السينما الإفريقية تلتقي مجددا بـ”خريبكة”

بدأ مهرجان السينما الإفريقية بخريبكة يستقبل زواره السينمائيين القادمين من عمق إفريقيا وكذا أفلامهم قبل الإعلان عن انطلاقه يوم السبت 16 يوليو/ تموز الجاري حيث يمتد طيلة أسبوع إلى حدود السبت 23 من نفس الشهر.
بعض من المسيرين له الحاليين قد واكبوه منذ انطلاقه سنة 1977 في عنفوان شبابهم، من خلال النادي السينمائي المحلي، ومازالوا على عهدهم صامدين وكأن الزمن لم ينل منهم، ويعاملونه كجزء منهم ومن كيانهم ووجودهم.
 لقد تحوَّل مع الزمن إلى قطعة من ذاتهم؛ ومن هذه الأسماء البارزة، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: “الحسين ندوفي” و”عز الدين غريرن” و”عبد المجيد تومرت” وغيرهم كُثُر…
ولا بأس من التذكير بأن مهرجان السينما الإفريقية بـ “خريبكة” هو أقدم مهرجان سينمائي في المغرب الذي مازال صامدا (كان أول مهرجان سينمائي تأسس في مغرب الاستقلال سنة 1968 بمدينة طنجة حول سينما أقطار المتوسط الذي تم وأده قبل دورته الثانية).

إذا كانت هذه التظاهرة السينمائية الإفريقية قد عرفت عدة محطات، وقاومت عواصفا فكرية وسياسية وتنظيمية وعقليات منحرفة فعاشت مدّا وجزرا، حسب الظروف التاريخية التي امتحنتها، إلا أنها بقيت وفية لعمقها الإفريقي ولونها السينمائي.
 إن أيام “قرطاج” السينمائية بتونس تجمع مع القارة ذراعها العربي؛ أما “خريبكة” فلم تعمل على تجاوز الخريطة الإفريقية، وهذا ما يميزها.
تكمن قوة مهرجان السينما الإفريقية بـ “خريبكة” في قدرته على تطوير كيانه وهياكله من خلال تصحيح مساره عند كل منعرج أو هفوة أو سقوط في خطأ ما، بتقييم كل محطة من محطاته بعد دراسة علمية لتجربته، وهو ما مكنه من أن يستمر في الوجود وبأقوى مما كان عليه.
ينطبق على هذا المهرجان أسطورة الفينيق الذي ينبعث كل مرة من رماده؛ وبالتالي فهو أسطورة ليس بالمفهوم الخرافي وإنما بما حملته من مضمون إبداعي باعتبار الأسطورة كنه الخيال في الإبداع علما أن السينما تعتمد على الخيال والمتخيل الذي يتطلب الذكاء في تجسيده على أرض الواقع خاصة إذا كان هذا الواقع متعنتا وغير لَيِّن لاحتضان ما هو جدي ومثمر.

 مهرجان المقاومة والصمود

انطلق مهرجان السينما الإفريقية قبل ثلاثة عقود ونصف (بالضبط سنة 1977) بلقاء محلي – بين النادي السينمائي لمدينة “خريبكة” والجامعة الوطنية للأندية السينمائية بالمغرب في عصرها الذهبي – كحلقة دراسية في السينما الإفريقية، بمعنى التركيز الأساسي على التكوين السينمائي ليتطور بعد ذلك كملتقى ثم يضيف مسابقة رسمية ليتحول بعد سنوات من ذلك إلى مهرجان.

“نور الدين الصايل” المدير العام للمركز السينمائي المغربي

 لم يكن هذا الانتقال سهلا بل عرف مخاضا متعدد الألوان كنتيجة لصراعات حامية. إلا أن قيمتها الإيجابية (أي في تلك الصراعات) تجسدت في لقائها جميعا على رغبتها في الحفاظ عليه.
وهذه الرغبة (الذاتية والموضوعية) هي التي سمحت للمهرجان بأن يخلق إطارا يجمع الجميع فتتحد فيه المفاهيم، سينمائية كانت أو تنظيمية، وكذا إستراتيجية العمل المنظم لعدم تكرار أخطاء الماضي وهفواته التي كانت جهات كثيرة لا علاقة لها بالسينما على الإطلاق تتعمدها بغرض تحوير هدفه وتحويل اتجاهه وتوظيفه في ما لا يحتمله في جوّ سياسي متوتر.
رغم كل ذلك نجح في غرس جذوره عميقا في تربة “خريبكة” المدينة العمالية المناضلة مثله مثل شجرة “باو باو” الإفريقية التي تواجه كل أشكال الجفاف والعنف البشري وتبقى راسخة في الأرض ومتجهة نحو السماء باخضرارها وكأن “القدر” هو الذي زرع السينما الإفريقية في مدينة “خريبكة” لتشابه الطقس وعفوية سكانها.

دينامية هذه الحركية السَّلِيمَة والوجيهة يقودها مؤسس التظاهرة منذ أن رأت النور في منتصف السبعينات من القرن الماضي وهو الناقد، المفكر،السيناريست، والمنتج نور الدين الصايل (المدير العام الحالي للمركز السينمائي المغربي ورئيس مؤسسة مهرجان السينما الإفريقية).
لا نرمي الورود على هذه الشخصية السينمائية أو نمجد صورتها بقدر ما هو واقع مشهود بها داخل المغرب وخارجه، إذ أنه أشهر إسم سينمائي يتداول خارج التراب المغربي بما أسداه للسينما المغربية وقدرته على إثارة انتباه الجميع إليها وإيجاد لها أمكنة في عالم ضيق ولا يُسمح ولوجه بسهولة.
فالأستاذ نور الدين الصايل ليس في حاجة مني لتأكيد ذلك ولن يُضيف له شيئا ما حاليا بعد مسار سينمائي غني يمتد امتداد نصف قرن؛ فما أورده هنا هو تحصيل حاصل نسوقه بمناسبة حديثنا عن مهرجان سينمائي كان هو رائده بدون منازع ومازال، مثلما هو رائد الثقافة السينمائية بكل تجلياتها.

وصل المهرجان إلى دورته 14، لكن مسيرته السينمائية طويلة وغنية بما نقلناه إليكم في هذا النص بحيث بدأ مع ناد سينمائي ثم نازعته مؤسسات محلية لا علاقة لها بفنون السينما لكي تحوله إلى صالحها عوض أن تهتم بما هو من اختصاصها في الشأن العام للمواطنين وأن تكتفي بدعم التظاهرة بحكم أن كل نشاط ناجح وإيجابي بمنطقتها هو لصالحها، خاصة إذا لم تكن هي صاحبته.
 ونجح المناضلون السينمائيون المحليون والوطنيون من استرجاع هوية المهرجان إلى قاعدته الأصلية في إطار جمعية التي تبين صعوبتها في المكون الذي تدور فيه لتكون المحطة الأخيرة هي تأسيس مؤسسة مستقلة خاصة بالمهرجان تدير شؤونها إدارة قائمة الذات.
 ومن لقاء كان يُقام حسب الإمكانيات المتاحة إلى تظاهرة كل سنتين وفي الأخير أصبح مهرجانا سنويّا مع مؤسسته المُشار إليها سابقا.

ملصق فيلم الطيران الأخير للبجع

وعليه، فإن مهرجان السينما الإفريقية في “خريبكة” هو مهرجان ينمو، يتطور، يتقدم، يتحسن، يتفاعل مع محيطه المحلي في المدينة وعلى الصعيد الوطني.
ناهيك عن علاقته بالقارة الإفريقية بخلقه جسورا مع كثير من المهرجانات وبمؤسسات سينمائية لتوطيد تعاون ملموس في الإنتاج والتوزيع.
 وسنرجع إلى هذا الموضوع في نص مستقل لتبيان حيثياته والدور الذي سيلعبه مهرجان “خريبكة” في المستقبل القريب والذي ستكون له انعكاسات إيجابية على المستوى البعيد بعد أن استرجع الأستاذ نور الدين الصايل صحبة فريق ناشط وحيوي زمام الأمور في قيادة هذه التظاهرة وإدارتها.

 أفلام المسابقة والجوائز

تحمل الدورة 14  مشاركة متنوعة مجسدة في 13 فيلما قادمة من الموزمبيق، وبينين، وساحل العاج، مرورا بمالي، وبوركينا فاصو، ومصر، وصولا إلى الأقطار المغاربية: تونس، الجزائر، والمغرب كلها حديثة الإنتاج رغم ما تعاني القارة من فقر في الإنتاج السينمائي بسبب الأزمات الاقتصادية والحروب الأهلية أو بين الأقطار على أكثر من حدود مشتركة.
فلو كانت قارتنا السمراء في وضع سليم كان بالإمكان أن يكون الاختيار أكثر صرامة وربما يمتد المهرجان إلى أكثر من أسبوع باعتبار وجود 54 دولة حسب الأمم المتحدة.
هذه لائحة الأفلام ومخرجيها التي تحتويها المسابقة الرسمية: “انتظار التصويت” للمخرج ميسا بيبي، و”ثقل القسم” للمخرج كمولو دي صانو، كلاهما من بوركينا فاصو، و”غزوة سامانيانا” للمخرج سيدي دياباتي من مالي، و”الرجل المثالي” للمخرج أويل براون من ساحل العاج، و”الطيران الأخير للبجع” للمخرج ريبيرو جوواو من الموزمبيق، و”خطوة إلى الأمام: خبايا الفساد” للمخرج سيلفيستر أماسو من بنين، و”النخيل الجريح” للمخرج عبد اللطيف بن عمار من تونس، و”سفر إلى الجزائر” للمخرج عبد الكريم بهلول من الجزائر، و”لكل حياته” للمخرج علي غانم من الجزائر، و”ميكروفون” للمخرج أحمد عبد الله، و”6، 7، 8″ للمخرج محمد دياب، وكلاهما من مصر؛ ويشارك المغرب في المسابقة الرسمية بفيلمين هما “الوتر الخامس” للمخرجة سلمى بركاش، و”ماجد” للمخرج نسيم عباسي.
وقد خُصصت للمسابقة الرسمية 8 جوائز مالية مهمة ومُشجعة تتوزع كالآتي:
الجائزة الكبرى التي تحمل إسم المخرج السنغالي الراحل عصمان سمبين (وهذا الإسم له دلالة كبيرة في سينما القارة الإفريقية باعتباره أحد مؤسسي فنها السابع برؤية ملتزمة وأحد مراجعها فضلا عن كونه أنتج وأخرج مجموعة من الأفلام بتعاون مع كثير من الأقطار الإفريقية منها المغرب طبعا).
وكذا جائزة لجنة التحكيم الخاصة وجائزة الإخراج والسيناريو وأفضل دور نسائي ودور رجالي وأفضل دور ثاني نسائي ورجالي.

 

“مصطفى المسناوي” رئيس لجنة التحكيم

إعادة الاعتبار للنقد السينمائي بالمغرب

يترأس لجنة التحكيم، هذه السنة، أحد الأسماء البارزة في الحقل السينمائي المغربي، وهو الناقد والباحث والقاص والسيناريست الأستاذ مصطفى المسناوي الذي واكب بدوره حركة النقد بالمغرب، منذ السبعينات، بالكتابة والتنظير والمشاركة الفعالة. كما يتمتع بنزاهته الفكرية واستقلاليته في مواقفه إذ جمعتنا مناسبات عمل كثيرة حيث اختبرت الرجل عن كثب فأعلم ما أقول وأكتب. وبالتالي سيحضر النقاش السينمائي ومرجعياته بكثافة بين أعضاء لجنة التحكيم. علما أن الأستاذ مصطفى المسناوي شخصا منفتحا على جميع الأفكار وليس متزمتا تُجاه الآخرين مهما اختلف معهم ولا يفرض رصيده المعرفي عليهم.. يعشق النقاش والجدل المثمر للفكر السليم، وسترافقه في لجنته أسماء من أقطار مختلة تمثل مختلف الحساسيات السينمائية في الإخراج والإنتاج والتمثيل.
إن اختيار ناقد سينمائي على رأس لجنة التحكيم هو إعادة الاعتبار لهذا الفعل السينمائي الذي ميعه البعض، ورسالة من رئيس مؤسسة مهرجان السينما الإفريقية والمدير العام للمركز السينمائي المغربي والأب الروحي للثقافة السينمائية بالمغرب الأستاذ نور الدين الصايل بضرورة التفكير في دعم هذا الجانب ليواكب ديناميكية السينما المغربية بما لها وما عليها.
إذ أن الناقد والصحفي المتخصص والمؤرخ السينمائي والباحث العلمي ركائز أساسية في إنتاج المعرفة السينمائية وتداولها من خلال الأفلام أساسا وتأثيرها على تحولات المجتمع ضد كل تزمُّت ضد الصورة.
إنها هدية جميلة يقدمها الأستاذ نور الدين الصايل إلى النقاد من خلال مصطفى المسناوي ويعبر عن مدى احترامه لهم. فمن يا تُرى سيفهم مضمونها ويلتقط هذه الإضاءة في سماء السينما المغربية ويعمل على ترجمتها بالرقي بالفكر النقدي المغربي؟

يحتوي برنامج المهرجان على أنشطة لا تقل أهميتها عما سبق. نذكر منها الندوة المركزية حول السينما الإفريقية من خلال تجربة المركز الإفريقي للسينما والسمعي البصري بدكار (السنغال)؛ وهذا تأكيد جديد حول ما قلناه بالتفكير الإفريقي في روح المؤسسة الجديدة المنظمة لمهرجان السينما الإفريقية.
 يشارك – في الندوة – سينمائيون وأطر تنتمي للمركز وللمؤسسات الرسمية والمدنية كوزارة الثقافة السنغالية، وسيديرها الأستاذ نور الدين الصايل بصفته رئيس مؤسسة مهرجان السينما الإفريقية بـ “خريبكة” والمدير العام للمركز السينمائي نظرا لما لهذه الندوة من أهمية في التعاون الإفريقي أو بصيغة السياسة التعاون “جنوب – جنوب” سيسفر عن صورة إفريقية جديدة مستقلة عن ضغوطات إنتاج الغرب وشروطه المجحفة أحيانا.
وبنفس الروح والقوة والعزيمة سيتم تكريم المخرج / إيدريسا ويدراوغو من بوركينا فاصو، الذي زار مدينة “خريبكة” مرارا وشارك بأفلامه الجميلة، ليعترف له سكان المدينة بالجميل؛ وسيُكرم أيضا المخرج والممثل المغربي / حكيم النوري بحيث سيتم عرض بعضا من أفلامهما.

وككل سنة، ينتظر شباب المدينة ونواحيها وأيضا القادمون من مدن بعيدة لحظة انعقاد المهرجان بكثير من الشوق حتى يتسنى لهم مشاهدة الأفلام طبعا، ولكن أساسا للمشاركة في ورشات التي تتيح لهم إمكانية الاقتراب أكثر إلى فنون السينما واستيعابها بتأطير من محترفين في المجالات المقررة وهو ما يترك لديهم انطباعا جد إيجابي فيتورطون ورطة جميلة في عشق فن السينما.
وإلى جانب هذه الفقرات نجد أيضا عروضا موزعة على فضاءات أخرى للمدينة ومعرضا فوتوغرافيا سيُقام طيلة مدة المهرجان، يؤرخ لهذه التظاهرة من خلال ملصقاتها ورؤساء لجن تحكيمها والأفلام الفائزة في الدورات السابقة وكذا بعض الوجوه السينمائية التي رافقته في إحدى محطاته أو جميعها من بينهم كل من “عصمان سمبين” و”الطاهر شريعة”.
كما يحتضن المهرجان جلسات حول الإصدارات السينمائية الجديدة سواء التي تنشرها الجمعيات أو الأفراد وهي جلسات احتفائية وتعريفية أكثر مما هي قراءات نقدية ودراسات فيها هي نفسها؛ فمن الأفضل أن يتم تطوير هذه الفقرة في شكلها ومضمونها إذ تحولت إلى لحظة جامدة وهامشية في فعاليات المهرجان ولا تضيف له جديدا يُذكر خاصة وأنها لا تتناول السينما الإفريقية.
أما اللحظة القوية في المهرجان والممتعة فيه فتتجلى في لياليه السينمائية التي تمتد إلى ساعة متأخرة في الليل أو بعبارة أصح إلى صباح اليوم الموالي حيث النقاش الحرّ حول السينما بعفوية مُنظمة وبحضور السينمائيين ومختلف الفئات. 

ملصق فيلم الرجل الميثالي

لسوء الحظ لم تنته بعد المعارك النضالية التي يخوضها المناضلون السينمائيون الحقيقيون في مهرجان “خريبكة” للسينما الإفريقية إذ بمجرد ما يحققون انتصارا ما يجدون أمامهم أو على هامشهم من يسعى للنيل منهم بشتى الأشكال عوض المساهمة بالرقي بالمهرجان من داخله كإرث سينمائي مشترك خاصة وأنه يتطور نحو الأمام وليس جامدا أو يتخلف إلى الوراء.
لا يأتي إزعاج فعاليات مهرجان السينما الإفريقية من خارج محيطه فقط بل أيضا من عمق نفس الفضاء بحيث تستفيد من النجاحات التي حققها المهرجان للمدينة لكي تجعل منها انتصارا لها وتستغل أيضا إلتباسا في إسم المدينة والسينما وصفة المهرجان حتى تسرق أضواءه أو تقتات منه؛ وهذا في حد ذاته يستحق موضوعا مستقلا لمناقشته بالنقد والقراءة.


إعلان