أداء فواتيرها.
وعليه، فالمخرج ينتقد سياسة اقتصادية واجتماعية دون خطاب فج مباشر من خلال حوار ممل بل يفضل أن يعتمد على الصور، اللقطات، والمشاهد ممزوجة بأصوات الريح ومعاناة السكان مع الخصاص في الكهرباء.
ويربط المخرج هذا الواقع بسيادة مافيا العقار والفساد في وسط الفئة السياسية بالبلاد المُنتخبة ونموذجها المصغر في القرية.
كما تطرق للمشاكل الاجتماعية كالفقر والهجرة والأمية من خلال نماذج لشخصيات تحكي عن ذوات أخرى من خلال ذواتها؛ ومن المشاهد الذكية في الفيلم نتوقف عند توظيفه للمونتاج المتوازي بحيث وظف التلفزة التي كانت تحمل أخبار الاحتجاجات بالعاصمة حيث كان يُمارس فيها العنف بين الخصوم السياسيين، وكان “السيد النور” يشاهد ذلك صحبة أحد نماذج المرتشين بالقرية والذي يبتسم ابتسامة استهزاء لما يجري هناك في العاصمة على التلفزة؛ وهذا المشهد يأتي بعد وفاة عمدة القرية الذي وصلنا خبر وفاته دون معرفة أسبابها ودفنه بسرعة لنجمع بين ما تبثه التلفزة من عنف سياسي وموت العمدة الذي كان قد رفض الرضوخ لهذا التعسفي، بل هذا الأخير فرض أحد رجالاته على القرية كعمدة مستغلا المأتم؛ وبالتالي فإن العمدة الذي كان قريب من أهالي القرية قد ذهب ضحية تصفية من طرف المافيا المحلية فوجدت طريقا سالكا أمامها.
وسيتعرض “السيد النور” لنفس المصير بتصفيته ورميه في بحيرة في أحد المساءات وبذلك تم إطفاء كل بصيص من “النور” و”الضوء” بالقرية.
لم يكن “السيد النور” يعمل فقط على “سرقة الضوء” لصالح الفقراء بإدخاله إلى بيوتهم وإنما يستمع لهمومهم أيضا وينصحهم ويساهم في حل مشاكلهم لأنه “نور” القرية وضميرها ورمزها الإيجابي كما أشرنا إليه أعلاه؛ وهو ما سيؤكده العمدة قبل “تصفيته” (غير المعلنة) حين كان يُجالس “السيد النور” على حافة البحيرة قائلا له “آه لو كانوا يشبهونك في طيبتك ستتحسن كثير من الأشياء” كانت الكاميرا حينها تصورهما من فوق ويبدو ماء البحيرة نقيا جدا كإحالة لنقاء “السيد النور” على لسان العمدة..وهذا المشهد لا يمكن إلا أن يكون مُفكرا فيه من قبل ليكون مضمون المشهد يتماشى مع الحوار الذي نسمعه بالصوت الخارجي (voix-off) باللغة السينمائية.
وعلى ذكر الصوت الخارجي سنتوقف عند الشريط الصوتي للفيلم الذي هو الطرف الثاني في المشاهدة السينمائية من خلال الاستماع لما يبثه من أصوات كالحوار والموسيقى وغيرهما من المؤثرات حيث في هذا الفيلم إن بطل الشريط الصوتي هو الريح وليس الموسيقى كما هو في كثير من الأفلام.؛ إن اعتماده أحيانا على الموسيقى كان لضرورة فنية وليس لملء فراغ ما.
كما اعتمد أيضا على الصمت لتبيان الفراغ الذي تعيشه القرية، فقد اشتغل على الصورة والتشخيص بنفس مستوى اشتغاله على الأصوات.
يبقى المشهد الأخير في الفيلم له أكثر من دلالة في اللغة السينمائية إذ بعد لحظات من السواد مباشرة بعد رمي “السيد النور” في البركة، حين تمت تصفيته على طريقة الرياضة التي تُمارس في تلك المنطقة الآسيويّة مع الحيوانات، تظهر لنا الدراجة الهوائية تحركها الأرجل تشبه لـ “السيد النور” لكن لن نجزم بذلك ما دام المخرج لم يعرفنا بأصحابها بقدر ما ركز على استعمال الطاقة الذاتية في تحريك العجلات والتقدم نحو الأمام وبذلك يؤكد لنا بصفة قطعية على أهمية وجود منتوج طبيعي هو الريح..وربما المشهد الأخير إحالة بوجود شخص آخر سيستأنف مسيرة “السيد النور” في نشر “النور”.