الفنان الشهيد “ناجي العلي” في السينما العربية
في الثاني والعشرين من شهر تموز/ يوليو عام 1987 تعرَّض الفنان الفلسطيني؛ رسام الكاريكاتير الأشهر: “ناجي العلي” لمحاولة اغتيال في لندن، أفضت بعد أكثر من شهر ونيف على محاولات إنقاذه، إلى استشهاده في التاسع والعشرين من شهر آب/ أغسطس، من العام نفسه!..
شاء الفنان “ناجي العلي” أن يكون فناناً نقدياً تجاه الذات الفلسطينية، ينبّه من خلال رسوماته إلى مواضع الخلل، ويفضح مكامن الضعف والعطب فيها.. “ناجي العلي” الذي تفتحت مداركه على كارثة النكبة الفلسطينية؛ على الطرد واللجوء وذلّ العيش في المخيمات، لم يكن بحاجة إلى أية تنظيرات ليعي حقيقة أنه من قرية «الشجرة» الفلسطينية الجليلية، وليعرف أن محتلاً صهيونياً طرده منها، دون أدنى وجه حق، وأن وجوده في مخيم «عين الحلوة» جوار “صيدا” ما هو إلا وجود قسري، طارئ، مرفوض، حتى تتحقق العودة إلى قريته «الشجرة»، ووطنه فلسطين.
وعي الفتى “ناجي العلي”، الفطري، البدئي، والأوّلي هذا، كان يحتاج لطريقة تعبير إبداعية، سرعان ما اكتشفها في قدرته على الرسم، إذ وجد أن أصابعه تتقن تكوين الرسومات المعبِّرة عن الحال التي هو وشعبه فيها، فكانت جدران المخيم مرسمه الأول. ورغم أن سنوات الدراسة الأولى، وضرورات الحاجة والعمل، حاولت النأي به عن مجال الرسم، حيث كان أن درس الميكانيك، وذهب إلى الخليج العربي للعمل، إلا أن ثمة من العوامل ما دفعه للعودة إلى بيروت، والتفرغ للعمل الفني، الذي أصبح وسيلته في العيش، والنضال، والمجابهة، والتعبير.. وبدأ من خلال ذلك يؤسِّس لحضور ظاهرة فنية، نقدية، تعبر عن ذاتها من خلال الرسوم الكاريكاتورية، يمكن تسميتها ظاهرة «ناجي العلي» خاصة بعد أن توصل إلى خلق شخصية «حنظلة» الذي قال “ناجي العلي” محقاً إن «حنظلة سيبقى بعده، وسيخلد ويخلده معه»..
وبمقدار ما قام «حنظلة» بتخليد مبدعه “ناجي العلي”، فإن السينما حاولت شيئاً في هذا الصدد!..
هنا محاولة للإطلالة على ما حاولته السينما بصدد صورة الفنان الشهيد “ناجي العلي”:
«مسيرة الاستسلام».. الكاريكاتير شاهداً..
في لحظة مبكرة من العام 1981، قام المخرج العراقي المتميز محمد توفيق، بالانتباه إلى أن رسوم “ناجي العلي” الكاريكاتيرية تستطيع أن تكون مرتكزاً لبناء فيلمي سينمائي، يستطيع التعبير عن مفردات الحال السياسي؛ الأحداث والمواقف والمتغيرات والسياقات، في وقت غنيّ بالتحولات، حافل بالمتغيرات، فكان أن أنجز فيلماً وثائقياً قصيراً (مدته 15 دقيقة)، جاء بعنوان «مسيرة الاستسلام»، حققه لصالح «الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين»، وفيه يقوم المخرج محمد توفيق برصد الأحداث السياسية التي حصلت ما بين العامين 1973، و1979، أي ما بين حرب تشرين أول/ أوكتوبر، «التحريرية»، واتفاقيات كامب ديفيد، «الاستسلامية»!

من خلال إعادة بناء الرسومات الكاريكاتيرية، التي أنجزها “ناجي العلي”، يقوم فيلم «مسيرة الاستسلام» لـ /محمد توفيق، بإعادة قراءة تلك المرحلة من خلال منظور سياسي محدد، هو ذاك المنظور الذي بنته تلك الرسومات، بما امتلكته من مواقف واضحة ومحددة.. وسيستعين الفيلم بالمغني «عدلي فخري»، الذي كان أحد أبرز الفنانين المصريين الذين انتموا إلى خط معارضة الرئيس المصري محمد أنور السادات، وسياساته، وصرف عمره في النشيد للثورة ضد كامب ديفيد، ومسيرة الاستسلام.
فيلم «مسيرة الاستسلام»، محاولة سينمائية مبكرة للتعامل مع الفنان “ناجي العلي”، ورسوماته، وسيبقى للمخرج/ محمد توفيق شرف المبادرة الفكرية، كما البراعة الفنية في التعامل مع هذا الفنان الظاهرة، الذي سيتحول بعد سنوات إلى حالة شعبية عامة، كان المخرج محمد توفيق الأسبق في إلتقاطها، والتعامل معها، وإبرازها سينمائياً..
«ناجي العلي».. رؤية درامية..
وفي العام 1992، وبمبادرة من السيد: وليد الحسيني- الصحفي اللبناني المعروف- مدعوماً بتمويل ليبي، قام من خلال مجلته «فنّ»، وبالتعاون مع شركة الإنتاج السينمائي «N.B» التي يمتلكها الفنان “نور الشريف”، على إنجاز فيلم روائي طويل، حمل إسم «ناجي العلي»، إنتاجاً مشتركاً أيضاً، حيث أن الفيلم اعتمد على الطاقات الفنية المصرية، فكتب القصة والسيناريو للفيلم السيناريست المصري المعروف “بشير الديك”، وأخرجه الفنان المخرج المصري/ عاطف الطيب، وقام بأداء الأدوار نخبة من الممثلين العرب، من أبرزهم: «ليلى جبر، وسليم كلاس من سوريا، وأحمد الزين، وتقلا شمعون، ورفيق أحمد علي من لبنان، ومحمود الجندي من مصر» وفي مقدمتهم بالطبع الفنان المصري المعروف “نور الشريف” الذي أدَّى دور الفنان “ناجي العلي”..
في البداية، لا بد من الإنتباه إلى أن المخرج المصري/ عاطف الطيب هو من الفنانين المصريين المعروفين بمواقفهم الجريئة والشجاعة، التي تنتمي إلى روح حرب تشرين/ أكتوبر، والمقاومة الشعبية المصرية، والروح النقدية السياسية الاجتماعية.. وعلى هذا، فإن فيلم «ناجي العلي» لم يأت خارج السياق العام للسينما التي حققها المخرج/ عاطف الطيب، على الرغم من أن “عاطف الطيب” لم يكن في أفضل أحواله الفنية في هذا الفيلم، كما أن السيناريست البارع “بشير الديك” لم يكن في أفضل أحواله، أيضاً!.. وربما يمكننا أن نعزو أسباب ذلك إلى طغيان شخصية “ناجي العلي”، وصعوبة الارتقاء إلى تجسيد معادلاتها الفنية والدرامية، إذ أنها تبقى شخصية أكثر درامية في واقعها المشخص مما يمكن لكاتب، أو لمخرج، أن يعيد تجسيدها.
لقد أثار هذا الفيلم، وما زال، الكثير من الاعتراضات، لأسباب فنية، كما لأسباب تتعلَّق بمضمونه، إذ أنه يحمل إشارات اتهامية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتحميلها مسؤولية قتل “ناجي العلي”، في الوقت ذاته جوبه الفيلم باعتراضات مصرية، وصلت إلى الدرجة التي طالب البعض، وفيهم بعض من الفنانين والنقاد المصريين، بمنع عرض الفيلم، على اعتبار أنه حمل روحاً ومواقف نقدية واضحة ضد السياسة الرسمية المصرية، كما اعترض البعض على شخصية الشاب المصري، التي أداها الفنان “محمود الجندي” في الفيلم، وهو مما يدل على مدى الضيق الذي يحيق بالبعض، حتى من الكتاب والنقاد السينمائيين، والرسميين من الشخصيات، سواء من الفنانين المبدعين، أو من رجال السياسة.. أولئك الذين سرعان ما ينكفئون إلى إقليميتهم الضيقة، والانتصار لها، بفجاجة..
يختار الفيلم القفز بين العديد من المحطات التي مرّ بها “ناجي العلي”، في حياته الشخصية، أو المحطات المؤثرة في حياة شعبه الفلسطيني، في نكبته المستمرة، منذ العام 1948 وصولاً إلى نهايات الثمانينيات من القرن العشرين، حينما لاقى “ناجي العلي” حتفه غيلة..
ويعتمد الفيلم بنية سردية استذكارية واسترجاعية، إذ يبدأ منذ لحظة الاغتيال قبيل نهاية تموز العام 1987، في لندن، ويقوم بالعودة خلفاً (فلاش باك)، لسرد ما يراه، وينتخبه، من أحداث استغرقت قرابة الخمسين عاماً، هي العمر الذي صرفه ناجي العلي ما بين فلسطين، وطنه الأصلي، الذي طُرد منه، ولبنان البلد الذي لجأ إليه، والكويت حيث ذهب للعمل، وبريطانيا حيث كانت نهايته في قبر مهجور بارد، في مدينة الضباب!..
لم يحقق فيلم «ناجي العلي» للمخرج/ عاطف الطيب النجاح الفني اللائق، أو المطلوب، ولكنه يبقى في كافة الأحوال محاولة جادّة ونزيهة لإنشاء وثيقة سينمائيّة حول
واحد من أهم العلامات البارزة فنياً، في مجال رسم الكاريكاتير العربي، وربما العالمي، كما هو وثيقة درامية بصدد فنان أراد أن يكون معبراً عن قضيته، وقضية شعبه، ومضى إلى آخر شوط التحدي، حتى لو كانت نهايته القتل غيلة، جهاراً نهاراً.. وبدم فظيع البرود.
ناجي العلي.. فنان ذو رؤيا
ومن جهته قام المخرج العراقي المثقف/ قاسم عبد، بإنجاز فيلم تسجيلي طويل (مدته 52 دقيقة)، في العام 1999، يتحدث فيه عن الفنان “ناجي العلي”، ولقد جاء الفيلم بعنوان مباشر هو «ناجي العلي: فنان ذو رؤيا» بما يوحي أن الفيلم يريد التأكيد على أن الفنان ناجي العلي هو من الفنانين الذين يمتلكون رؤية فنية جسدها من خلال خلقه لمدرسة فنية في مجال رسوم الكاريكاتير، حققت له المكانة العالمية المرموقة على المستوى الفني، الأمر الذي وضعه على رأس قائمة رسامي الكاريكاتير في العالم، وأصبح المنهج الذي اتبعه ناجي العلي في الرسم الكاريكاتيري مدرسة لها أسهها وقوانينها، وتكاد لا تنافس.. تماماً كما كان صاحب رؤية على المستوى الوطني والقومي، يذهب بكل الجرأة والشجاعة إلى المواقف ذات الحدّ الأقصى، حيث لا مهادنة ولا مناورة ولا مجاملة!

وعلى المستوى الإنساني يكشف الفيلم عن الرؤية الفذة، التي كانت تعتمل في وجدان الفنان الإنسان “ناجي العلي”، الذي بقي إلى آخر لحظاته إنساناً بكل معنى الكلمة.. إنساناً ينتمي إلى الناس البسطاء والفقراء، الناس العاديين، في أدنى تفاصيلهم الحياتية اليومية.. لقد انتمى “ناجي العلي” إلى فاطمة وأبي العبد، وكل من يشبههم، وبقي وفياً لأبناء المخيم الفلسطيني، يعيش معهم ولهم، ولم يتخلَّ لحظة عن أحلامهم ومطامحهم في العودة إلى بيوتهم وديارهم.. ولعل هذا هو سبب اغتياله!..
مات “ناجي العلي” تماماً، كما يليق ببطل.. وتماماً، كما يليق بفنان وهب إبداعه لقول الحق، مهما كان الثمن.