هل قرصنة الأفلام ظاهرة عالمية ؟
من بين إحدى الندوات الكثيرة التي نظمّها “سوق دبي السينمائي” في إطار الدورة الثامنة للمهرجان عام 2010، كان هناك واحدةً بعنوان “عينٌ على السينما المصرية”، شارك فيها عدد من السينمائيين، والنقاد، ومنهم الناقد المصري”علي أبو شادي”، ومن بين المُداخلات تحدث عن قرصنة الأفلام، وأشار بأنها “ظاهرة عالمية”.
عادةً، لا أترك مثل هذه الأفكار تتسرّب، وتنتشر بدون التصدي لها، وخلال بعض الدقائق الممنوحة في أيّ ندوة، أوضحتُ بأنّ “عولمة القرصنة” تعميمٌ جاهزٌ لا يرتكز على معلوماتٍ صحيحة، وهي بالأحرى “ممارسةٌ عربية” بامتياز، وبنسبةٍ تختلف من بلدٍ إلى آخر، وفسرتُ، بأنها غير موجودة في فرنسا (على الأقلّ) انطلاقاً من معرفتي بكلّ تفاصيل المشهد السينمائي فيها، وآليات حماية حقوق الملكية الأدبية، الفكرية، والفنية.
اليوم، أنتهزُ هذه القراءة “التبسيطيّة” للحديث بإسهابٍ حول هذا الموضوع بهدف إثارة النقاش، ومحاولة تصحيح أفكاراً بريئة في ظاهرها، خطيرة في محتواها، وهي بشكلٍ، أو بآخر، تمنح مبرراتٍ للقرصنة، وتعتبرها مخالفة مشروعة، والحقيقة مختلفة تماماً، إنها ترتبط تحديداً بماضي، وحاضر السينما العربية، إنتاجاً، توزيعاً، وثقافةً، وتُعتبر حصيلة فسادٍ عام، يشارك فيه المواطن، والسلطة بدرجاتٍ متفاوتة (كما الحال مثلاً عندما نُبرر الرشوة، مقتنعين بأنّ المُرتشي المسكين لن يعيش حياة كريمة بدونها، كما ينطبق الأمر أيضاً على السرقات المُتبادلة بيننا في معظم مجالات الحياة اليومية)، وهنا، سوف أتحدث عن فرنسا نموذجاً (بالإمكان تعميمه على البلدان الأوروبية الأخرى).
بدايةً، يجب التفريق بين ممارستيّن تختلفان في أغراضهما، وأهدافهما :
ـ نسخ فيلم من دعامةٍ إلى أخرى مماثلة (من DVDإلى DVD)، أو من وسيلة بثٍ مرئيّة إلى دعامةٍ رقمية (من التلفزيون، أو الكمبيوتر إلى DVD)، وذلك بغرض الاستخدامات الشخصية البحتة (مُشاهدة، أو اقتناء)، وبدون دوافع تجارية، أو تخريبية.
وفي هذه الحالة بالذات، يمكن تبرئة المواطن الفرنسي (والأوروبي بشكلٍّ عام) من أيّ شبهةٍ قرصنة ومن المفيد أن نعرف، بأنه عندما يشتري الأقراص الرقمية الفارغة، وأجهزة “الهارد ديسك”، فإنه يدفع ضريبتيّن، الأولى خاصة بالاستهلاك (19.6%) تتحول إلى الخزينة العامة، وأخرى (1.10 يورو للقرص الواحد، وما بين 10 و50 يورو للهارد ديسك حسب سعته) تعويضاً عن الخسارة المُترتبة عن عمليات النسخ الخاصة، تستقطعها إحدى مؤسّسات حقوق الملكية الفنية SDRM (شركة إدارة حقوق النسخ الميكانيكي).
أما عن نسخ الأفلام من الأنترنت، فقد أصبحت بدورها ممارسةً خطيرة تُعرّض المُخالفين لعقوباتٍ قانونية، وقبل تطبيقها كان البعض ينسخها، ويضعها في مواقع خاصة كي تصبح متاحة لآخرين، تماماً كما يفعل المغرمون بالشبكات الاجتماعية عندما يضعون في صفحاتهم روابط سمعية/بصرية لأغنيةٍ، أو مشهد من فيلم بدون الإدراك بأنهم يتجاوزن رغبة المؤلفين، وحقوقهم.
كما عمدت السلطات الغربية ـ التي تدرك مصالحها، وتدافع عنهاـ إلى تقليص هذه الممارسات، والحدّ منها، وذلك عن طريق قوانين، وتشريعاتٍ، بالإضافة إلى الجوانب التعليمية، التثقيفية، والتربوية.
من جهةٍ أخرى، أصبح مستخدمو الأنترنت مراقبين، ويكفي محاولة، أو أكثر لتحميل فيلم ما كي يستلم أحدهم تحذيراً، وإذا تكررت ممارساته، تطبق عليه خطوات عقابية، تبدأ من قطع الخدمة لفترةٍ معينة، وتصل إلى غرامات مالية مرتفعة.

وفيما يتعلق بالقرصنة التجارية، لن نعثر في فرنسا على مكانٍ واحد يبيعها سرّاً أو علناً، ماعدا تلك المحلات التي يديرها مهاجرون عرب جلبوا معهم هذا النشاط (الذي بدأ في البلاد العربية مع ظهور الأشرطة المغناطيسية الخاصة بتسجيل الموسيقى، والأغاني، ومن ثمّ الصورة والصوت)، ويكفي أن يحصل البائع على فيلم واحد، حتى ينسخ منه ما يشاء، وكانت هذه التجارة مربحة جداً استفاد منها الكثير على حساب الفنانين، والصناعة السينمائية العربية التي لم تكن تعي أصلاً بأنها انتهاكات لحقوقهم، وربما كانوا سعداء بها، فقد كانت، وما تزال، وسيلة لانتشارهم، وشهرتهم، ولكن، مع إمكانية استقبال المحطات التلفزيونية العربية، تقلصت نشاطات هذه التجارة في فرنسا، وهي في طريقها إلى الاختفاء بعد أن أصبحت الأفلام العربية متاحة للجميع.
باعتقادي، كانت السلطات الفرنسية تتساهل مع هذا النوع من المخالفات، وربما بسبب محدودية تأثيرها على اقتصاديات السينما الفرنسية، ومن ثمّ صعوبة القضاء على ممارساتٍ متأصلة في العقلية العربية .
ومن يعيش في فرنسا، أو يزورها يوماً، سوف يلاحظ انتشار مواطنين قادمين من بعض البلدان الآسيوية (الهند، باكستان، وبنغلاديش..) يقفون بجانب محطات المترو، أو في ممراتها، يبيعون أفلاماً أجنبية بأسعارٍ زهيدة جداً، وهم في معظمهم مهاجرون بدون أوراق رسمية، أو من طالبي اللجوء السياسي، أو الإنساني، يمارسون تجارة غير مشروعة، وفي السوق السوداء بعيداً عن المنظومة الاقتصادية (ضريبة الاستهلاك، ضريبة الدخل، الضمانات الاجتماعية…)، ويتاجرون بأفلامٍ فرنسية، أمريكية، وأوروبية حديثة الإنتاج، وبعضها يُعرض في الصالات التجارية، نسخوها بأنفسهم، أو يبيعونها لصالح قراصنة محترفين، ومهما كانت العوائد التي يحصلون عليها قليلة، إلاّ أنهم يستفيدون في نفس الوقت من مساعداتٍ تُمنح لهم (تعويضات البطالة، الضمانات العائلية، السكنية، والصحية…)
من المؤسف إذاَ الإشارة بأنّ المهاجرين الأجانب، ومن جنسياتٍ محددة، هم الذين اختاروا “القرصنة التجارية” مهنةً لهم، وهؤلاء غالباً لا يدركون خطورتها، ولا يعرفون أصلاً بأنهم يتاجرون بأعمالٍ سينمائية ليست ملكاً لهم، أو ينتهكون حقوق المؤلف، ولا يعدو الأمر، بالنسبة لهم، أكثر من عملٍ يرتزقون منه عن طريق بيع بضاعة زهيدة التكاليف، وغير قابلة للتلف.
بينما لن نجد محلاً واحداً يبيع أفلاماً فرنسية، أوروبية، وأمريكية مقرصنة، والأسباب بسيطة للغاية:
– يتلقى الفرنسي، ومنذ طفولته، مروراً بمراهقته، وشبابه، وحتى شيخوخته، ثقافةً عامة يتعلم من خلالها الفوارق الجوهرية بين المُشاهدة المنزلية، والجماعية من النواحي الإنسانية، الاجتماعية، الفنية، والاقتصادية.. وهي لا تمنعه من مشاهدة الأفلام عن طريق القنوات التلفزيونية، إصدارات الفيديو، وأيّ وسيلة بثّ مجانية، أو مدفوعة.
– يقضي الفرنسي معظم ساعات يومه في العمل، ويعود إلى بيته، يأكل، ينام، يرتاح، ويتفرج على الأفلام أيضاً، ولهذا تُعتبر طقوس الذهاب إلى صالات السينما بالنسبة له نشاطاً اجتماعياً، نفسياً، ثقافياً، تربوياً.. وهو يعرف بأنّ الأفلام التي تُعرض في الصالات، جديدة، أو قديمة، لن يشاهدها كما يشاء عن طريق القنوات التلفزيونية المحكومة بالمُشاهدة العشوائية على عكس ما يحدث في حالة رغبته في مشاهدة فيلم معين في صالة سينمائية.
– يدرك الفرنسيّ بأنّ الأفلام ليست سلعة استهلاكية، ولا تسليةً عابرة، يشاهدها كما يقرأ كتاباً، يزور معرضاً، يسمع موسيقى، أو يشاهد مسرحية (هل نقرأ كتاباً كي نتسلى؟).
ولكن، دعونا نفترض بأنّ تجارة الأفلام المُقرصنة موجودة في الأسواق الفرنسية، وفي هذه الحالة يتوّجب علينا الافتراض أيضاً بأنّ التاجر الفرنسي لن يبيعها بأسعار زهيدة (كما يفعل الباعة الهنود بجانب محطات المترو)، لأنه ببساطة لن يخاطر في تجارةٍ غير مشروعة من أجل يورو، أو اثنين ثمناً للفيلم الواحد، وبعض السنتيمات هامشاً ربحياً؛ وأتوقع بأن يبيع الفيلم المنسوخ بحوالي خمسة يورو، وفي هذه الحالة ـ الاحتمالية أيضاً ـ لماذا يشتري المتفرج الفرنسي فيلماً منسوخاً بهذا الثمن، بينما يستطيع مشاهدته في صالة سينمائية بالقرب من بيته بمبلغ يتراوح ما بين 5 و9 يورو، وعن طريق اشتراكٍ شهريّ يُعادل ثمن وجبة غداء، أو عشاء في مطعم متوسط (20 يورو)، بإمكانه مشاهدة ما يحلو له من أفلام في معظم صالات فرنسا، بلجيكا، وسويسرا.
وهناك عوامل عديدة أخرى تجعل الفرنسي يمتنع عن شراء بضاعة مسروقة، فهو يدرك خطورة القرصنة، ويعرف بأنّ ميزانية فيلم تصل إلى الملايين، بينما لا يكلف القراصنة أكثر من أسطوانة رقمية فارغة، وبعض أجهزة النسخ، كما يعي ضرورة مساهمته في تنشيط الدورة الاقتصادية.
ولهذه الأسباب، وغيرها أؤكد وأنا مرتاح الضمير، بأنّ “القرصنة التجارية” غير موجودة في فرنسا، ولحسن الحظ، ليست “ظاهرة عالمية”.