“الدكتاتور”..الفصول المظلمة للمسرح السياسي العربي
وأخيراً أتى الزمن الذي نشاهد فيه سقوط الدكتاتوريين العرب وأنظمتهم الاستبدادية. الزمن الذي أصبح بإمكاننا الحديث فيه عن هؤلاء الديكتاتوريين وهذه الأنظمة. وإذا كان بعضهم قد سقط فإن البقية مازالوا يعاندون هذا السقوط مترنحين متشبثين بتلابيب السلطة بكل ما أوتوا من قوة، تلك السلطة التي فصّلوها على مقاسهم ومقاس أبنائهم وأقاربهم وأحبابهم، ولا يتخلون عنها مهما كان الثمن، حتى لو قتلوا نصف الشعب واعتقلوا نصفه الآخر.
وإذ أتى هذا الزمن فإننا بدأنا على الصعيد الإبداعي نرى بوادر التناول السينمائي لهؤلاء الديكتاتوريين، منها الوثائقي الذي شاهدناه قبل نحو أسبوع على قناة الجزيرة بعنوان “الديكتاتور Absolute Power”.

على الحكم
وفيه يتناول مخرجه بالتأمل والتحليل جوانب من حياة كل من أنور السادات وحافظ الأسد وحسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي وصدام حسين وعلي عبد الله صالح. ويوزع المخرج فيلمه على عدد من المواضيع أتت تحت عناوين لا يخلو بعضها من السخرية والتهكم من هؤلاء الديكتاتوريين مثل: “الاستيلاء على السلطة”، “اقتل أعداءك”، “أبو الشعب”، “فلتحبوني”، “الجواسيس والأمن ووزارة الداخلية”، “احترسوا من الديكتاتور الذي يمكن أن يكون ملكاً”، “أشباه الآلهة”، “كن طموحاً”، “تحكم في وسائل الإعلام”.
ويبني الفيلم على مشاهد أرشيفية ومقابلات مع عدد من أهم الخبراء في شؤون الشرق الأوسط مثل د. وليد قزيحة، والصحفي روبيرت فيسك، والكاتب والصحفي باتريك سيل، والدكتور جيرولد بوست عالم النفس السياسي، وشهيرة أمين مراسلة سابقة لشؤون الرئاسة لصالح محطة نايل تي في، وبيتر يورك مؤلف كتاب “بيت الديكتاتور”.
يظهر الفيلم كيف وصل هؤلاء الديكتاتوريين إلى السلطة، يقول الراوي إنهم استولوا على السلطة إما بانقلاب عسكري أو بصدفة خدمتهم. يتحدث روبيرت فيسك عن المستوى التعليمي والثقافي لهؤلاء الديكتاتوريين ويلاحظ أن السواد الأعظم منهم لم يكن حائزاً على درجة جامعية ولم يكونوا مولعين بالقراءة. ليستنتج المشاهد بذلك أنه، بوصفه أحد أبناء هذه الأمة، ابتلى برؤساء جهلة لا يحبون الثقافة ولا المثقفين ولا العلم ولا المتعلمين. هنا نتذكر ما تم الكشف عنه في ليبيا مؤخراً، وهو وجود وزارة لمحاربة المثقفين والمتعلمين وكل الشخصيات المميزة في المجتمع الليبي، وكل ذلك من أجل أن لا يبقى أحد في المجتمع الليبي يمكن أن يكون بديلاً عن القذافي وأبنائه حاكماً لليبيا.
يروي جيرولد بوست الحادثة الشهيرة عن أول اجتماع يعقده صدام مع مائتين من كبار المسؤولين لديه بعد توليه الرئاسة من ابن عمه، والذي نقله التلفزيون العراقي على الهواء مباشرة. وكان صدام يريد أن يتخلص من واحد وعشرين منهم فاختار أحدهم واعتقله كما اعتقل أفراد أسرته وقال له “أريدك أن تعترف بأنك تحيك مؤامرة ضدي… إذا لم تعترف بذلك على رؤوس الأشهاد فإنك وأفراد أسرتك ستعذبون وتعدمون”، وما كان من المسؤول إلا أن “اعترف” بـ “المؤامرة” مع أن الجميع يعرفون أنه لم تكن هناك أية مؤامرة.

هذه حادثة حقيقية لكن يخيّل للمرء أنه أمام مشهد من إحدى مسرحيات شكسبير (لعلها “ريتشارد الثالث”)؛ حيث “النفاق” سيد الموقف وسط الدسائس والمؤامرات والاعترافات. فمن الواضح أن المسؤول الذي يدلي بالاعتراف كان يعتصر مخيلته كي يبتدع اعترافاً بجريمة لم يرتكبها، وليس لها وجود في الأساس. اعتراف قد يودي به إلى حبل المشنقة لكنه يقدم عليه أملاً بأن يصفح عنه “السيد الرئيس”. هذه المسرحية التي ألفها وأخرجها صدام مقتبساً شكسبير ومستلهماً ستالين وهتلر كان هدفها استمالة هؤلاء المسؤولين الذين شكرهم، وكمكافأة لهم أمرهم بتشكيل واحد وعشرين فرقة إعدام مهمتها التخلص من أعداء النظام “وبالتالي فقد جعل أولئك الأشخاص شركاء له فيما يفعل”. يعلق روبيرت فيسك بأن صدام كان أقسى أولئك الحكام، فقد أدار حكومته بالإرهاب.
يبحث الفيلم في آليات تشكُّل الديكتاتور، أي تحوله من حاكم عادي إلى ديكتاتور، فعبر التملق الذي تضخه جوقة المتملقين الذين يُسمِعون الحاكم ما يحب سماعه لا ما يجب سماعه يبدأ الحاكم بتصديق نفسه أنه على صواب وأن شعبه يحبه. لكن لا بد للحاكم أن يتحقق من ذلك، وأن يعرف ما يفعله المحكومون في كل الأوقات، وهنا يأتي دور أجهزة المخابرات والجواسيس. وهنا سيكون على كل شخص في الدولة الديكتاتورية أن يتجسس على غيره. ينقل روبيرت فيسك أن نحو ثمانين في المئة من الشعب التونسي كانوا يعملون لدى أجهزة مخابرات زين العابدين بن علي. لكن كل ذلك لم يمنع من قيام الثورة والإطاحة بالرئيس بن علي.
في الدولة الديكتاتورية تنحصر مهمة وزارة الداخلية وأجهزة الأمن بالحفاظ على كرسي الرئاسة وفق ما يرى روبيرت فيسك. وفي ليبيا، يقول جيرولد بوست، كان نحو عشرين في المئة مما يسمى بـ “اللجان الشعبية” يكرسون أنفسهم للتجسس على المواطنين لحساب القذافي. وبالتالي لم يعد الجار يثق بجاره ولم يعد الصديق يثق بصديقه. بعد قمع المنشقين يصبح جميع أفراد الحاشية مخبرين لدى الزعيم المتسلط، وبذلك يوشك المتسلط أن يصبح جاهلاً بحقيقة الأمور بسبب عزلته عن الشعب. وبالطبع نرى مثل هذا الجهل في كل مرة يخرج علينا أحد هؤلاء المتسلطين متحدثاً عما يجري في بلده، لنستنتج أنه لا يسمع إلا لمخبريه ومتملقيه ولا يشاهد إلا تلفزيون بلده وبالتالي يبقى منسلخاً عن الواقع الحقيقي.

ينهي المخرج فيلمه بمقطع صوتي لجيرالد بوست يصلح أن يكون نصيحة ووصية للشعوب التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية، يقول بوست: “من أهم الأمور المتعلقة بسيرة الحكام الديكتاتوريين معرفة من منهم يندرج في الفئة ولا يلتفت عندما ترتكب الجرائم، ومن منهم تحوّل نظره عن الشر فيكون في الواقع شريكاً فيه… إذا رأينا أفراداً نستطيع أن نفهم شخصيتهم وندرك أن لديهم من الصفات ما يجعلهم من ذلك النوع من الناس فعلينا أن لا نعزز حبهم لأنفسهم وإعجابهم بها وحلمهم بالعظمة لأننا إن فعلنا فقد نمهد السبيل لظهور وحش كاسر”. وفي الحقيقة هذا ما حدث بالضبط في بلداننا العربية.
حقق المخرج إذاً فيلماً مهماً عن الديكتاتور والسلطة المطلقة، لكن غابت عنه مسألة في غاية الأهمية تتمثل في المقارنة بين الديكتاتوريين السابقين الذين ابتلى بهم عدد من شعوب العالم في أربعينات وخمسينات وستينات القرن العشرين مع الديكتاتوريين الذين ابتلت بهم الأمة العربية خلال العقود الأخيرة. ولعل أهم فارق بين ذاك النمط وهذا النمط أن الديكتاتوريين السابقين لم يكونوا لصوصاً على غرار الدكتاتوريين العرب، فأولئك أقاموا أنظمتهم الديكتاتورية وسلطاتهم الاستبدادية دون أن يلتفتوا لجمع الثروات ونهب الأوطان كما فعل نظراؤهم العرب الذين اعتبروا هذه الأوطان ملكية شخصية لهم ولأبنائهم وأقاربهم وأحبابهم.