“قمر في زجاجة” ..

 السماء سقفاً والقمر وسادة إذا قلت “لا” عالية بجرأة

“أبداً لا يفوت الأوان”.. بهذا الأمل يحيا أولئك الذين يتخذون من السماء سقفاً، ومن القمر وسادة.
 إن هدفهم في الحياة هو أن يقولوا “لا” كبيرة عالية بجرأة.. ففي رأيهم إما أن يقول الإنسان “لا” وعندئذ يتطهر، أو يتلقى هو هذه الـ “لا”.

تُرى إلى أي الفريقين ينتمي كل منا؟ وإذا كنا ضمن الفريق الأول فكم مرة في العمر قلنا “لا” كبيرة؟.. ما يحدث في عدد من البلدان العربية المشتعلة بثورات شعوبها أعاد إليَّ ذلك التساؤل، وذلك الفيلم الإسباني “قمر في زجاجة” للمخرج “إدوارد جروخو” الذي يدور محوره حول كثير من الترنيمات الكونية، وماهيات الوجود.  

في بداية أحداث الشريط السينمائي يعجز أحد كتاب الرواية المشهورين عن تأليف روايته الجديدة التي وعد بها القراء، عندئذ يُصيبه الإكتئاب ويلتحق بمصحة نفسية؛ تفشل كل محاولاته في معاودة الكتابة، مع ذلك يُطمئنه الناشر الخاص به بوجود “كاتب من الباطن”، مؤلف شاب، موهوب، وكتوم يوافق دائماً على الكتابة من أجل الآخرين على أمل أن يقوم ذلك الناشر بطباعة روايته التي ستحمل اسمه هو “زيتا” بعد ثلاثة سنوات. 

يبدأ “زيتا” ـ الكاتب الشبحي ـ في البحث عن شيء يمنحه إلهام السرد، يتردد على ملهى ـ “منتدى ليلي” ـ مسكون بمجموعة من الشخصيات المثيرة، المتنوعة تتوق إلى الماضي، يجمعها الإحساس بالوحدة، والحرمان من الحب؛ إنهم أكثر وحشة من القمر، هم أناس لم يُحققوا ما كانوا يرغبون في تحقيقه فأصبحت الشكوك تُساورهم حول ماهية تلك الحياة.. هل حقاً الحياة ليست إلا مجرد متعة زائفة؟ ليست إلا خداعا وسراب سعياً وراء أحلام لن تتحقق لأن الأحلام ليست إلا أحلام؟ ..ذلك ما كان يعتقده عدد من أبطال العمل حتى وقت قريب، قبل أن يكتشفوا أنه لازالت هناك فرصة ثانية قادرة على تقديم نفسها إليهم، قبل أن يكتشفوا أنهم كانوا في حاجة إلى الإيمان فقط بوجود مثل تلك الفرصة.  

أبطال الفيلم الذين أصبحوا شخوص رواية “زيتا” هم: الفتاة الصينية العرافة التي اعتدى عليها مجموعة من الشباب الفاسدين لكنها رفضت التخلص من الجنين وأصرت على الإحتفاظ به؛ و”إليزا” الفتاة الشابة التي تعمل كنادلة في “نادي ليلي” والتي وقفت يوم زفافها بجوار خطيبها أمام القسيس الذي أخذ يتلو مراسم الزفاف، لكنه عندما يسألها هل توافقين على الزواج من هذا الرجل تُجيب: “لا ” ملتفتة إلى الحضور ومشيرة إلى إحدى الفتيات قائلة: فلتتزوجه هي، لأنها هي التي كانت تُضاجعه؛ ثم شخصية صانع الأحذية الذي أدمن الكحول بعد إفتراقه عن حبيبته، مما جعل صاحب المصنع يُهدده بالطرد فقرر أن يستقيل هو بكرامته..

 إنه قال “لا” يوماً ما، مع ذلك فقد تحوّل إلى أسير مرضه رافضا مراجعة المستشفى خوفاً من الموت، مؤكداً أن أخطاء الأطباء تنتهي في توابيت، إلى جانب ذلك تُوجد شخصية “البروفسور” الكيميائي الذي كان مهووساً بتحليل ألوان الكون.

 تُرى في أي لون نرى الكون؟ في لون أحمر مختلط بخط أزرق رفيع؟ أم أنه “بيج ” مثلما يراه البروفسور؟ ..ربما تفاؤل ذلك البروفسور وإحساسه بالكون هو ما جذب إليه تلك المرأة العجوز المتفائلة المنقبة عن البهجة والحب حتى بعد أن ولى شبابها وإنزوى جمالها.

إلى جانب ذلك هناك الفرقة الموسيقية الغجرية التي يدعي قائدها المتوحد مع الكون أنهم عبروا المحيط “بالأكورديون” سباحة ومن خلفهم بغلهم المثير للضحك والمحمل بالمعاني الرمزية؛ هذا الرجل الغجري لا يمتلك مالاً لتناول طعامه فيجعله مدير الملهى يرسم مقابل الحصول على الخبز، وعندما يأتي الليل يرقد إلى جوار الكنيسة قائلاً : “ربما يتذكرنا الرب.. فالحياة تتغير على حين غرة.. ربما تتحول أحياناً إلى الأسوأ.. لكن أملنا في المدينة الكونية الفاضلة.. فيها يمكننا أن نمتطي القمر؛ إنه أشبه بمحاولة وضع القمر في زجاجة.. هل يبدو ذلك أمراً مستحيلاً، وجنوناً؟ ولماذا لا نعتبره شجاعة؟” 

أما “باسكال” مدير “النادي الليلي” فكان يعمل “بلياتشو” في السيرك الروسي، إلى جانب رفع الأثقال الحديدية.

 مثّل “باسكال” على خشبة المسرح دوراً لمرة واحدة فقط في حياته، كان أحد أفراد فرقته الثلاثية مع المغنية “إيريني”، وعازف البيان “كورت”؛ وقع كلا الرجلين في غرام “إريني” وتنافسا على قلبها لكنها أحبت الإثنين معاً.. عندما هُدم المسرح التاريخي الكبير بعد مائتي عام من إقامته انحلت الفرقة إذ قرر “كورت” و”إيريني” الرحيل في حين رفض “باسكال” ذلك مُصراً على البقاء. 

لكن اليوم بعد أن أعلن المسئولون عن قرارهم بوضع تمثال لبيضة ضخمة في نفس مكان المسرح الذي هُدم، وعن إصرارهم برفض بناء مسرح جديد بدلاً منه، يُقرر رفيقا “باسكال” العودة مُجدداً من أجل قول “لا” عالية وجريئة.

فكر “كورت” في طريقة ثورية فعالة يقول بها هذه الـ”لا”. أخذ على مدار أيام طويلة يُجرب إنتاج خلطة لأحد أنواع الصمغ الذي يلتصق بالأشياء فلا يُمكن فكه؛ كانت خطته أن يذهب إلى مكان التمثال وعندما يرفعوا عنه الستار يُغرق يديه بالصمغ ويسرع إلى البيضة واضعاً يديه عليها فيلتصق بها ، وكذلك “إيريني” وربما يُشجع ذلك المتظاهرين على دعم الرفيقين. يرفض “باسكال” في البداية الإنضمام إلى صديقيه.  

يُظهر الشعب ردود فعل متفاوتة إزاء تصرف المسئولين، البعض يثور غاضباً محتجاً، البعض الآخر يُبدي عدم إكتراث، ويُحاول المسئولون تهدئة المتظاهرين، وتبرير تصرفهم قائلين: إن البيضة تُمثل العالم، كلنا نعيش تحت قشرتها ودائماً على الحافة.. يُؤكدون أن الأعمال الفنية الحقيقية تمرّ بفترة تكيّف حتى يفهمها الجمهور. 

تُصبح حادثة المسرح هى الشعرة الدقيقة التي بقطعها ينهار حاجز الصمت والاستسلام فتندلع المظاهرات كاشفة بوضوح عن روح المقاومة والقدرة على التضحية.

تنجح محاولة “كورت” ويُطلق الرصاص على “إريني” فتسقط قبل أن تصل إلى التمثال، توهم المسئولون أن الرصاص سيُرهب المتظاهرين، أسقطوا من حساباتهم أن التضحية ستلهب مشاعر المتظاهرين وتُؤجج غضبهم.. تعالت الصرخات تنادي بإسم “إيريني”.

 أخذ المحتجون الواحد تلو الآخر يُمررون دلو الصمغ فيما بينهم يضعون الصمغ على أيديهم، ويتقدمون بخطوات ثابتة ثم يلتصقون بالبيضة الضخمة مما إضطر الشرطة إلى تكسير التمثال حتى يفّكوا أيدي المحتجين عنه. لكن المثير للسخرية هو تصريحات المسئولين عقب ذلك بأن “الفن الحقيقي يجب أن يكون زائلاً “!!. 

ذلك الحادث الرمزي يُصبح محور تبدل كثير من شخصيات الفيلم فيقوم “زيتا” بتحطيم الدرع الذي قيد به نفسه ، بالتمرد على الناشر الذي طالما استغله وخدعه دون أن يُحقق وعده له، ساعده على ذلك مواجهته لنفسه وللضعف الذي أصبح يكتنفه فقد أدرك أن المشكلة لا تكمن في أنه روى قصته وإنتهى الأمر، لكن لأنه أصبح خائفاً من مواجهة القراء، والنقاد، من مواجهة الصفحة البيضاء. كذلك تفعل “إليزا” إذ تتخلى عن إحساسها بأن كل الرجال خونة فتوافق على الارتباط بـ”زيتا”؛ ويتحرر صانع الأحذية من أوهامه فيسأل عن حبيبته ليعرف مصيرها، ثم يذهب إلى الطبيب ليكتشف أن صحته بخير. ويعود “كورت “وباسكال” إلى الملهي للعزف سوياً على “البيان” عرفانا بذكرى “إيريني” التي جمعتهما وتركت روحها في تلك الآلة الموسيقية الساحرة، كذلك تفعل بقية الشخصيات التي لعبت لحظات المواجهة دوراً جوهرياً في تبديل مصائرها، لقد نجحوا في تحقيق حلم وضع “مركب في زجاجة” بنفس القدرة على وضع “القمرفي زجاجة”.  
  
تدور أحداث الفيلم على مدار يومين فقط ، لكننا من خلال “الفلاش باك” ـ العودة للماضي ـ والفلاش فورورد ـ الذهاب للمستقبل ـ نتعرف على كثير من الأحداث التي تسهم في رسم ملامح الشخصيات، وتكشف عن تطورها، وعن العلاقات القائمة بينها.

 أهم ما يميز العمل ذلك الحس الكوميدي الساخر المستمد من التراث الإسباني، ذلك الأداء التلقائي للممثلين، والصوت الجذاب للمغنية، والموسيقى المتنوعة الألحان، وأسلوب المخرج الذي يُؤكد موهبة سينمائية واعدة في أول أفلامه الروائية الطويلة. 

مخرج الفيلم “إدوارد جروخو” من مواليد مدريد، أسبانيا 1971؛ أخرج ثلاثة أفلام قصيرة ـ نالت العديد من الجوائز ـ هى “التسريب ” 1996، “السد والجنينة” 1998، “هذه حجرة الشيطان ” 2001.

 كان “جروخو” في فيلمه “قمر في زجاجة ” يبحث عن الإختلاف، لكنه إختلاف مرتبط بالقديم، فالروح المسيطرة على الشريط الفيلمي تكشف عن تأثره بالسينما الكلاسيكية، عن تعدد مصادره السينمائية سواء من “إنجمار برجمان” أو”فيليني”. رغم ذلك فالفيلم يجب أن يُقرأ كما هو، بشخصيته المستقلة وليس بكم المراجع الموجودة فيه. إن “قمر في زجاجة” يكتسب سحره الفني من شخصيته المتفائلة ومن روح المخرج التي تُشع بهجة، أما تلك المراجع السينمائية فهى تحية إلى هؤلاء المخرجين العظام، كما أنها تكشف عن الذوق الفني للمخرج الشاب.

لم ينف “إدوارد ” ذلك التأثر بالمخرجين الكبار لكنه يُفسر الأمر على نحو آخر قائلاً: “إن كل مخرج عندما يصنع أول أفلامه يُضمنه كل ما يُريد أن يقوله، وكل ما يشعر به، لأنه يعتقد أن ذلك الفيلم سيكون أول وآخر فيلم له.”


إعلان