قياس نسبة الفضة من أجل صناعة ديكتاتور
( السير المشينة لقدماء القادة – نيرون )
الآن ، مع هبوب رياح التغيير في العالم العربي في أكثر من مكان، تستحضر أدبيات كثيرة صور طغاة عرب، بعضهم غادر كرسيه، فأصبح في عرف هذه الأدبيات”مخلوعا”، وبعضهم مازال يقاوم بإنتظار إحراق ما يمكن إحراقه قبل أن تدق ساعة الزوال .
استحضار أسماء أخرى في هذه الأدبيات له أكثر من معنى ودلالة، إذا ما بحث المرء في معنى حضور الطاغية الروماني نيرون في السلسلة التي تدأب محطة “الجزيرة الوثائقية” على عرضها بعنوان (السيرة المشينة لقدماء القادة) في هذا الوقت بالذات، فإن الأمر يستحق عقد مقارنات ومقاربات من باب الفضول المعرفي ليس إلا.
وليس حضور هذه الأسماء بالطبع يفرض نوعا من المقارنة بين زمنين لا يمتان بصلة إلى بعضهما البعض، إلا من حيث السلوك العنفي الذي يفرضه الحاكم عبر التاريخ إن اختار أن يكون طاغية لا يرحم.
يبحث البروفيسور الأميركي “ديفيد مالوت” أمام كاميرا هذا الفيلم المثير للإهتمام، عن شخصية قريبة من “نيرون” في العصر الحديث، فيجدها في “بينيتو موسوليني”، ليس لجهة قدراته على البطش بأعدائه، والمقربين منه، شركاؤه في السلطة، أو الواقعين تحت سلطته، كما كان يفعل “نيرون”، بل لأن الحاجة إلى المسرح والجمهور وشخص منحط يقف على خشبته تكمن فيه أيضا.
بكلمات أخرى : هنا ثمة من لديه ميل للإثارة الدرامية.
أين يكمن الاعتلال في شخصية الطاغية “نيرون”؟
ربما لا يعود مُجديا في مثل هذه الحالة للإجابة على هكذا سؤال إعادة نشر سيرته الذاتية على الملأ.
ربما أضحت على كل لسان ، ولا تعود المرويات التاريخية والكتب تقف عند حد في التذكير به.
رغما أنه بحسب قانون لعنة الذكرى الذي سنّه مجلس الشيوخ في روما عقب مقتله كان يهدف إلى طرده من التاريخ، والقضاء على فكرة أنه كان حاكما، لكن المؤرخ الروماني “سايتونيوس” حرص على ألا يتم نسيانه، حتى يتعظ من سيرته طغاة مقبلون.
لم يكن نيرون ذهانيا أو مضطربا عقليا.. ليس هناك أدلة على ذلك.

حسه باستحقاق نفسه ، ورغبته العارمة بأن يحبه الآخرون دفعته ليبحث على تحسين صورته أمام من يحبه، وفوق كل ذلك لم يكن هناك دليل على اضطراب عقلي. والاعتلال يكمن بحسب البروفيسور “مالوت” في إدمانه على الجمهور، فهو بحاجة للخشبة ليؤدي دوره كما أراد أن يفعل دائما، ولهذا أقدم برأيه على افتعال حريق روما الكبير.
كانت مساكن المدينة في معظمها من الخشب وشوارعها ضيقة ما جعل الحريق ينتشر بسرعة هائلة، ويعد هو الأكثر دمارا في تاريخ روما، وقد وقف الطاغية نيرون يعزف على قيثارة ويقرأ في خراب المدينة مرثاة سقوط طروادة الهالكة.
من هو “نيرون”؟
إنه حاكم روما لمدة 13 عاما ( 37 م – 68 م )، وفي هذه الفترة حجز لنفسه مكانا بين أسوأ الحكام في التاريخ البشري.
يقول “مالوت” إن حياته كانت أشبه بفيلم يحاول أن يسوي من خلاله رغباته في الدور الذي يجب أن يلعبه كإمبراطور.
قتل على الملأ ليحصل على مبتغاه، نفى زوجته الأولى “أوكتافيا” ثم أعدمها، وقتل أخاه غير الشقيق من زوج أمه “كلاوديوس”، ثم قتل أمه “أغريبينيا”، وركل زوجته “بوبايا” وهي حامل بطفله الثاني حتى الموت.
كانت أمه من قبله، وهي الشقيقة الصغرى للإمبراطور “كاليغولا” تعتقد إن القتل هو سلوك طبيعي بين البشر، ولهذا خططت مطولا ليستولي ابنها “نيرون” على السلطة، وكانت الخطوة الأولى تكمن في الاقتراب من “كلاوديوس”، الذي وجد نفسه إمبراطورا صدفة، وتزوجت منه وهو خالها ، وبدا واضحا حينها إنها امرأة راغبة بالحصول على أي نفوذ ، وأخذت تضغط على خالها “كلاوديوس” ليضع “نيرون” إمبراطورا في الانتظار. ولم يطل الأمر بالإمبراطور الضعيف الذي لقي حتفه بعد تناوله طبقا من الفطر المسموم ، وتوج نيرون إمبراطورا، ليقوم من بعدها بقتل ابن “كلاوديوس” وهو أخوه غير الشقيق، الوريث الشرعي لعرش الإمبراطورية بدس سم نبات الشوكران في كأس نبيذ له.
وعندما أحس في مرحلة تالية بوقوف أمه “أغريبنيا” في وجه سلطته المطلقة خطط لقتلها، بترتيب فصول مؤامرة أودت بها إلى الهلاك، ويقول المؤرخ “سايتونيوس” إنه لما حضر المكلف بقتلها أخبرته أن يغمد سيفه في رحمها الذي أنجب “نيرون”، وكان لها ما أرادت.
في (السير المشينة لقدماء القادة) هناك مقياس للاستبداد، يقيم من خلاله الحاكم الإمبراطور، وفي حالة نيرون، فإنه لم يكن يقتل لمجرد الرغبة بالقتل مثل خاله “كاليغولا”.
لم يقتل من أجل المنفعة الشخصية والمصالح السياسية مثل “يوليوس قيصر”، ولكنه كان يبحث عن خيال لظله على المسرح الكبير.
وقد وجد ضالته في الإجرام المتعدد الفصول، حتى أنه بنى لنفسه قصرا مزيفا، ولم يكن لديه المال، فقام بالتلاعب بالمال الروماني من أجل القصر، وهو يعرف أن تلاعبه به سيفضي به إلى الموت عقابا له، فقد تمكن من سرقة الفضة من القطع النقدية وصك بديلا لها من النحاس المطلي بالفضة، وهذا التلاعب المتهور بنقد الدولة الرومانية لا سابق له، وقد أصبح “نيرون” خارج السيطرة تماما.
وهنا اجتمع مجلس الشيوخ لوضع خطة تهدف إلى التخلص منه، ولكن “نيرون” كان جاهزا لردّ الصاع صاعين، فيسم المتآمرين بالعار، ويمزقهم إربًا إربًا.
ولكن لن يطول الأمر به، فقد أصبح “نيرون” مطلوبا لعدالة روما، وقد تخلت عنه حاشيته، فاختبأ وقد نفذت خياراته بعد أن قتل النخبة وهدم المعابد ونهبها، وقُتل على يد عبد معتوق عن واحد وثلاثين عاما، وهو يردد :” آه أي فنان يموت الآن ؟!”.