تسجيليٌ استُبعِدَ ذات يوم من “قرطاج”
“زبد” لـ/ ريم علي
عندما مُنع الفيلم التسجيلي “زبد” من الخوض في غمار مسابقة مهرجان “قرطاج” في تونس قبل عدة سنوات (2008)، تساءل الكثيرون منا ساخرين وبمرارة تصعّدت وتحولت في أذهاننا هذه المرة إلى شكل غريب ومضحك للغاية؛ من قال إن الوحدة العربية غير متحققة؟.. من قال إنها محض خيال.. ومن قال قبل ذلك إن فكرة القومية العربية كانت مجرد وهم في عقول رجالٍ ونساء ٍ ولّى زمنهم.. وزمنهن!!
ألا تتجلى تلك الوحدة – وإن تجزأت الشعوب- بلحمة “عضوية” شديدة البأس بين أنظمة ترامت أذرعها من المحيط إلى الخليج..ألا تشترك (أو هكذا كانت) جميعها بالحسّ الأمني “المرهف” عينه.. وكأنه منبثق من تاريخ وثقافة واحدة و”موحَّدة”!..
وإلا، فما هو تفسير أن تصاب كل تلك الدول بذات المصاب!!

“زبد” يصيب هدفه
فيلم “زبد” لمخرجته السورية “ريم علي” فتح الأبواب واسعةً على الكثير من التساؤلات، حتى التي خرجت عن إطاره في الظاهر، إنْ كان من حيث موضوع الفيلم والطريقة الفنية المتبعة في معالجته، أو من حيث نجاح محاولة السفير السوري في حينها، منع إدراج الفيلم ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة، كما أعلنت “ريم”… ومن ثم قرار لجنة التحكيم الشجاع، حجب الجائزة عن كل الأفلام المشاركة رداً على ذلك.
وكما هي العادة، كان من إحدى نتائج ذلك المنع أن تم تناول الفيلم على – مستوى الكتابة عنه- من زاوية الخبر الصحفي بما يتعلق بحادثة المنع، وتوضّعت أهمية مناقشته فنياً في الدرجة الثانية، وبهذا يكون قصدٌ من المنع قد تحقق أيضاً في تغييم الصورة وإبهامها، والحدّ من ذلك النشاط الخلاق الذي لا يبدأ مع بداية إنجاز الفيلم ولا ينتهي بتناوله كتابةً: نقداً وتحليلاً ومناقشةً بعد إنجازه.
ومع ذلك، تُبيِّنُ وتدلُّ وتساعدُ في التأكيد أو النفي؛ تلك الحادثة التالية على صناعة الفيلم، وتعين في الإضاءة على مكامن القوة الفنية وجدواها بعيداً عن المباشرة التي تسمى تجاربا “حديثة” أخرى لم نسمع عنها حادثة مشابهة كما جرى مع “زبد”.. ومخرجته “ريم”.

إذاً، أثار الفيلم حفيظة الرقيب، مع أنه لم يتطرق صراحة إلى الموضوع “الحساس” (الذي يهمه) حتى الدقيقة الخامسة عشر من دقائقه الاثنتين والأربعين، والمعلومات المقصودة إنْ هي إلا عبارات تَرِدُ على لسان “محمد” أخ بطلة الفيلم “سهام” وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة والمشكلة في قواه العقلية؛ حيث يسرد بعض تفاصيل اعتقال أخته فيما مضى، ويذكر السبب من وجهة نظره، السبب الصعب على أخته ذكره أو البوح به بسهولة، كما ظهر جلياً من خلال تعابير وجهها في عمق الكادر وهي تستمع إليه في نفس اللحظة مندهشةً: لأنها شيوعية.
ومن هذه الزاوية إنما يصبح “محمد” الراوي الصريح، بطلاً مضمراً للفيلم، قريناً من نوع خاص للبطلين “الصريحين” إسمهان وزوجها، بطلا الاعتقال والمعارضة باهظة الكلفة في مجتمعٍ قاسٍ لا يزال يصارع “ذاته” للخلاص من تلك القسوة، ومن مفاهيم اجتماعية تضيق الخناق على أصحابها، وتضعهم في ذروة من ذرى اللا توازن النفسي، ليس محمد الممثل الوحيد له.
محمد يسرد ويكشف ويعري على طول الفيلم – وخصوصاً في أول ربع ساعة منه- تاريخاً ليس رسمياً فقط ولا يخص القمع والاعتقال والعنف بأشكاله الرسمية المباشرة فحسب؛ لقد تركت “ريم” لنفسها حرية ملاحقة الحقيقة وتتبعها في كافة المستويات والتفاصيل وقد وقعت على صيدٍ ثمين يتمثل برواية محمد للأحداث، ليفصح عن تاريخ العائلة والأب القاسي، أبٌ أراد فيما مضى حرق البيت بما فيه والذي أشبع ابنه ضرباً كما الكثير من الشخصيات المضطهِدة لـ “محمد” التي ذكرها بالاسم والمنتمية لتلك البيئة وصولاً إلى أستاذه “العصفور” الذي طرده من المدرسة، واصفاً إياه بالعصبي و”القبضاي” والقوي؛ ولا يفوت “محمد” أن يذكر وقائع النهاية البائسة لوالده “الديكتاتور” و”الحفاضات”.
كما تركت ريم لنفسها حرية التحليل وإظهار رؤيتها الخاصة لواقع الشخصيات ووقائعها، تمكنا من الغوص أكثر فأكثر في دواخل تلك الشخصيات، من خلال التحكم الموزون إيقاعياً بالمونتاج والمكساج..، ومن خلال لقطات موحية لأشياءِ منزل إسمهان وزوجها وأولادها، مثل “الغسّالة” وانعكاس وجه إسمهان على زجاجها وسماعنا صوت دورانها دون أن نراها في لقطات أخرى.. بتجزئة الحكاية وتوزيعها على مدى ثلثي ساعة، بسماعنا لما يرويه “محمد” كصوتٍ داخلي في مشاهد يبدو فيها صامتاً مقطوعاً عن العالم الخارجي ليفاجئه صوتٌ ما أو حركة ما يعود بها إلى التفاعل مع الواقع من جديد..؛ بوضع عدة لقطات متفرقة لـ “محمد” باحثاً من بين المحطات، عن محطات أجنبية في جهاز الراديو متجاوزاً المحلية منها..
قبل أن نعلم في مقاطع متأخرة من الفيلم أن مشروعَ هجرةٍ إلى كندا تقررها أسرة إسمهان كحلٍ وحيد للتعامل مع مناخٍ ضيَّقَ على أهله حدَّ الاختناق.. هوَ “محمد” الضمير المستتر الذي قال بهيئته المضطربة، وكلامه المتلعثم الصعب الفهم، كلَّ شيء في النهاية وصولاً إلى “فضحٍ” عام أصاب الرقيب في مقتل..
محمد وكما ظهر في ختام الفيلم يمشي وحيداً مبتعداً وصوت ضحكته الساخرة يقرعنا بمرافقة أغنية كخلفية لا تنتمي إليه.. هوَ الإنسان السوري الباقي في البلد “رغماً عنه” وقد فشل في إيجاد “المحطة الأجنبية” أخيراً.
ملاحظة: إسمهان كانت تعمل بإندفاع حتى قرار الهجرة في مجال محو الأمية.