“فلاهرتي”.. الإنسان الأرضي بمذاق العصر
كمقدمة نافلة يمكن التأكيد على أن السينما الانجليزية لم تستطع خلال سنوات الثلاثينات من القرن المنصرم أن تخلق مدرسة مشابهة للمدرسة الواقعية الشعرية الفرنسية وحسب، بل وظهرت في الأمكنة الأولى في العالم من خلال المنحى التوثيقي الذي خطت عليه ورسمت من خلاله طريقها التعبيري كتيمات منهجية في البحث، وكواقعية في الإنعكاس والإلهام سيغذي لعقود السينمات الوطنية والأجنبية.
أولى الخطوات الناجحة للمدرسة التوثيقية في انجلترا تعود للعام 1929، عندما قررت الإدارة الإمبراطورية للتجارة أن تستخدم السينما بوصفها دعاية لنشاطاتها، وتم استحداث قسم خاص برئاسة “والتر غرايتر” و”جون غريرسون”، وكان مطروحا على هذا القسم أن يظهر نشاطات الإدارة الإمبراطورية بالوسائط السينمائية.
“غرايتر” صوّر فيلم (عائلة واحدة)، والذي لم ينل حظه من النجاح على ما يبدو، بعكس فيلم (قوارب الصيد) – 1929 لـ/ غريرسون الذي ظهر وكأنه خطوة إنتاجية متقدمة في تاريخ السينما البريطانية.
الفيلم ظهر في دور العرض مترافقا مع أولى الأفلام الروائية الناطقة بالرغم من كونه صامتا، وحظي بنجاح كبير.
هذه هي قصة صيادي بحر الشمال، ويومياتهم وصراعاتهم مع الأمواج والعواصف البحرية، وطرق التعامل مع الأسماك والاتجار بها.
ولأول مرة تظهر الشاشات هذه الأعمال، ليس بوصفها أفكارا وتصورات، بل صورا وثائقية حيّة .
التأثير المجتمعي للفيلم لفت انتباه الدوائر الحكومية التي بدأت تقدم الدعم لوحدات التصوير الوثائقي.

وقام “غريرسون” بإحاطة نفسه بمجموعة من الشبان المصورين والمخرجين الموهوبين، والذين ستظل أسماؤهم مرتبطة بتاريخ السينما على الدوام؛ هؤلاء هم “بازيل رايت”، “بول روتا”، “هاري أوم”، “ستيورد ليغ”، “دونالد تايلر”، “إدغار انستي”.. وآخرين.
خرجت هذه المجموعة ببيان أوضحت فيه رؤيتها للسينما والمبادئ التي سينتهجها أعضاؤها في إبداعاتهم الجديدة:” الفيلم الوثائقي بوسعه أن يقدم تصورا واضحا للحياة ، وأن يصل إلى تلك الحلول التي لم تكن مؤثرة فيها “.
يمكن الاعتبار عند هذه النقطة بالذات أن مؤرخي السينما الأوائل كانوا على حق حين رأوا علاقة مباشرة بين طروحات السينمائيين الوثائقيين الانجليز، وإبداعات المخرج الأميركي “روبرت فلاهرتي”.
كما ويمكن إضافة أشياء أكثر من ذلك بهذا الخصوص إلى هذه العلاقة المستترة، ففي ثلاثينات القرن الماضي عمل “فلاهرتي” مع زملائه الانجليز على فيلم (بريطانيا الصناعية) – 1933 – حتى أنه أصبح منذ ذلك الوقت ظاهرة لافتة في السينما العالمية.
“روبرت جوزيف فلاهرتي” مهندس وباحث في الشمال الكندي، وهو قد ربط حياته بالسينما عندما حقق فيلما من أفلام الهواة عن الإسكيمو؛ لكن الشريط احترق وضاع كما ضاعت معه أشياء كثيرة كانت في بال المخرج العبقري.
ويمكن القول إنه منذ عام 1920 ، وفي استمرارية لأكثر من عامين صور بمعدات شركة الأخوين “ريغن” لدباغة الجلود عائلة اسكيمو؛ وقد ظهر هذا الفيلم الكلاسيكي بعنوان ( نانوك رجل الشمال) بوصفه نتاجا عميقا وشافّا للمصاعب المناخية والحياتية التي تهدد حياة الإسكيمو. وقد وصل “فلاهرتي” في هذا الفيلم حدّ الكمال الإبداعي من خلال التكوينات الفوتوغرافية البصرية والأوضاع الدرامية الشاعرية التي صبغت فيلمه وهي تتوالى في اللحظات السعيدة الفرحة التي كانت تظهر في نهارات “نانوك” وعائلته.
وللمرة الأولى يحقق فيلم من هذا النوع سجالا لا يهدأ مستعينا بقوة الخلق الفني للواقع من خلال منهج (المراقبة المستمرة) ويقدم قراءة جديدة لعالم مجهول يخترق الحجب التي يمكن أن تفرضها الحياة بلؤمها المعتاد على أبطالها الواقعيين، وهم يُقبلون على أداء أدوارهم راضين وسعداء.
بعد عدة سنوات، وبنفس الطريقة سيحقق “فلاهرتي” فيلما عن سكان بولينيزيا، وفيلمين آخرين : (موانا) -1926 – ( الظلال البيضاء للبحار الجنوبية ) – 1929 – ، وهما فيلمان شاعريان لا يكتفيان بالصمت عن الإنسان والطبيعة والطقوس التي تنتج عن عمله، وقد صورا دون أن يكون هناك أثر للفضول السياحي فيهما، وهو نوع فرض نفسه على أفلام روائية كثيرة كانت تصور في تلك الفترة.
في هذين الفيلمين سيكون هناك قاسم بينهما هو مراقبة البطل فيهما بالعين الدقيقة للكاميرا دون تعديلات أو رتوش، وبهذا يكون “فلاهرتي” قد وضع بطله في المنظومة المتكاملة للمادة المصورة، وأخذ مكان الممثل في السينما الروائية.
هنا تقدمت شركة “بارامونت” السينمائية العملاقة بعدة مشروعات كي تدفع بـ”فلاهرتي” لأن يقبل أن يصور في أفلامه نجوما هوليوديين في محاولة لإختراق مشروع “فلاهرتي”، ولكنه رفض أن يشارك أبطاله الوثائقيين هذه ( المهزلة الروائية )، وغادر البلاد التي لم يعد بوسعه أن يحقق فيها أفكاره.
وفي مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي قدمت المدرسة الوثائقية الانجليزية كل الإمكانات ليستمر “فلاهرتي” في بحوثه المهمة في مجال سينما التوثيقيّة؛ وهكذا أخذ الجميع من حوله بإبداعاته، وأصبح هو بمثابة ( مغني الإنسان الأرضي) المتوج.
ومن جهته أخذ “جون غريرسون” هو وجماعته على عاتقهم من بعد مبادرات “فلاهرتي” الخلاّقة تطوير المبادئ التي اكتشفها في هذه السينما، واستخدموا المحاولات السابقة للأفانغارد النمساوي والفرنسي في المجالات الحيوية للتكوينات الفنية ، والإيقاع المونتاجي الخاص بهما؛ وقاموا بتحليل الأفلام الكلاسيكية الصامتة من الحقبة السوفياتية، وبالطبع لجأوا في اختياراتهم إلى إبداعات “أيزنشتاين”، و”بودوفكين”، و”فيرتوف”؛ وقد أعادوا مشاهدة هذه القطع الفنية كادرا كادرا بغية ولوج الأعماق الدفينة لها، والتوّصل إلى أسرار المونتاج الجديد الذي جاء به “أيزنشتاين” على وجه الخصوص .
وهكذا انطلقت جماعة “غريرسون” في تقصّ رحب وقصصي نحو شاعرية “فلاهرتي”، ومرت من خلال الإمكانات الفنية على كل المعدات والعدسات السينمائية الخاصة بـ ( الأفانغاردين ) ، ووطأت بقوة وجسارة لا تحد أسرار المونتاج الروسي كما لم يطأه أو يستلهمه ويستشعره أحد من قبل.
يمكن القول إن السينمائيين الوثائقيين الانجليز حملوا عبر نتاجاتهم سعفة شيوخ التجريب السينماتوغرافي الأوائل، وهذا مهم الإشارة إليه، فقد أتاح هذا لهم دراسة كل ما من شأنه زيادة اللغة والتكثيف المهمين في صناعة الأفلام المستقلة.
وهكذا تكشفت في أفلامهم صورا غير عادية، وكادرات تكوينية على غاية من الإبهار والتعقيد، وحلول مونتاجية مباغتة، وحركات كاميرات دينامية لم تعرفها السينما من قبل.
وتوحدت إبداعاتهم مع التكوينات التعبيرية الخصبة لـ “فلاهرتي”، وإيقاعية “روتمان” والإيماءات العاطفية الحادة لـ “دزيغا فيرتوف”.
كما إن أفلامهم لم تنج من الاستعارات الحارّة لـ “بودفكين” في مجال التركيب الفيلمي، والانقلاب المفاهيمي الذي مثله “أيزنشتاين” بقودمه العاصف في أفلامه الثورية.
ولكن لا يمكن تجاهل أن أفلام الوثائقيين الانجليز كانت مختلفة لجهة النوع والشكل، كما إنها كانت تكشف من خلال متابعة تشريحية دقيقة لها إنها كانت مطعمة بنتاجات وعناصر السينما العلمية، والمراقبة الدقيقة الحية لهموم الإنسان المعاصر، وأقوى ما قدمته هذه المدرسة هو شروعها في التفكير الفني الخلاق بخصوص العالم الحديث ومشاكله.

وحتى العام 1933 صوّر “غريرسون” وجماعته حوالي مئة فيلم، ولكن في نفس العام جرى تصفية الإدارة الإمبراطورية للتجارة، وأُحيلت جماعة “غريرسون” إلى وزارة البريد؛ هذه الأوضاع حددت الآفاق الجديدة للسينما الوثائقية الانجليزية في استمرارية فعلية لمدة ست سنوات حققت خلالها أفلاما تظهر نشاطات مختلفة للوزارة؛ وتمكن “غريرسون” عام 1934 من الحصول على استوديو خاص به وآلة لتسجيل الصوت، ما جعله يحدث انقلابا جديدا في السينما الوثائقية في بريطانيا.
هذا الانقلاب تمثّل بظهور أول فيلم وثائقي ناطق لـ “بازيل رايت” الموسوم بـ ( أغنية سيلون ) – 1943 – وهو قد رسم آفاقا واسعة أمام السينما الوثائقية الجديدة، حتى أن بعض المشاهد صورت بهذه الكاميرا المعدة لتسجيل الصوت، وجرى إدخال مؤثرات وأصوات طبيعية، وخلفيات صوتية للجزيرة التي تم التصوير فيها؛ ولم يكن هذا الفيلم سوى رؤية بصرية جديدة يوّحدها نص أدبي من خلف الكادر يقدم وصفا فنيا لسيلون كتبه “روبرت نوكس” عام 1680 . هذا النص المستغرق في شاعرية مدهشة كان ينفجر في ��حلك اللحظات الدرامية، ويقدم توضيحات نثرية ذات طابع اقتصادي يقرأها مذيعين : رجل وامرأة.
هذا الفيلم الذي لا يوجد فيه موضوع أو بطل رئيسي بني في قالب انطباعي يعطي لأول وهلة شعورا مغذى بفضول سياحي بصري في الحياة اليومية لسكان هذه الجزيرة، وقد يُعدّ هذا من مآخذ السينمائيين الوثائقيين الانجليز عليه.
“بازيل رايت” تمكن من أن “يهندس” هذه المادة البصرية بإيقاعات هارمونية محفزة على الخيال.
هكذا جاء من بعده فيلم ( البريد الليلي ) – 1935 ، وقد حققه بالتعاون مع “هاري أوم”؛ هنا نقع على فيلم ذي بنية عاطفية مدعمة بقصائد من خلف الكادر، أعطته شعورا بالشبع والامتلاء، وكانت غير معهودة في فيلم من هذا النوع يحكي عن عمال البريد في القطارات الليلية.
ينتهي الفيلم بلقطات عامة للقطار المقترب بغموض من جوف الليل؛ البريد يتم توزيعه بعد أن يهدأ صخب العجلات الحديدية.. الأصوات الشاعرية للناس تشكل ثروة مهمة في العمل، فعبر التوظيف الدرامي المتقن نجدهم لا يشكون أبدا إن ثمة أخبارا ستنهال عليهم من الأقارب والأحباء والفيلم كان يتابع هذا الشغف الإنساني بمذاق العصر الذي يعيشون فيه.
وبحسب “فلاهرتي”، فإن الوثائقيين الانجليز بحثوا عن تأويلات للمعنى الوثائقي في أفلام من هذا النوع دون أن يغضوا الطرف عن أهمية التغطية المادية لأفلامهم، حتى أن الكثير من الجهات الخيرية قامت بتمويل بعض أفضل أعمال هذه المرحلة مثل : (مشكلة سكنية) و (غذاء كاف) لمجموعة مخرجين تولى “بول روتا” قيادتهم فنيا بين عامي 1935- 1936، وهكذا ظهرت على الشاشة مشاكل اللندنيين وهمومهم التي لا تعد ولاتحصى، وظهر واضحا أن المخرج لم يقد نحو كشف وتعليق جذور الظاهرة فحسب، وهو ما دفع السينمائيين الانجليز مرارا إلى إعادة قراءاتهم للمشاكل الاجتماعية المستعصية، وقد أصبحت هذه القراءة سمة إيجابية في تطور السينما الوثائقية نفسها.
في نهاية الثلاثينيات كانت الأفلام الوثائقية الانجليزية تصور من دون سيناريوهات ولكن من خلال مخطط معدّ سلفا يحدد توجهات واهتمامات مخرجيها، وهو يعتمد في بنيته الأساسية على مراقبة الحياة والوقائع اليومية بتصوير مادة وثائقية ضخمة يجري تقطيعها وإعادة تركيبها على طاولة المونتاج.
وقد أخذ إنتاج الأفلام الوثائقية ينمو بشكل مضطرد خلال عام 1937 من خلال فرقة خاصة قادها “غريرسون” بنفسه؛ وأصبح تحقيق الأفلام الوثائقية يقوم على سيناريوهات مكتوبة عن أناس يلعبون أدوارهم في أوضاع تقترح عليهم، أو ينهون أفعالهم الطقوسية أمام الكاميرا ما دفع إلى توسيع دائرة الممثلين الذين يرتبطون بالأبطال الوثائقيين.
ومن خلال هذه الرؤيا قام “هاري أوم” بتحقيق فيلم (بحر الشمال)، وهو الذي عبّد الطريق أمام السينمائيين الوثائقيين الجدد ليقدموا أفلامهم بهذه الطريقة.
وجاء فيلم (قوارب الصيد) لـ/ غريرسون ليقدم الصيادين ليس فقط من خلال تأدية أعمالهم، بل وفي التغلغل في الأوساط العائلية التي يعيشون فيها؛ في الفيلم ثمة موضوع لا يمكن له أن يتحقق فقط من خلال السينما الوثائقية، وهذا دفع بظهور سينما جديدة هي الدراما الوثائقية، والتي أخذت تحتل مكانا رئيسا في المدرسة السينماتوغرافية الانجليزية خلال سنوات الحرب. وجاءت مشاهدة هذه الأفلام لتغطي واحدة من أكبر وأهم الحركات السينمائية في أوروبا بعد الحرب : الواقعية الإيطالية الجديدة.
ويمكن الباحث المختص في أسرار هذا الغطاء أن يلحظ إن العلاقة بين السينما الإيطالية بعد الحرب الثانية، والسينما الوثائقية الإنجليزية لم تكن مباشرة، ولكن سرعة البحث والإستقصاء في أعمال الوثائقيين الإنجليز تمكّن العبور نحو صدى عميق وساكن في أفلام هذه الواقعية الجديدة، وهو ما جهّز القاعدة الفنية والنظرية ليخطو عليها سينمائيو أوروبا الجدد بعد أقل من ثلاثة عقود مضت على ظهور أفلام “غريرسون”، و”روتا ورايت”، و”هاري أوم” و”آرثر ألتون”، و”جون تاكير” مذكرة إن عالم الفن الجديد لا يخلو من تأثيرات السينما الوثائقية في يومنا هذا، وهو يرتبط بالأجيال السابقة على أبطال هذه السينما الذين حملوا على أكتافهم صلبان التوثيق وشاعرية الأزمنة التي يعيشون فيها بمذاق العصر وهو أهم ما يتوفر لمخرج وثائقي في حياته المهنية، ومضوا غير مبالين بالأوجاع والآلام والعواصف التي تعترض طريقهم.