حين يصبح الفيلم ذاكرة تُقاوم النسيان
أيّام الفيلم الجزائري في الأردن..
على مسافة شهر من تجاهل القائمين على مهرجان الفيلم الفرنسي العربي، لعرض الفيلم الجزائري الفرنسي “خارجون عن القانون” للمخرج/ رشيد بوشارب – وهو ما قد أشرنا إليه في تغطيتنا حينها- افتتح هذا الفيلم (أيام الفيلم الجزائري) في عمان18-20تموز، بالتعاون ما بين الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، وزارة الثقافة الجزائرية، السفارة الجزائرية في عمان، والوكالة الجزائرية للاشعاع الثقافي، وفي انتخاب الجزائريين هذا الفيلم للافتتاح، رسالة تحمل في طياتها الكثير من بلد ليس له أن ينسى مكابداته وعذاباته مع الاستعمار الفرنسي حتى نيل الاستقلال عام 1962 بعد كفاح طويل ومرير، فالفيلم يتناول هذه الحقبة، ومشاركة الجزائريين المقيمين في فرنسا بهذا الكفاح المسلح، بينما يتذكر الجزائريون هذا الماضي، يود الفرنسيون على الطرف الآخر طمسه بقدر ما أمكن، فالإعتذار عن المجازر التي اقترفوها بحق الشعب الجزائري ليس أمرا غير وارد وحسب، وإنما لو تمكنوا لأسقطوا هذه الحقبة كلها من التاريخ، تماما كما أسقطوا مؤخرا كلمة النكبة الفلسطينية من مناهجهم الدراسية، فذاكرتهم المثقلة بالذنوب إبّان استعمارهم لبلاد كثيرة، لا ترغب بتذكر سوى أنهم ضحايا النازية، فالذاكرة الانتقائية تخفف من وطأة الإثم، بذلك يصبح مفهوما أن يتجاهل المركز الثقافي الفرنسي عرض فيلم “خارجون عن القانون” مرة أخرى، بينما ينتقي لنفس المخرج فيلم “بلديون” 2006، ليعرضه الأسبوع الماضي في برنامجه الشهري، إذ أن “بلديون” يتناول تضحية ونضال الجزائريين عندما انخرطوا في الحرب، جنبا إلى جنب الفرنسيين ضد النازية، إبّان الحرب العالمية الثانية.
مسار تجربتين سينمائيتين..

إلى منتصف خمسينات القرن الماضي تعود البداية الحقيقية لإنتاج الأفلام الجزائرية – ولا أقول هنا إنتاج الأفلام في الجزائر الذي كان سابقا على هذا الزمن- حيث كان تأسيس جبهة التحرير الوطنية الجزائرية 1954، عاملا مهما للبدء في إنتاج أفلام سينمائية جزائرية تدعم الثورة والنضال ضد الاستعمار الفرنسي، وشكّل هذا النضال الرافعة التي حملت مشروع السينما الجزائرية، وقدمت هذه المرحلة أسماء شكلت علامة مضيئة في تاريخ هذه السينما، تمكنت من إيصال أنين الجزائريين إلى العالم، كما هو الأمر مع فيلم “وقائع سنوات الجمر” للمخرج / محمد الأخضر حامينة، والذي حاز عنه سعفة “كان” الذهبية عام 1975 – وهو الفيلم العربي الوحيد حتى الآن الذي نال هذه السعفة- وقدم “حامينة” من خلاله رؤيته لمعاناة الشعب الجزائري إبّان الاستعمار الفرنسي.
من المفارق أن بداية الانتاج السينمائي الأردني، تزامن مع حقبة بداية الانتاج السينمائي الجزائري، وفي الوقت الذي كانت فيه الجزائر تناضل من أجل استقلالها وتنتج أفلاما تدفع بهذا الاتجاه، كان الأردن قد قطع 11 عاما على استقلاله عندما أنتج أول فيلم روائي طويل أردني “صراع في جرش” 1957، ورغم شغف صناع الفيلم وجهدهم الشخصي المبذول في صناعة المعدات اللازمة لإنتاج هذا الفيلم، إلا أنه لم يخرج عن كونه فيلم اكشن ضعيف فنيّا، ذو صبغة تجارية، لم تختلف عنه في السوية الأفلام القليلة التي أُنتجت على فترات متقطعة بعده، ومع تعثر الإنتاج الخاص بدأت بارقة أمل تلوح بدعم حكومي للإنتاج عبر دائرة السينما التي تم تجهيزها بكافة المعدات والبنية التحتية اللازمة، لكن ما لبثت أن وئدت هذه البارقة في مهدها بعد تحويل تبعية الدائرة الى التلفزيون الأردني عند افتتاحه، ولم ينتج عن هذه المرحلة سوى عددا قليلا من الأفلام التسجيلية، أنتج بعد ذلك وعلى فترات متباعدة، وبمجهود شخصي عدد نادر من الأفلام السينمائية الأردنية، في الوقت الذي واصلت فيه السينما الجزائرية بناء مسيرتها بإنتاج أفلام ذات قيمة شكلا ومضمونا، ومتنوعة في أساليبها رغم قلة عدد الأفلام المنتجة نسبيا، لكنها بالتأكيد تتجاوز بكثير حصيلة الأفلام الأردنية المنتجة حتى الآن والتي لا تتجاوز العشرين فيلما على امتداد ما يزيد عن الخمسين عاما، لكن مع بداية الألفية الثالثة، وثورة الديجيتال، بدأت الأفلام المستقلة ذات الميزانية المنخفضة أو المعدومة ببعث الحياة في عجلة الإنتاج الأردني من جديد، التي نأمل أن تفرز لاحقا سوية فنية جيدة أيضا.
الجمهور الأردني يكتشف الجزائر من خلال تظاهرة “أيّام السينما الجزائريّة” ..

لكن تبقى السينما الجزائرية غير معروفة تماما للجمهور الأردني، لذلك تشكل (أيام الفيلم الجزائري) فرصة جيدة للراغبين والمهتمين للتعرف على بعض أحدث إنتاجات السينما الجزائرية الروائية خلال الخمس سنوات الأخيرة، بمواضيعها المختلفة وأساليبها الفنية المتباينة، فمن “خارجون عن القانون” أحدثها إنتاجا 2010، والذي يقدم الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي للجزائر، عبر تتبع مأساة أسرة جزائرية سلبها الإستعمار أرضها وبعد عشرين عاما قضى الاستعمار على نصفها في مجزرة بمدينة “سطيف” – شرق الجزائر – العام 1945، وهي من أبشع المجازر التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي بحق الشعب الجزائري راح ضحيّتها زهاء خمسة وأربعين ألف قتيلا، فيقرر الثلاثة إخوة المتبقين من الأسرة بعد اجتماعهم في باريس أن يشاركوا في مقاومة الإستعمار الفرنسي عبر تأسيس جبهة التحرير الوطني الجزائري هناك، أما ملاحقة فرقة “اليد الحمراء” السرية لهم والتي تمارس أعمالا “خارجون عن القانون” ضد الجزائريين، صبغ الفيلم بأسلوب الأكشن وحرب العصابات، بينما فيلم “مسخرة” 2008، العمل الروائي الأول للمخرج إلياس سالم، يقدم معالجة كوميديا رومانسية لنسيج العلاقات الانسانية في إحدى قرى الجزائر الفقيرة، الذي نختبر من خلاله كيف لإشاعة ما، أن تنعطف بسلوك الناس، وكيف للحب أن يمنح دفئا خاصا، يجعل شظف العيش أكثر احتمالا، كما أن المونتاج والموسيقى والايقاع السريع، منح للفيلم حيوية خاصة.
أما “وراء المرآة” والذي تمّ إنتاجه سنة 2007، آخر الأفلانم المعروضة خلال هذه التظاهرة، جاء أقل في سويته الفنية من الفيلمين السابقين، لكناتعرّفنا عبره على تجربة نسائية جزائرية في الإخراج، وهي تجربة “نادية شرابي”، التي تقترب بعدستها من معاناة المرأة في المجتمع الجزائري الذي يجد امتداده في المجتمع العربي أيضا، عبر دراما إجتماعية تشغل فيها شخصية “سلمى” حيّزا رئيسيا، وهي الفتاة التي يغتصبها زوج أمها، ونظرا لموقف المجتمع الذي يحكم عليها بالموت ولو معنويا، تضطر أن تترك طفلها في سيارة تاكسي وتهرب إلى الشارع، لتجد أنه أيضا لا يرحم، وتوظيف المخرجة لليل والإضاءة الواقعية الخافتة، زاد من شعور المشاهد بوطأة تلك المعاناة، رغم أن الموسيقى التصويرية عملت على النقيض حيث خلقت مسافة بين المتلقي والعمل، كونها أقرب في طابعها إلى تلك التي اقترنت في ذاكرتنا بالمسلسلات السورية، وفي النهاية لم تترك لنا المخرجة أن نستنتج المقولة الرئيسية في العمل، إنما وضعتها على لسان “سلمى” وهي تخاطب سائق التاكسي الذي يعاتبها لتركها ولدها، فتقول له بما معناه من أنت لتحاكمني..؟!