“ماري والعالم الجديد”
الجمال المتفجر للطبيعة في مواجهة قُبح وقسوة الحياة
هناك في بلد يعوم على بحر من النفط تضطر امرأة شابة إلى التقاط رزقها من بين أكوام القمامة. تقوم بتجميع الزجاجات وعلب الصفيح الفارغة لتعول نفسها وتُسدد احتياجات ابنتها المراهقة. إنها “ماري” بطلة الفيلم الفنزويلي “ماري والعالم الجديد” للمخرج “جورج ووكر توريس” الذي حاول فيه أن يرتاد أماكن مغايرة بحثاً عن أناس سقطوا في بحر النسيان لاعتبارات شتى قد تكون سياسية أو ثقافية أواجتماعية أو دينية أو حتى إقتصادية.
ربما لذلك وربما لأسباب آخرى في مقدمتها الإحساس القوي بتلك المرأة الشابة وبمأساتها المفجعة جاء هذا الشريط الوثائقي من بين أهم الأفلام التي شاهدتها في الآونة الأخيرة.
مخرج الفيلم هو كاتب السيناريو، وهو ذاته المصور والمنتج، درس الإخراج السينمائي في مدرسة “لا فيميس” في “باريس”؛ نال منحة دراسية للحضور في معهد الفيلم الأمريكي في “لوس أنجلوس” لدراسة كتابة السيناريو، أخرج وكتب العديد من الأفلام القصيرة، واختيرت أفلامه لعدة مهرجانات سينمائية حيث نال مختلف الجوائز: “ماري والعالم الجديد” هو أول أفلامه التسجيلية. من أفلامه كمخرج “لا بيير” 1997، و”أثناء الطريق” 1997، و”الليل الدائري” 2000.
في بداية الفيلم نسمع صوت امرأة تقول في سعادة: انظروا كم هى جميلة.. أترون كم تبدو وكأنها قطعة من الجنة.. إنها قطعة من “فنزويلا”، ومن “ألمانيا” أيضاً، أترون الكنيسة والمقابر، والخضرة والجبال.. إنها قطعة من السماء، قطعة من الجنة.” ثم يأتي صوت راوي الفيلم ليخبرنا أن هذه لقطات مُصورة بكاميرا منزلية للهواة في عام 1991؛ ثم يبدأ في حكي قصة آخرى.
قصة مجموعة من “الألمان” دفعت بهم بلادهم في الشمال لكي يُهاجروا إلى أقصى جنوب الكرة الأرضية وتحديداً “فنزويلا” سنة 1843.
هناك في تلك المنطقة النائية من الجبال أقام 369 ألمانيّا، وعدهم المسئولون في بلادهم بأن الجنة موجودة هناك في تلك القطعة من فنزويلا، بأنهم سيجدوا هناك بيوتاً ومزارع وحياة موسومة بالرفاهية، لكنهم عندما وصلوا إلى تلك القطعة النائية المعزولة من “فنزويلا”، لم يجدوا سوى الغابة.. حاولوا أن يعيشوا.
بعد سنة لم يبق منهم سوى 130 فرد، ماتوا جوعاً وبرداً؛ رغب الناجون في العودة إلى “ألمانيا” لكن زعيم الجيش جاء وأرغمهم على البقاء بالقوة؛ لمدة 100 سنة لم يكن هؤلاء الألمان قادرين على الإختلاط بأحد من أهل “فنزويلا”، حتى نجحوا في إقامة طريق وشوارع فبدأوا في ممارسة وامتهان التجارة.
كان هؤلاء الألمان يأملون في حياة أفضل لذلك جاءوا إلى “فنزويلا”، لكنهم تُركوا في الجبال. عاشوا هناك، منعزلين عن العالم الخارجي.
ظلوا مرتبطين ببعض فقدروا على أن يستمروا ويُواصلوا.
.. أليست قصة مثيرة.. ألمان نُسيوا في الغابة، ليعيشوا متمسكين ببعضهم، بلغتهم، بماضيهم، وبقطعة من الأرض.. كان ذلك هو الماضي.

هذا ما عرِفه الراوي في زيارته لبعض هؤلاء الألمان عام 1991. بعد خمسة عشر عاماً من ذلك التاريخ عاد الراوي لزيارة المكان مرة ثانية لكنه لم يجد الألمان المُسنين الذين تحدث معهم من قبل، لقد ماتوا.
وجد كل شيء وقد تغير؛ في طريق العودة رأي شيئاً آخر.. وجد “ماري” على حدود القرية. امرأة تعيش على جمع الأشياء مثل الزجاجات الفارغة وأي شيء قد يكون له قيمة من “القمامة” ثم تقوم ببيعه.
“ماري” تلك المرأة الفنزويلية ليس لديها مكان تعيش فيه سوى كوخ من الصفيح بجوار مقلب القمامة الضخم الذي تتجمع فيه كل زبالة البلد؛ تكد في عملها حتى تسطيع أن تحصل على مكان تعيش فيه مع ابنتها المراهقة التي تركتها تعيش مع صديقتها، لكن “ماري” لم تنجح في ذلك حتى الآن؛ ترفض “ماري” أن تعيش مع أمها البديلة التي قامت بتربيتها حتى لا يتحكم فيها أحد.
حكاية “ماري” مع الأم البديلة لها قصة أخرى، قصة تُروى بوجهتي نظر، لكن الأهم أن الإشارات الجسدية لكلا الطرفين وتعبيرات الوجه والعيون تحكي المخبأ خلف السطح وتفضح المشاعر الحقيقية.
طوال الفيلم يبدو التناقض صارخاً بين قسوة وقبح الحياة وبين جمال ورقة الطبيعة الساحرة. يبدو التناقض فجاً بين حب الأم ورغبتها ومساعيها الحثيثة لتقيم مع ابنتها وبين مشاعر الإبنة التي لا تحبها بل وتخجل من أمها، بين فخر الأم بفلذة كبدها وعملها باجتهاد لتُوفر لها ما تحتاج إليه من نقود وبين تجاهل الإبنة وإنكارها لأمها. يبدو ذلك جلياً في النظرات الصامتة لكلا الطرفين، في الالتفاتات الصغيرة في نبرات الصوت، في الغضب المكتوم.. في الحزن الدفين للأم.. وفي الشرود العميق.. في الضغط على الشفاه لكتم الألم.. في التنفيث عن الضيق أثناء ترتيب الأشياء أو تقطيع البطاطس.. في الإنفعالات وتهدج الأنفاس أو الضحك العصبي المفتعل، في التقاط أنفاس من السجائر متتالية.
يبدو التناقض أيضاً جلياً بين الماضي والحاضر، بين ما وصل إليه الألمان المقيمين في “فنزويلا” من حياة الرفاهية والبذخ وبين مستوى معيشة السكان الأصليين، بين الرفاهية الشديدة للألمان وبين الفقر المُدقع لأهل البلد.
الجزء الأكبر من جمال هذا الفيلم يُنسب الفضل فيه للتصوير البديع الذي قام به مخرج الفيلم “جورج ووكر توريس” تصوير الطبيعة المتفجرة بالحياة جنباً إلى جنب مع قبح الحياة نفسها.
ينبع جمال الفيلم أيضاً من قدرة مخرجه على الغوص أسفل جلد هذه المرأة الشابة ليُخبرنا ويُشعرنا بما يعتمل في أعماقها دون خطب، ومن قدرته على كشف العلاقة المعقدة بينها وبين ابنتها، ومن قدرته على أن يُخرج للسطح تلك التيارات التحتية بينها وبين طفلتها، وبينها وبين أمها البديلة، بينها وبين المجتمع، بينها وبين زوجها وأخواتها، بينها وبين صديقتها، بينها وبين زملائها في العمل في مقلب القمامة، بينها وبين ماضي هؤلاء الألمان المنسيون في الغابة.