جاذبية السينمات الهندية
خلال متابعتي للدورة الـ 62 لمهرجان كان السينمائي عام 2009، لاحظتُ غياب الهند عن المسابقات الرسمية، ولكنها كانت حاضرة بقوة في لجان التحكيم، والسوق الدولية.
الممثلة “شارميلا طاغور” في لجنة تحكيم المسابقة الدولية، والناقدة السينمائية الهندية “أوما دا كونها” في لجنة تحكيم نظرة خاصة.
وأتذكر، بأنّ الدورات الماضية، تضمّنت الكاتبة / آرونداتي روي، الممثلة “أشواريا راي”، والمخرجة الممثلة / نانديتا داس.
تُنتج الهند مابين 2000 إلى 3000 فيلماً قصيراً وتسجيلياً في كلّ عام، إلا أنّ عدداً محدوداً جداً وجد مساحة له في “ركن الفيلم القصير”، تسعة أفلام طلابية جاءت من معهد المنتج والمخرج “سوبهاش غاي”، وأفلام قصيرة أخرى تطرّقت لموضوعاتٍ عن الهند.
وإذا كانت المهرجانات الكبرى تحتفي بالسينمات الهندية، نجومها، وصانعيها، من المفيد إذاً بأن تثري المهرجانات السينمائية العربية برمجتها بأفلامٍ جماهيرية، وحتى إعادة الاعتبار لها بهدف إثارة الجدل حولها، وفتح آفاقٍ معرفية، ذهنية، وبصرية حولها، تجعل المتفرج منفتحاً، ومتصالحاً مع كلّ الأساليب، الممارسات، والأنواع، ومتحرراً من خطابٍ سينمائيّ متجهم فقد صلاحيته عن سينما تعكس الواقع، وتهتمّ بقضايا كبيرة.

وقبل أن نصبح نخبوييّن جداً في ثقافتنا السينمائية، أقترح بأن نطرح على أنفسنا تساؤلاتٍ بسيطة من نوع:
ـ لماذا كانت وما تزال، أفلام الكاوبوي، الملاحم، والميلودرامات المصرية والهندية تثير إعجاب الملايين في الشرق، والغرب ؟
ولهذا، تهدف كتاباتي الدائمة عن السينمات الهندية إلى لفت الأنظار نحوها، والإشارة إلى تنوّعها، والتوقف عن انتقادها انطلاقاً من مشاهداتٍ متباعدة لفيلم، اثنين، أو حتى مجموعة أفلام، صحيحٌ بأن الكثير منها يتوافق مع الأفكار المُسبقة عنها، إلا أنها، وخاصة الجماهيرية منها، تحتاج إلى طريقةٍ مغايرة، ومتساهلة في الاستقبال، تتطلب فهم خصوصياتها الثقافية، والتصالح مع المفهوم التحقيريّ الشائع للميلودراما التي لا تشير بالضرورة إلى بكائياتٍ، مبالغاتٍ، ومصائر قدرية بقدر ارتباطها بالغناء، الرقص، والموسيقى.
في السينمات الهندية (الناطقة بلغاتٍ متعددة)، يبدو للمتفرج المواظب، بأنّ الموضوعات تتكرر في الأفلام، ونتخيل أحياناً بأننا شاهدنا أجزاء من هذا الفيلم، أو ذاك في أفلام أخرى، وهذه حقيقة لا تنفي عنها جاذبيتها.
رسمياً، العلاقات الجنسية ممنوعة، ويمتلك المخرجون الهنود القدرة على التحايل، ولكنهم يتفادون استخدام استعاراتٍ بلاغية نمطية (إقفال باب، غليان حليب، لهب نار، أو إسدال ستارة،..) كما يحدث عادةً في السينما العربية المُحتشمة جداً بالمقارنة مع السينمات الهندية التي تلجأ إلى مفرداتٍ جمالية أكثر إيحاءً، وخاصة الأغاني التي تتخفى في كلماتها الرغبات المُتأججة في الأجساد، تختلط بحركاتٍ شبقية راقصة، وتحدث تأثيراتٍ شهوانية عظيمة أكثر بكثيرٍ من مشاهد صريحة كما تظهرها السينمات الغربية بإفراطٍ شديد (من وجهة نظر محافظة).
وعاماً بعد آخر، يبدو بأنّ الرقابة الهندية تتسامح مع جرعاتٍ زائدة من العريّ، كما أصبح الجيل الجديد من الممثلات أكثر فخراً بأجسادهن، وأقلّ التزاماً بالعادات والتقاليد، وبالإضافة إلى الجمال الخارق الذي يتمتعن به، فإنّ المدخل الرئيسيّ لهن إلى عالم السينما، إجادتهن للرقص أولاً وأخيراً، ونعرف جيداً بأن معظم أبطال السينمات الهندية يرقصون، ويغنون في الأفلام الجماهيرية.

وباعتقاد المُغرمين، فإنه بدون الغناء، والرقص لم تكن السينمات الهندية تحقق شعبيتها في الهند، وخارجها، وهذه المشاهد، شئنا، أم أبينا، تؤدي دوراً جمالياً، ودرامياً جوهرياً، وبدونها، يصبح الفيلم بلا طعم ولا رائحة، ونجاحها يزيد من إقبال الجمهور على مشاهدة الفيلم.
ويهتم المخرجون الهنود كثيراً في إنجاز هذه المشاهد، ويجندون من أجلها إمكانياتٍ تقنية وفنية معتبرة (كلمات، موسيقى، تصميم رقصات، مجاميع، ملابس، إكسسوارات، إضاءة،.. )، إنها حبات الكرز التي تزين الحلوى، يضعونها في أفلامهم بمقادير مضبوطة لجذب الجمهور، وإمتاعهم، ونقلهم إلى عوالم من الأحلام الملونة.
“أميتاب باشان” ـ على سبيل المثال ـ واحدٌ من الممثلين العظماء، يرقص ويغني بصوته الحقيقي في معظم أفلامه، وكان يؤدي مشاهد الحركة بنفسه، وقد تعرض يوماً إلى حادثةٍ أليمة كادت تودي بحياته أثناء تصوير أحد مشاهد فيلم Coolie (مانموهان ديساي، 1983).
هو في الفيلم حمالٌ مسلم، فقير، عاشق، خدوم، طيب، ولكنه متمرد أيضاً على حالة الاستغلال التي يعيشها الحمالون في محطة القطار، يتذكر أمه المتوفاة في كلّ مرة يلتقي بامرأةٍ مسنة، ولا يتأخر عن مساعدتها في حمل حقائبها مجاناً، وأكثر من ذلك، يقبل يدها، ويودعها، وهو يمسح دمعاتٍ سقطت من عينيه.
الظلم الاجتماعي، العلاقة مع الأم، فقدان الوالدين،…هي إحدى العناصر الدرامية المؤثرة، والأكثر استخداماً في الأفلام الهندية، ونادرة جداً تلك التي تحطم مقدسات العائلة.
تتخير السيناريوهات حلولاً قدرية بانتصار الخير على الشر عن طريق الانتقام الفردي، ومهما كانت الوسيلة، الأهمّ بالنسبة للمتفرج الهندي أن ينتهي الفيلم بأحداثٍ سعيدة.
والسينمات الهندية (الناطقة باللغة الهندية، والتامولية بشكلٍ خاص) تعشق السفر كثيراً، وكانت العادة بأن لا تبقى البطلة بمفردها في بلدٍ غريب، من الضروري بأن يكون معها خادمة، أو صديقة، وغالباً يرافق البطل صديقاً، ويتحلى هؤلاء بروح النكتة، بالإضافة طبعاً إلى خفة الدم التي تتمتع بها معظم الشخصيات الرئيسية، وهي ميزة ملازمة لأبطال “بوليوود”، الرجال منهم خاصة (مع استثناءاتٍ نسائية قليلة مثل الحلوة “كاجول”).
من جهةٍ أخرى، يجب أن تنضح الأحداث بالتناقضات (الصارخة أحياناً)، والتباينات الاجتماعية، الدينية، الأخلاقية، السياسية..
والسينما الهندية مخلصة جداً للصدفة، ولا يعنيها أبداً التتابع المنطقي، أو المحافظة على وحدة الزمان والمكان، وخاصة في الأغاني(قليلة جداً تلك الأفلام التي تتقلص فيها، أو تتخلى عنها)، التي تمتزج فيها أماكن متعددة تم تصويرها أحياناً في مدنٍ مختلفة، وهي حيلة شائعة تهدف إلى حشر أكبر كمية من المناظر السياحية المختارة من هذا البلد، أو ذاك، ومازلتُ أتذكر بحنينٍ فيلم “أمسية في باريس” (شاكتي سامانتا، 1967)، وكيف كانت الأحداث اللطيفة تنتقل بين باريس، وبيروت، وكأنها تدور في مدينةٍ واحدة، وكما عرفت السينما الهندية كيف تُشكل “مخلوقاتٍ سينمائية”، برعت أيضاً في تركيب “جغرافيا سينمائية” خاصة بها، حيث كانت “بوليوود” مغرمة إلى حدٍ بعيد بسويسرا، وطبيعتها الخلابة، ومن ثمّ اكتشفت بلداناً جديدة، ومنها الإمارات العربية المتحدة، ومصر.
تستعجل “بوليوود” كثيراً في كتابة حكاياتها، معالجة أحداثها، ورسم شخصياتها بدقة، وتعوّض عن هذا الاستخفاف بكرمٍ إنتاجيّ بالمقارنة مع السينما العربية، فإذا كان التصوير في أماكن كثيرة من نفس البلد مكلف إنتاجياً، فكيف الحال عندما يكون في بلدانٍ مختلفة.
وفي السينمات الهندية تتكرر كثيراً حكاية الشبه بين الشخصيات (فكرة الاستنساخ)، كما الحال مثلاً فيDon لمخرجه “فرحان أختار” (2006).
“دون” (شاروخ خان) واحدٌ من زعماء شبكة كبيرة لتهريب المخدرات، يديرها بقبضةٍ حديدية، ويقضي بلا رحمة على الخونة، وكل من يعترض طريقه، في إحدى المعارك يُصاب بجروح بالغة، ويقبض عليه ضابط الشرطة كي يبدله بشبيه له اسمه “فيجايّ”.
وهو نسخة من فيلم يحمل نفس العنوان لمخرجه “شاندرا باروت”(1978)، واحدٌ من الأفلام الشهيرة للأسطورة “أميتاب باشان”، وأحد رموز العصر الذهبي لسنوات السبعينيّات، أما شخصية “دون” فقد أصبحت مع الزمن أيقونة السينما الهندية.
كما اعتادت “بوليوود” على حيلة ميلودرامية، تتجسّد باختفاء إحدى الشخصيات عن طريق الموت، الضياع، الاختطاف، السفر… وظهورها المُفاجئ بعد سنواتٍ طويلة، كما الحال مثلاً في بعض الأفلام التي شاهدتها مؤخراً:
Tarana إخراج”رام دارياني” (1951).
Sangam إخراج”راج كابور” (1964).
Amar، Akbar، Anthonyإخراج “مانموهان ديسايّ”(1977).
laila majnu إخراج”هارنام سين راوايل” (1979).
………
ومهما كانت وجهة نظرنا عن السينمات الهندية، وحكاياتها التي تتكرر، وتدور حول نفسها، فإنّ الأهمّ بالنسبة للجمهور المُغرم بها بأن تنتهي نهاية سعيدة، وينتصر الخير على الشر، ويتزوج الحبيبان، وينجبا أطفالاً، والأكثر أهمية، بأن يخرج المتفرج الهندي، وأيّ متفرج، من صالة العرض منتشياً بأحداثٍ طافحة بالحبّ، المرح، السياحة، المغامرات، والأغاني.
إنها ببساطة أفلام تهدف إلى المتعة، والتسلية، بدون أن تتخلى عن وظيفتها التعليمية، الإرشادية، التثقيفية، والتربوية،….
ملاحق: ــــــــــــــــ
وُفق تقرير شركة (Pricewaterhouse Coopers) ارتفعت إيرادات صالات السينما في الهند عام 2007 بنسبة 13%، واقتربت من 2.7 مليون دولار أمريكي (1.7 يورو).
كما ازدادت إيرادات الأفلام الهندية في الأسواق الأجنبية، وأسواق الفيديو بنسبة 15% بالمُقارنة مع عام 2006.
في عام 2007 ارتفع إجمالي الإيرادات في قطاع وسائل الإعلام، والترفيه في الهند إلى 17%، ووصلت إلى 12.6 مليون دولار أمريكي (8 مليون يورو) في مقابل 10.8 مليون دولار أمريكي (6.8 يورو) عام 2006.
ووُفق تقرير (Dodona Research) يجب أن ترتفع إيرادات الصالات إلى 30% خلال الخمس سنوات القادمة.
وتمثل المُجمعات السينمائية حالياً 4% من الشاشات الهندية، وتحقق بعض الأفلام 40% من إيراداتها في هذه الأمكنة بفضل أسعار التذاكر الأغلى من الصالات العادية.
وتنوي ست شركات استثمارية تمويل إنشاء مجمعاتٍ سينمائية في كلّ المدن الهندية، وسوف تؤسّس معاً حوالي 1500 صالة.
من جهةٍ أخرى، يشتري بعض المُستثمرين صالات تقليدية بشاشةٍ واحدة بهدف تحويلها إلى مُجمعاتٍ سينمائية بأنظمةٍ رقمية، وهذا يعني، بأنها سوف تحصل على أفلام ناجحة جماهيرياً بسرعةٍ أكبر، وبنوعيةٍ تقنية أفضل.
وحتى عام 2011، تنوي ثلاث شركات استثمارية للصالات امتلاك أكثر من 5000 شاشة رقمية.