الحقيقة ونصفها في أفلام “روبرت فلاهرتي” الإنسانية

في واحدة من القصص التي تم كشف النقاب عنها خلال العام الماضي، نجد المخرج الأميركي “روبرت فلاهرتي” يسطر حكاية يقول أن صيّاداً من الإسكيمو رواها له حين التقى به في أحد الأسواق. 
قال الصيّاد، وأنقل هنا ما ورد موجزاً إذ تمتد الحكاية لأكثر من عشر صفحات في المجلة التي نشرتها، أنه قرر وعائلته الكبرى، من زوجات وأولاد وزوجات أولاده وأولادهم وكلابهم جميعاً، الرحيل من الموطن الذي كانوا يعيشون فيه وذلك بعد كثير من النقاش.
 فالبعض منهم لم يكن مع هذا الرحيل، عارضه لأن أحداً لا يعرف ما الذي سيؤتيه ذلك،  لكنهم في النهاية استجابوا للدواعي بعدما أخفقوا في إيجاد الطعام اللازم لهم ولكلابهم التي أخذت تنحل وتتساقط ميّتة بفعل الجوع؛ تلك الكلاب، يقول الصيّاد: كانت تُطعم للكلاب الحيّة لعلها “تسند بطنها”؛ لكن خطر الجوع بقي ماثلاً والصيد لم يعد متوفراً ما استدعى قيام الرحلة.
يكمل الصيّاد فيقول أنه وصل إلى الساحل بعد عاصفة ثلجية كبيرة ومن هناك استقل وأفراد عائلته الواسعة قاربين وانطلقاً صوب موقع تردد أنه جزيرة أخرى يتوفر فيها الطعام والماء؛ الرحلة استغرقت بضع أيام وقبل الوصول غرقت إحدى المركبتين بمن فيها وماتوا.
الصيّاد ومجموعته وصلوا إلى اليابسة البيضاء حيث وجدوا أمامهم أرضاً قاحلة، لكن وجودهم عند الشاطيء جعلهم يقتاتون من طيوره وأسماكه والحيوانات البرمائية التي عليه؛ ثم بدأ التقشّف مرّة أخرى، وعانى الجميع من اختفاء الطعام من جديد، ومن عواصف أودت ببعض الأفراد ما دفع الصياد ومن بقي من عائلته إلى العودة من حيث جاؤوا.
عند وصولهم إلى الساحل حيث سوق البلدة التقى بـ “روبرت فلاهرتي”، الذي يقال عنه سيّد السينما الوثائقية وأوّل من عمل لها وقصّ له ما حدث له.

طبعاً لا دلائل على أي شيء من هذا، لكن لماذا يفبرك صيّاد مأساة كهذه إذا لم تقع معه؟ “فلاهرتي” لم يشك فيها ونقلها بأسلوب القصّاص نقلاً عن الصيّاد، لكن ليس القصّاص الروائي، بل القصّاص التسجيلي، ذاك الذي يرصد الأحداث بتفاصيل ويؤمها كأحداث واقعية.
 تماماً كما سرد المخرج أفلامه الوثائقية التي دار بعضها في مجاهل الإسكيمو وولاية ألاسكا ناقلاً شريحة حياة كانت بالغة الغرابة. فإذا ما كانت الوثائقيات اللاحقة بكاميرات مخرجين آخرين نقلت الصحاري العربية والغابات الإفريقية والمجاهل اللاتينية، فإن ما خصّه “فلاهرتي” هنا هو الحياة فوق البساط الأبيض في تلك الصقاع البعيدة حيث اختار ذات يوم قبل مئات السنين، أو ربما ألوفها، شعب (أو شعوب؟) العيش هناك مقحما وسيلة تأقلم ناقلاً إلى غير الشبه الكامل بين الإنسان والحيوان، فالدب لا يستطيع العيش في الصحراء، ولا الجمال تعيش في الصقيع القطبي.
 لا النخيل ينمو في الدول الإستوائية، ولا غاباتها تعيش على أطراف البحر المتوسّط، لم لا يكون هذا حال البشر أو بعضهم على الأقل؟

أنجز  “فلاهرتي”، الذي وُلد سنة 1884 ومات عن عمر يُناهز الـ 67 سنة في الثالث والعشرين من      تموز/ يوليو  من سنة 1951؛ أنتج فيلمه الأوّل المعنون بـ “نانوك الشمال” سنة 1922 والذي ما إن تشاهده  لابد أن ينتابك السؤال حول ما الذي حدث لتلك البيئة ولبشرها أجمعين، وأن تلاحظ عالماً بكامله اختلف عما نعيشه اليوم كمن لو أننا غيّرنا الكوكب الذي نعيش فوقه.
 كنا فوق “الأرض- 1” وأصبحنا فوق “الأرض – 2″، بلغة صانعي الخيال العلمي.
كان “فلاهرتي” طمس في ثلوج الألسكا قبل تصوير هذا الفيلم الطويل (نحو ثمانين دقيقة) ببضعة أشهر حين جاء ليصوّر فيلماً قصيراً لصالح إحدى شركات المناجم؛ لكن إذ عاد لتحقيق هذا الفيلم عاد ليبقى راغباً في نقل الحياة كما هي فيما يُعتبر أول فيلم وثائقي في العالم.
لكن هذا الإعتبار قد لا يكون صحيحاً لأننا بذلك نبخس الأفلام السابقة له، التي قامت على تصوير فعل واحد ما من دون خيال أو رواية، حقها؛ فعلى بساطة تكوين “وصول القطار إلى المحطّة” أو “مغادرة القطار القدس” أو “عرب سويسرا”، وكلها أفلام نصّت على لقطة طويلة واحدة خلت من أي إدارة لمن يظهر فيها أو من طرف لحكاية، هي أفلام وثائقية أيام لم يكن هناك من ينعتها بذلك.
بالنسبة لـ”فلاهرتي”، فإن الغاية كانت تصوير عائلة الصيّاد نانوك لمدّة عام واحد، والفيلم يتابعه وأفراد عائلته في حياتهم داخل البيوت الثلجية تلك وخارجها.
 

يرصد عاداتهم.. يقف على طريقتهم في الحياة ويلحظ كيف يصطادون وماذا يفعلون بصيدهم ولا يغفل عن إظهار قدر اعتمادهم على كلابهم ورعايتهم لها.

هذا كلّه جميل وموح لولا أن المشاهد إذا ما كان قرأ سابقاً عن الفيلم، فإنه من المحتمل أنه قرأ أيضاً عن أن ليس كل ما يشاهده هنا منقول كما هو. 
المثال الأكثر إنتشاراً في هذا الصدد هو ما قيل من أن المرأة التي تم تقديمها على أساس أنها زوجة “نانوك” لم تكن زوجته فعلياً؛ ولا يجد الواحد منّا بدا من طرح الأسئلة حيال ذلك الإدعاء: لماذا جلب “فلاهرتي” ممثلة لكي تبدو كما لو كانت زوجة “نانوك”؟ ماذا عن زوجته الحقيقية؟ لكن في المقابل، هل هناك دخان من دون نار؟
من ناحية ثانية، تتبدّى لك بعض المشاهد كما لو كانت مرتبة، ومن السهل هنا ترتيب تلك المشاهد لتبدو حقيقية، فالمخرج يستطيع أن يطلب من أحد أبناء “نانوك” التسبب في معركة بين كلبين وذلك لتصويرها، أو من “نانوك”، الذي ربما عاد من الصيد لتوّه، أن يذهب إلى نقطة أخرى ويحفر حفرة في الثلج لصيد السمك كعادة أبناء قبيلة “إنويت” التي ينتمي إليها.
 لكن ذلك، وبقدر محدود، أمر لابد منه، صحيح أنه ينحو بالوثيقة صوب التسجيل، لكن أليس من المعادي للفيلم أصلاً مجرّد تصوير الأمور كما تقع حتى ولو لم تقع بإيقاع وتوال مطلوبين؟

ما يمنحنا إياه هذا الفيلم هو بادرة “فلاهرتي” لتصوير حالات معيّنة تكشف أن ما استرعى انتباهه في المقام الأول هو غرابة العيش وسط عناصر الطبيعة القاهرة؛ قوّة الإنسان ضد الطبيعة ذاتها، وفنون حياته تبعاً لمقوّماتها وشروطها. هذا لأن أفلامه اللاحقة، مثل “العصر الذهبي” و”رجل أران” الفيلمين الذي تمّ تصويرهما في مناطق متباعدة لكي تنقل المفاد ذاته.
 هذا المفاد، أو الرسالة إذا شئت، اكتسبت تطوّراً مهمّاً حين انتقل المخرج من تصوير البراري إلى تصوير المدن.
 فالمدينة في أفلامه اللاحقة في الأربعينات مثلاً، كانت محط صراع ليس بعيداً عن صراع الإنسان في البرية الموحشة: هذه المرّة هو صراع الإنسان ضد الصناعات، الروح البشرية ضد الآلة؛ وهو موضوع حيكت فيه العديد من الأفلام الروائية وغير الروائية ضد الآلة أو ضد الذين يتبنّونها.
ففي فيلمه “الأرض” سنة 1942 رأيناه يوجّه اهتمامه إلى الزراعة حينما كان الإنسان لا يزال المحور، والظروف المغايرة هي السماء التي تظلله؛ إنه فيلم جيّد وطويل النفس حول أناس الأرض وكيف يعيشون فوقها. فجأة تدرك أن المسألة عند “فلاهرتي”، زوّر بعض مشاهده في “نانوك الشمال” أم لا، هي إنسانية يتابع من خلالها حياة نابضة تعيش على كفاف، تزرع وتثمر وتقطف ولا ينالها سوى ضنّ الحياة عليها.

ـــــــــــــــــــــــ
1. Nanook.jpg    نانوك الشمال: هل هذه المرأة زوجة نانوك فعلاً؟
2. Flaherty examines.jpg    فلاهرتي بعد “نانوك” يفحص أحد أعماله
3. LandThe.jpg  لقطة من “الأرض” لفلاهرتي


إعلان