أفلام وسينما المخرج “راوول رويز” 1من2
دائماً ما استقبلت فرنسا ناشدي حريّة والباحثين عن الإستقرار والثراء الثقافيين من أنحاء العالم خصوصاً من العالم العربي (عمر أميرالاي) وإفريقيا (عثمان سبمان) وأوروبا الشرقية (انتقل إليها رومان بولانسكي بعد سنوات قليلة قضاها في بريطانيا) وأميركا اللاتينية (عودة الإسباني لوي بونويل إليها وهو الذي كان لجأ لها من إسبانيا فرانكو).
“راوول رويز”، الذي توفي عن 70 سنة، حط في باريس سنة 1973 هارباً من حكم الجنرال “أوغوستو بينوشيه” ولم يعد؛ وهو كان أنجز أفلامه الأولى في وطنه الأم بدءاً من «ثلاثة نمور حزينة» سنة 1968.
وُلد في الرابع والعشرين من شهر تموز/ يوليو سنة 1941 جنوبي تشيلي ( في بلدة تُدعى: بويرتو مونت) ودراسته المتخصصة الأولى كانت في مجال القانون لكنه سريعاً ما اختار المسرح وأنجز فيلمه الأول ذاك في وقت كانت أميركا اللاتينية تشهد يموجات جديدة برازيلية وتشيلية ومكسيكية وعنه نال الجائزة الذهبية لمهرجان “كارلو?ي ?اري” عندما كان ذلك المهرجان السويسري متخصص فقط في الأفلام الأولى أو الثانية لمخرجيها (اليوم لا يزال متخصصاً لكنه يعرض أفلاماً كثيرة لمخرجين متمرّسين).
تعامل رويز مع سينمائيين انتموا إلى الموجة التشيلية الحديثة، تلك التي أينعت تحت حكم الرئيس سيلفادور ألليندي اليساري، أمثال ميغويل ليتين وهلفيو سوتو وألدو فرانشيا ومعظمهم هرب من البلاد إثر الإنقلاب اليميني (القضاة والعسكر) في ربيع 1973.
كذلك تعرّف “رويز” على كتّاب لاتينيين ليبراليين من أمثال جورج لويز بورجز وألفونسو راييز وغبريال غارسيا ماركيز.
آخر فيلم تشيلي له كان «يمامة بيضاء صغيرة» في العام ذاته وعلى أثر إتمامه هرب من البلاد قبل أن تطبق عليه القوّات العسكرية كما أطبقت على العديد من المثقّفين في فترة شهدت العديد من حالات التعذيب والتصفية الجسدية لمن ثبت أنه كان موالياً للحكم السابق أو على ميول يسارية أو شيوعية.
“رويز” أدرك أنه من الأولى به أن يهرب فهو كان مستشاراً للحزب الإشتراكي في الحكومة وبعد عامين من الإستقرار في فرنسا أخرج «حوارات في المهجر» ناقلاً فيه تجربته وتجربة تشيليين آخرين لجأووا مثله إلى بلد الحريّة.
بحلول العام 1977 كان قد أصبح نجم سينما الموجة اللاتينية المحتفى به في فرنسا؛ والبعض اعتبره نجم الموجة الفرنسية الجديدة، تلك التي كانت أخذت تتحوّل آنذاك إلى أعمال متوقّعة ومعروفة الإتجاهات الفنية على يدي غودار وريفيت ورومير من بين آخرين.

الفيلم الذي منحه هذا القدر من الإهتمام والإحتفاء هو «حوار الكلاب» الذي أظهر فيه رويز موهبة دمج تقاليد سينمائية فرنسية مع عين جديدة للنظر إلى الموضوع المطروح.
بذلك، هناك الحكاية الشخصية لصعود وهبوط الحياة العاطفية والأخلاقية لبطلة الفيلم، ومستواه وأسلوبه من القواعد السينمائية واختياره من اللقطات وتوالي المشاهد، إنه عن مونيك (سيلكي أوميل) التي تهرب من بلدتها بعدما اكتشفت أن والدتها ليست الأم الحقيقية لها إلى منطقة بورديو حيث تمارس حياة جنسية وعاطفية تتوسّط العلاقات مدفوعة الأجر وتلك المجانية مع شخصيات عابرة في حياتها. هذا إلى أن تتعرّف على شاب يعمل مصلّحاً لأجهزة التلفزيون ينصحها بنبذ حياتها الحاضرة والعودة إلى بلدتها الأولى.
في حين أنه موضوع فرنسي كامل هو أيضاً أسلوب متجدد في فن العرض الذي عرفته السينما الفرنسية جديدة كانت أو كلاسيكية، لكن كتابة هذا الفيلم وتنفيذه يحمل قدراً كبيراً من التأكيد على الحدث وإبراز معانيه حتى من بعد استيفائها.
بعد أن أنجز خمسة أفلام أخرى في عامين، قدّم أحد أهم أعماله إلى اليوم “إفتراضية اللوحة المسروقة”؛ هذا فيلم مركّب وصعب القبول، لكنه من أفضل أفلام رويز كممارسة فعلية لأسلوبه الخاص.
لا نرى الشخص الذي من المفترض به أن ي��ون ضيفاً على جامع لوحات فنيّة بلا إسم لمعاينة ستّة أعمال لرسّام من القرن التاسع عشر علماً بأن جزءاً من الحديث الطويل بينهما (الأول دائماً من خارج الكاميرا) يدور حول لوحة سابعة مسروقة، كل هذه اللوحات، يذكر الفيلم، تنتمي إلى رسّام مجهول من القرن التاسع عشر إسمه “فردريك تونير”، وهو إسم أورده الروائي والمفكر “بيير كلوزوفسكي” في أحد أعماله التي بحث فيها الأعمال الفنية ليس من حيث ما تظهره من معاني تبعاً للمرسوم، بل من حيث ما تظهره من معاني تبعاً لم ما لم يتم رسمه.
فيلم رويز هذا أكثر أهمية مما سبقه، وأكثر صعوبة في استيعاب المنظور الكامل لفلسفته المبينة على البحث في الفارق بين الخيال والواقع، وبين فنون الفن.
كما في نظرية كلوزوفسكي حول ما هو مرئي في اللامرئي يتناول الفيلم الفجوات بين أساليب فنيّة متعددة كما بين الواقع والخيال.
بعد يومين على مشاهدة الفيلم في نيويورك، ضمن عروض المعهد الفرنسي سنة 1987 كتب ناقد ذ نيويورك تايمز مقالة نقدية ساخرة أظهر عجزه فيها عن استيعاب العمل، فوصف طرح الفيلم لموضوعه على أنه من السعة بحيث يمكن أن يتناول “أي نوع من الفن بما في ذلك فن زجاجات الكوكا كولا”، وذكر أن الحديث في اللاموجود (اللوحة السابعة) من الضبابية ما يجعله شبيهاً بـ “تنبؤات الحلوى الصينية” (يقصد الأمنيات المطبوعة في الحلوى التي توزّع في بعض المطاعم الصينية إثر تناول الطعام).
لكن الحقيقة هي أن رويز قد يتفلسف كثيراً على حساب المُشاهد، لكنه يصل إلى مراميه الفنية والفكرية على نحو مدرك حتى حين يحافظ على معالجته الساخرة لما يسرده.
مفتاح أعمال هذا المخرج هو اختياراته من سبل السرد؛ وهو خبر أساليب كثيرة من بعد أفلامه الفرنسية الأولى تلك واجداً المناخ الثقافي الفرنسي عاملاً مشجّعاً، في «التيجان الثلاثة لبحار» (1982) معالجة سوريالية كاملة لحكاية ثلاث شخصيات تعيش بمنأى (رجل وإمرأة وطفلها- أو طفلاً تبنّته، عدم الوضوح مقصود من قبل المخرج)، تبع ذلك بفيلم مختلف السرد عنوانه «قصّة القراصنة» (1983) حول قاتل شاب وبحّار مسن يحكي للأول قصص البحر والمرافيء منتقلاً بين الحقيقة متمثّلة بشخصيات بشرية وأخرى من الأشباح في غمار ذلك، الكثير من مواصفات الفيلم الغامض، طريقة رويز، سمحت للفيلم لأن يكون أوّل أفلام رويز الموزّعة تجارياً خارج فرنسا.
الناتج عن فيلم يشبه حكايات البحّارة في روايات روبرت لويس ستيفنسون، أن رويز قام سنة 1985 بإقتباس واحدة من أشهر روايات ذلك الكاتب وهي «جزيرة الكنز»، أحد أعماله الأكثر خصوصية كونه عرف كيف يحوّل واحدة من كلاسيكيات روايات البحر إلى قصّة سياسية تخص لاجئاً لاتينياً يعود إلى وطنه.
(يتبع )….
الهوامش:ـــــــــ
1. R. Roiz.jpg راوول رويز
2. hypothesis.jpg افتراضيات لوحة مسروقة