العدّ الختامي لنهاية العالم!!
يدين فيلم ( العد النهائي للصفر) للمخرجة الانجليزية “لوسي ويلكير”، والذي يعرض حاليا في صالات محدودة في أوروبا، كثيرا لفيلم (حقائق غير مريحة ) للمخرج الأمريكي “ديفيس غوغينهيم”، والذي عرض في عام 2006.ليس فقط لأن الفيلم الأخير فتح الباب للسينما الوثائقية لتقديم قضايا عالمية الطابع ، تتجه إلى سكان كوكب المتاعب الذي نتشارك الحياة فيه. وأيضا للإلهام المستمر الذي مازال فيلم (حقائق غير مريحة) يثيره بين مخرجين لمقاربة مواضيع وقضايا استنفذها الإعلام اليومي والتلفزيون إلى حدّ جعل الاشتغال عليها يعد أحيانا ضربا من الشجاعة التي تقترب من الحماقة.
خاصة أن الأفلام المذكورة اختارت أسلوب الصحافة الاستقصائية الشائعة للوصول إلى غاياتها، بالتحذير من عواقب ما تقترفه حكومات أو أفراد على مستقبل البشرية ، الأمر الذي يقربها من شكل التحقيق التلفزيوني الشائع، وما تفرضه هذه المنافسة من مخرجي الأفلام في إيجاد المبررات الكافية لإنتاج أفلامهم، والبحث عن تركيبة فيلمية حادة، تثير ردّات فعل غاضبة ومحفزة لدى جمهور، متخم بالعادة بالمعلومات والصور.
وإذا كان فيلم (حقائق غير مريحة) توجه برسالته الخاصة بحماية البيئة وتحذيراته من ازدياد حرارة الأرض، والتي ربما تنهي الحياة عليها يوما ما، إلى ضمير المشاهد العادي، ودعاه إلى محاسبة أفعاله اليومية، إضافة إلى نقده الكبير للحكومات والشركات الكبرى ودورها ولامبالاتها تجاه ما يجري في العالم.
لا تحاسب المخرجة الانجليزية “لوسي ويلكير” في فيلما (العد النهائي للصفر) جمهورها؛ هي تكشف له كثير من التفاصيل، التي مر بعضها على الإعلام طوال الخمسين عاما الماضية، وتعيد ترتيبها بشكل مقنع كثيرا.
مطلقة كزميلها المخرج الأمريكي صرخات تحذير، من نهاية سريعة للعالم ، قد تحدث في أي وقت، وأسرع كثيرا من تلك التي توقعها مخرج (حقائق غير مريحة)!
تتصدى المخرجة لموضوع الأسلحة النووية، أي إلى واحدة من أكبر المعضلات في العالم؛ وإذا كان مناسبة إنتاج الفيلم تبدو أنها تفتقد “الآنية” و “الإلحاح”، الذي حمله فيلم (حقائق غير مريحة)، إلا أن المخرجة سرعان ما تفجر الفضول والخوف الكبيرين ومنذ الدقائق الأولى من الفيلم، بطرحها لسؤال: ” ماذا لو حصل الإرهابيين على الأسلحة النووية؟”، هل سيترددون في استعمالها.
لا تملك المخرجة أجوبة على السؤال، لكن الذين تحدثوا في الفيلم، أكدوا أن الإرهابيين لن يترددوا باستعمال أسلحة نووية ضد أهدافهم في مدن غربية وآسيوية.
في المقابل يجمع الفيلم قصصا عن محاولات منظمات إرهابية مثل القاعدة ومنظمة يابانية متطرفة من السنوات العشر الأخيرة للحصول على اليورانيوم من دول الاتحاد السوفيتي السابق.
وكيف تحولت هذه الدول وبسبب التغييرات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة بعد انتهاء الشيوعية، إالى المكان المفضل لطالبي مادة اليورانيوم، من دول ومنظمات.
في هذا السياق، يقدم الفيلم مقابلة مؤثرة مع أحد العاملين في معامل الأسلحة النووية في روسيا، والذي تحدث عن محاولات زملاء له لسرقة مواد أولية من أجل بيعها خارج روسيا، لسدّ احتياجاتهم البسيطة، من دفع إيجار المنازل التي يعيشون بها أو إرسال أبنائهم إلى المدارس.

بعد سيناريو “الأسلحة النووية بأيدي الإرهابيين”، تنتقل المخرجة إلى آخر لا يقل خطورة، عن الأخطاء البشرية والتي يمكن أن تؤدي إلى تفجيرات نووية وتقتل مئات الملايين من البشر.
تعيد المخرجة في هذا الجزء من الفيلم التذكير بعشرات الحوادث التي حدثت في السنوات الخمسين الأخيرة، والتي تم إحاطتها وتأثيراتها بسرية كبيرة.
كذلك يكشف الفيلم “الإستراتيجية العسكرية” التي تسير عليها المؤسستين النوويتين الأمريكية والروسية.
فالدولتان التي توجهان منذ عقود ما يقارب 1500 صاروخ محمل برؤوس نووية إلى بعضهما، أصدرتا توجيهات، بإطلاق هذه الصواريخ، خلال عشرين دقيقة من تعرضها لإعتداء من الأخرى.
هذه المعلومات أكدها الرئيسين السابقين الأمريكي “جيمي كارتر” والروسي “ميخائيل غورباتشوف، والذي نجح الفيلم بإستضافتهما، إضافة إلى شخصيات سياسية رفيعة، مثل رئيس الوزراء البريطاني السابق “توني بلير”، والرئيس الباكستاني السابق “برويز مشرف”، إضافة إلى رئيس جمهورية جنوب إفريقيا السابق إف. ديكليرك.
من الحوادث التي نقلها الفيلم عن حرب نووية كادت تنطلق، تلك التي تقترب إلى الكوميديا السوداء من عام 1994، عندما كاد خطأ في الترجمة في المؤسسة العسكرية الروسية أن يؤدي إلى إطلاق مئات الصورايخ النووية على الولايات المتحدة الأمريكية، فالقوات الأمريكية كانت قد أعلمت الروس بأنها تنوي إجراء تجربة نووية قريبة من النرويج.
لكن وفور بدء التجربة اعتقد الجهاز العسكري الخاص بأن البلد يتعرض لحرب نووية من قبل الأمريكيين، ولما تم إيقاظ الرئيس الروسي السابق بوتين من نومه، وإعلامه بالموضوع، وبأن عليهم الرد ضمن العشرين دقيقة القادمة. ردّ بوتين بإحتمالية وجود خطأ ما في الاتصال، وهو ردّ لا ينسجم مع طبيعة الرئيس الروسي المتسرع بالعادة، وعلى حسب مستشاريه، الأمر الذي أنجى العالم من حرب نووية.
الروس ليسوا الوحيدين الذين كانوا قريبين من ارتكاب الأخطاء، فأحد خبراء الأمن القومي الأمريكي السابقين، والذي تحدث في الفيلم، كشف بأن الرقم السري الخاص بإطلاق الصورايخ على روسيا، كان معروفا لجميع من يعمل في منصات إطلاق هذه الصورايخ، وليس على أشخاص محددين، وكما تفترض قوانين الأمن القومي.
الأمر الذي يعني أن هذه الرقم السري كان متاحا للجميع في المراكز العسكرية تلك.
ولأن الدول التي تملك الأسلحة النووية ترفض الحديث بالتفاصيل عن ترساناتها النووية، اعتمد الفيلم الوثائقي على معلومات قدمها خبراء خدموا في تلك الدول.
كذلك استند الفيلم، وبخاصة بمعلوماته عن الأسلحة النووية الكورية الشمالية، على معلومات لأجهزة مخابرات دول غربية، نشرت في السنوات الماضية، وكجزء من الحملة الدولية لمنع دولة كوريا الشمالية من امتلاك الأسلحة النووية.
وفي بحثه عن نموذج سياسي مؤثر، رجع الفيلم إلى بديات عقد الستينات، والجهود التي بذلها الرئيس الأمريكي جون كينيدي، لإزالة الأسلحة النووية.
وركز الفيلم على خطبة شهيرة للرئيس الأمريكي يدعو فيها إلى إنهاء التسلح النووي، وهي الدعوة التي انتهت بمقتله. ليبقى هاجس السلاح النووي يثير دول عديدة، مثل باكستان، التي استعاد الفيلم لقطات أرشيفية للفرح الشعبي في الشوارع وقت إعلان امتلاك البلد المسلم السلاح النووي في نهاية عقد السبعينات، والذي جاء تحديا لسلاح نووي كانت الجارة الهند قد أعلنت عنه قبل أعوام قليلة فقط.
يرسم الفيلم في جزئه الأخير، سيناريو لسقوط قنبلة نووية على مدينة نيويورك الأمريكية؛ مع تعليق صوتي لخبراء عن الأثر المدمر الذي يمكن أن تلحقه قنبلة نووية على مدينة مكتظة بالسكان مثل نيويورك، نشاهد صور ومشاهد للمدينة من احتفالات نهاية العام في ساحة (التايم) الشهيرة هناك.
أريد لتلك المشاهد أن تحمل الذروة التي يمكن أن توصلها لتدمير المدينة ، بفعل قنبلة؛ ستنهي صخب الشارع والمحتفلين السعداء.
تلك الصور سترافق المشاهد إلى نهاية الفيلم ، لتكمل المهمة الأخرى للفيلم، بكشفه عن “هشاشة” سلم العالم، وكيف يمكن أن ينتهي كل شيء خلال دقائق.
لا تبحث أفلام مثل (العد النهائي للصفر) و (حقائق غير مريحة) عن لغة سينمائية متفردة، أو سرد غير تقليدي.
بل تكون بالعادة مشغولة كثيرا بالهدف النهائي الذي تسعى للوصول إليه، من إثارة نقاش مع جمهور واسع، لا يكتفي بمشاهدة الأفلام، بل يشارك في الحملات الإعلامية التي تطلقها هذه الأفلام على شبكة الانترنيت وفي محافل أخرى.
فالفيلمان يوفران مثلا الفرصة للإشتراك في نشاط حول العالم لدعم أهدافها، في محاولة لتعزيز مكانة السينما الوثائقية كصحافة استقصائية مؤثرة ، تثير الأسئلة وتلهم على التغيير.